دمشق – سلوى زكزك
تتصل بي ابتسام، وتقول بصوت يمزج بين الألم والتعب والرجاء: “عمتي بحاجة إلى مأوى للعجزة، بالأمس وقعت وكُسر عنق الفخذ والعملية الجراحية مستحيلة وغير آمنة ولا تفيد وضعها الصحي بشيء، وهي بحاجة ماسة للعناية”, وتضيف: “عمتي بلا أبناء وهي متقدمة في العمر وأنا الوحيدة من أقاربها وتعرفين أنني لم أشف بعد من آثار عملية تبديل أحد صمامات قلبي”.
لا إجابات بالموافقة عندما تتصل على رقم هاتفي محدد لأحد دور الرعاية التي توضح بإعلاناتها عن حجم وطبيعة الخدمات التي تقدمها، كل المراكز تتنصل من الموافقة، كل الردود تتعذر بعدم وجود أمكنة فارغة وبعدم وجود خدمات طبية مرافقة للعجزة المرضى والمحتاجين لعناية طبية يومية حثيثة، لا أحد يقدم لك وعداً أو يوافق على تسجيل المريضة أو الوحيدة في سجل ينظم التواريخ المحتملة لاستقبالها، والوضع ملح وأكثر من حالة طارئة مؤقتة.
الحرب ليست المسؤولة الوحيدة عن زيادة عدد الأشخاص المحتاجات والمحتاجين للرعاية والعناية في مراكز مخصصة، لسببين مهمين وبالغي الوضوح، أولهما هو الصورة النمطية في التفكير المجتمعي بما يخص هذه الشريحة التي تتوسع بازدياد والحرب هنا تضيف بعداً دراماتيكيا على أحوالهم/هن، حيث يرى المجتمع أن هذه الشريحة هي من مسؤولية العائلة حصراً، مسؤولية ترهق جميع الأطراف وخاصة الفئة الأكثر مسؤولية، مثل ابنة لم تتزوج أو مطلقة أو أرملة أو زوجة الابن، وفي حالات الإعاقة المبكرة يكون العبء الأكبر على الأم، خاصة في حالة وجود أبناء قد ولدوا معاقين أو معاقات أوفي حال تعرضهم/هن لحوادث مرضية تعيق حركتهم وترمي بهم بوضع العجز الدائمة، وغالباً ما يتم توصيف الفئات المستنكفة عن خدمة ذويها وخاصة الأبناء بالعقوق وقلة الأخلاق، ويشكل إلحاق أحد الوالدين دار الرعاية أو مأوى العجزة كما يصطلح على تسميته شعبياً، وصمة عار تلحق بالأبناء أو الأخوة .
أما الوجه الآخر للأزمة، فهو غياب بند أو مهمة أو واجب ضرورة تأمين مراكز ودور خاصة لرعاية المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة في أي خطة أو دراسة أو توجه للحكومة أو المجتمع المدني أو الأهلي مثل الجمعيات الخيرية، ولابد هنا من ذكر بعض المراكز قليلة العدد والتي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة والمعنية بهذا المسار، وتبدو الغالبية رغم شحها أصلاً، هي المراكز التي تتبع الكنائس والمبرات، وبعضها مشاد ومبني ومدار من قبل أشخاص. وهنا يبدو الفرق شاسعاً في الخدمات وفي الأهداف، وأهم تناقض هو حجم الخدمات المتغير بحجم الدفع.
لا ننكر وجود بعض المراكز المجانية القليلة، لكنها لا تغطي احتياجات نسبة ضئيلة جداً بحيث تحرم الكثيرات /ين من استحقاقهم لهذه الخدمة ليس قصداً أو تمييزاً، وإنما من باب نقص المتوفر المتاح أصلاً، مكاناً وخدمة وعاملين وتمويلاً وتكاليف ونقص في الخطط والأهداف.
أذكر ذات صباح كيف وصلت نساء قليلات العدد إلى أحد الأديرة هاربات من دير في أماكن هجمت عليها داعش، امرأة عمياء لكنها شابة بصوت رخيم يدفعك للبكاء وهي تتلو السلام عليك يا مريم، وفتاة عشرينية مصابة بمتلازمة داون وسيدتان مريضتان وخائرتا القوى، منهكتان وحيدتان ولم تتزوجا أو ترزقا بأطفال.
اللافت للنظر هو ليس عدم توافر الأمكنة الكافية فقط بل ارتفاع قيمة هذه الخدمة بحيث تفوق المائة ألف شهرياً للشخص الواحد في بعض الأمكنة وخاصة لمن ي/تحتاج لخدمة طبية ملازمة ودائمة وخاصة المتقدمين في العمر أو ممن تجرى لهم/ن عمليات جراحية كبيرة مثل تبديل المفصل أو القلب المفتوح، عدا عن سعر الأدوية وباقي التكاليف الطبية المطلوبة.
بعد وفاة زوجها باعت منزلها ووضعت ثمنه في المصرف ولجأت إلى مركز لرعاية المسنين, لديها ثلاثة أبناء، لكنهم أصحاب عمل طويل ولديهم أطفال صغار بحاجة ماسة للعناية والمتابعة، تدفع شهرياً أكثر من مائة ألف رغم أنها لا تحتاج عناية طبية ملحة، لكنها تخشى الوحدة، عدا عن أن المركز يقدم لها صحبة مميزة من سيدات يماثلنها في العمر، كما يقدم المركز نشاطات ترفيهية ونشاطات مسلية وتشاركية، والأهم أن باب الزيارة مفتوح في أي وقت وببساطة تستقبل أبناءها وزوارها وكما أنها في بيتها، ويمكنها الخروج ساعة تشاء ويقدم لها ثلاث وجبات يومياً مع التنظيف للغرفة وغسل الملابس. تقول أنجيل بأنها سعيدة بهذا القرار وكأنما لم يتغير عليها شيء سوى عنوان البيت الجديد وعدد الغرف.
ما بين الحاجة الماسة لزيادة كبيرة في عدد دور الإيواء والرعاية المطلوبة وما بين الحاجة التي طرأت في زمن الحرب والتي رمت بنساء ورجال كثر في مهاوي التشرد بعد شاسع يستلزم عناية خاصة بالمهجرين والمهجرات، كمثل حال السيدة وفاء التي فقدت بيتها كاملاً وها هي تتوزع أيام الأسبوع في ضيافة أبنائها بمعدل يومين عند كل ابن ويوم الجمعة في بيت شقيقها المتقدم في العمر هو وزوجته المسنة أيضاً، تقول السيدة وفاء بأنها تشعر باللا انتماء لأي مكان، وكأنها مجرد ضيفة ثقيلة الظل في البيوت الأربعة المذكورة والجميع عاجز عن تأمين بدل الإقامة لها في مركز أو مأوى دائم.
تعصف الحرب بحيوات البشر وتفاقم من حالة تشردهن/م، وفي الوقت عينه ترفع الغطاء عن أفكار مجتمعية نمطية تتحول من حالة الرفض حيال فكرة دور المسنين ومراكز الإيواء إلى قبول شبه مطلق، لكنه يحتاج الكثير ليصبح حلاً أو أحد الحلول البديلة لواقع المسننين المزري، يحتاج الإرادة والتخطيط والموارد وقبل كل شيء القرار والاعتراف بهذه الحاجة الماسة والمتفاقمة.
خاص “شبكة المرأة السورية”