محمد دحنون
هنّ قلّة: ولكن ذاك النوع من القلّة التي لا يمكن لـ “كمّها” أن يبرّر تجاهلها. هنّ قلّة: ولكن، مزدحمات برغبتهن في إيجاد مكان ودور في ثورة الشعب السوري، وفي قلب المواجهة العنيفة التي فرضها “نظام التشبيح” على الثوّار. لهذا السبب، وضعت كلّ واحدة منهن نفسها أمام مسؤوليتها كمشاركة في الثوّرة، لم تأبه لظروف عملها القاسيّة والخطرة، أملت عليها أمور كثيرة لا تبدأ بواجب أخلاقي ومهني ولا تنتهي بواجب ثوّري أن تقوم بهذا الدور: ممرضة في مشفى ميداني!
تمّ احتضانهن في مجتمعات الثوّرة الأهليّة، التي لم تكن “المواقف المسبقة” منها تسمح بفهم طبيعة موقفها من المرأة. وفي ظروف عمل قاسية، تفتقر إلى الحد الأدنى من الإعداد التقني الجيّد، هذا فضلاً عن الأخطار الكبيرة التي واجهنها، أقدمن على التجربة. تروي اثنتين منهما تجربتها في العمل بمشفى ميداني.
المشفى الميداني: علبة إسعاف منزليّة!
تتحدّث ميساء. ص، إحدى الممرضات اللواتي انخرطن مبكراً في العمل بمشفى ميداني، عن تجربتها. تبدأ حديثها بوصف واقع المشافي الميدانيّة التي يتم فيها علاج المصابين، فهي، بحسب ميسا “لا ترقى بمستواها التقني وأدواتها المتواضعة إلى مستوى المشفى الميداني الحقيقي”. وتتابع” بل إنّ المشافي الميدانيّة، في الأماكن التي عملت بها على الأقل، أقرب لأن تكون علبة إسعاف منزليّة، وبالأخص في ريف دمشق”. من جهتها، تعتبر مها العمري (اسم مستعار) أنّ المشافي الميدانيّة التي ارتجلها أطباء وممرضون وممرضات شجعان قد تمّ تنفيذها على عجل”، وتتابع “ولهذا كان من الطبيعي أن تكون التجهيزات على مستوى كبير من التواضع”. ما كان يمنع تطوير المشافي الميدانيّة في بؤر الثوّرة الكثيرة هو النظام بالطبع؛ تشرح ميسا “الظروف الأمنيّة وسيطرة الجيش كانت تحول دون قدرة العاملين بالمجال الطبي على إعداد مكان مجهز بكافة احتياجات المشفى الميداني الذي يستطيع علاج كافة الإصابات الخفيفة والمتوسطة”. وتضيف”معظم العاملين بإسعاف المصابين مهددين بالقتل مباشرة، وعملهم كان يتمّ إما في المنازل وأحيانا في الحارات الضيقة أوالبساتين، في شروط لا توّفر الحد الأدنى من مستويات التعقيم أوالبيئة الصحيّة والنظيفة التي يحتاج إليها المعالج ليحمي الجرح من الإنتان”.
تتكرر مها ما قالت له ميسا، وتؤكدّ على أنّ غياب التعقيم، الأمر الذي “يُعتبر أساسيّاً في عملنا، كان هاجسي الأوّل في بدايّة العمل، وسبّب غيابه الكثير من الصعوبات والإرباك”.
لم يُتح للناشطين العاملين في المجال الإسعافي أن يطوّروا أماكن عملهم، وإن تفاوت الأمر نسبيّاً بين منطقة وأخرى، حيث تلعب درجة “تحرّر” البلدة أو المدينة من قوّات النظام دوراً في ذلك. تقول ميساء”كل المحاولات لتأمين مكان مجهز بأدوات ومواد وأدويّة طبيّة كانت تفشل نتيجة اكتشاف الأمن للأماكن ومداهمتها وسرقها واعتقال القائمين عليها. والظروف مستحيلة لتحقيق حالة مشفى ميداني متنقل (سيارة مثلاً) نتيجة التفتيش والحواجز”.
وفي الحديث عن أبرز الصعوبات التي واجهتها كلاً من الممرضتين خلال تجربتهما، تكتفي مها بالقول” في الحقيقة، كان كلّ شيء صعباً”، تبتسم ثم تضيف” ولا أقصد بهذا الكلام القول أنّي متعبة أو أي شيء من هذا القبيل. ولكن (عن جد: كل شي كان صعب!)”. أما بالنسبة لميسا التي لم تتح لها تجربة العمل في “المدن المحرّرة” فتقول “أصعب ما كنا نواجهه هو الدخول إلى الأماكن التي تتواجد فيها الإصابات. لا نملك سيارة خاصة. ولا نعرف الطرقات الفرعية لكل مكان، ثمّ كان هنالك انقطاع الاتصالات في المناطق الثائرة وسوء التنسيق أيضاً”.
معنى التجربة: كثافة إنسانيّة.. وثوريّة!
تصف مها العمري الجزء المتعلّق باللحظات والمواقف الإنسانيّة بأنّه الجانب الذي تهتم به أكثر في تجربتها، فهي تقوم بتدوين تلك المواقف واللحظات كمذكرات يوميّة. وتقول “بصراحة، لا أحبّ الحديث كثيراً عن تلك اللحظات والمواقف”، تضحك ثم تتابع” ربما في الأمر شيئاً من الأنانيّة، ولكن الأمر يتعلق بدرجة عاليّة من الحميميّة والخصوصيّة التي تمنعني من روايتها دون أن أبكي!”. تتوقف مها عن الحديث، ثمّ تتابع” أريد أن أقول شيئاً واحداً، أن تلك المواقف الإنسانيّة المؤثرة التي تختلط فيها مشاعر الألم والحزن والفرح والدهشة تمنحني الطاقة للاستمرار بهذه التجربة”.
أمّا بالنسبة لميساء فتروي ما تصفه بأنّه أشد موقف إنساني أثّر بها ولا يزال، تقول”عندما وقعت مجزرة القابون الأولى، كان ثمّة شاب عمره 21 عاماً قد أصيب برصاصة في الصدر.كنت أضمد له الجرح، وكان يضحك عندما يتألم. سألته : هل كنتم تحملون سلاحاً؟ فأجاب: نعم. بالطبع أنا فوجئت. فضحك الشاب وقال لي (كان معنا بصل مشان الغاز المسيل للدموع بس طلع إنّه ما بينفع البصل مع الرصاص)وضحك”، تتابع ميسا قصتها مع الشاب” ثمّ سألني:(يعني شو بقدر أطلع الجمعة الجاي؟) أجبته: طبعاً لا. فتدخلت أمه وقالت (هناك رصاصة قديمة في رجله منقدر نعملا شي؟)، فرد وليد ضاحكاً:(انسي هي صرلا شهر)” . تختم ميسا روايتها عن”علمت لاحقاً أن وليد أحتاج إلى خمسة رصاصات ليستشهد، وليقتل النظام فيه إصراره على العودة إلى الشارع. لكن صوت أمه ما زال ببالي حين قالت: (أي لكن شو مفكر الحرية ببلاش؟!)”.
تتحدّث ميساء عن لحظات خوفها خلال العمل، تقول”في كل مرة أتوجه بها إلى مكان لعلاج مصاب، كنت أشعر أن الخطر كبير، ومن الممكن أن أتأذى أو أعتقل، فلا شيء آمن وما من ضمانة بأنك ستعود سالماً. فقد صدف أن حدثت مداهمات وأنا داخل المنازل أقوم بعلاج المصابين. الأهالي كانوا يخافون على الغريب القادم من خارج المنطقة كثيراً، وكانوا يشعرون أنهم معنيون بإعادته سالماً”…..
تنقلنا ملاحظة ميساء الأخيرة للحديث عن نمط التعامل الذي اعتمده أهالي المناطق الثائرة مع الممرضات. تقول مها” لم يبدر عنهم إلاّ كلّ ما يمكن أن يشعرني أنّني بين أهلي. كنت أشعر أنّي أعرفهم منذ أعوام كثيرة. ربما سهّل هذا الأمر عليّ الكثير”. أما ميسا فتقول” لم أشعر بأيّة تمييز. على العكس، كان أهالي المناطق الثائرة ينظرون لنا كمن يقوم بعمل بطولي، وكانوا يقدّرون عاليّا عملي”، تضيف ” أنا لا أضع حجاباً. وفي إحدى المرّات طلب مني أحدهم أن أرتديه لأذهب إلى إحدى المناطق، وعندما وصلت لأتفحص الإصابات، لاحظ البعض أنني غير قادرة على تحمل الحجاب، ففوجئوا من امتثالي لطلب الشاب، وطلبوا مني ألا أكرر ذلك. وقالوا لي أن الشاب الذي طلب منك ذلك طلب هذا بشكل فردي، ولك أن تتصرفي بكامل حريّتك”.
تتابع ممرضات سوريا الثائرة، لاسيّما في المناطق المنتفضة كليّاً، عملهن الذي قد يصح وصفه بأنّه التجربّة المهنيّة والإنسانيّة الأعمق والأرقى التي قد يخضنها. دورٌ كبير ومهمةٌ نبيلة تثبت مجدداً أنّ نساء سوريا في قلب ثورتها.. وربما كنّ “قلب” هذه الثوّرة!.