سلوى زكزك
في النقطة الحدودية اللبنانية، يختم موظف الهجرة بالمنع مدى الحياة من دخول الأراضي اللبنانية على جواز سفر سيدة سورية دخلت لبنان بصورة مخالفة وبقيت كذلك لخمس سنوات متتالية.
القصة تبدو طبيعية في سياق وظيفي ما بين مخالِف للقانون وبين المكلّف بضبطه لكن السيدة السورية أجابت بمرح وتشكرت الموظف قائلة: “شكرا لك! كم كنت أنتظر هذه اللحظة”. يضحك الموظف ويقول لها بجدية رزينة مطعمة بالدهشة: “هذا واجبي”، وتنصرف خارجة من غرفة التختيم أو تثبيت الخروج النظامي للعابرين أو المسافرين وحتى للمقيمين.
أسألها: “ماذا يعني الحرمان لطول العمر”؟، فتجيب: “حتى آخر عمري”، لكن أحداً يصحّح قائلاً: “ربما خمس سنوات وربما عشرة”.
تبدو الإشكالية هنا خارج عدد السنين، وخارج الرغبات أو دقة الالتزام بالمهام، لأن سوريات كثيرات يرغبن بالعودة، “طفح الكيل” تقول إحداهن، والثانية تقول: “نحنا راجعات وسيلحق بنا أزواجنا”. أيضا لا مدة محددة لعودة الرجال ولا تواريخ. تسألها: “وإن طال تأخر الزوج؟” قالت” “نعود عبر الجبل”!! أي تهريب، أي كما جئن منذ البداية.
ليست الحملات الأخيرة التي وصفت بالعنصرية وحدها المسؤولة عن عودة النساء مع أطفالهن ولا حتى مجرد رغباتهن العارمة كافية لقرار العودة. يتداخل الشوق بالتعب بالمستقبل المجهول وبخوف الرجال أو اختبائهم في البيوت خاصة إن كانوا مخالفين للإقامة أو بلا تصاريح عمل، تقول سميرة: “أبي في حالة صحية حرجة، والحياة باتت هنا أصعب من أن تعاش، بناتي بلا مدارس وأنا مصابة بوجع المفاصل ولا علاج لي هنا”.
تبدو المقارنات مجدية هنا، سميرة تجمع أرقاماً مع بعضها وتقول نغرق هنا في العجز، مصرّة على العودة ومستعدة لبيع خاتم زواجها لترميم غرفة واحدة ومطبخ وحمام لتعود إلى مدينتها وأهلها، تصرّح وبقايا دمع في المقلتين وتقول: “الأهم أن أودع أبي، وأن أسكن في بيتي، وأن لا يعاملني أحد وكأنني مغتصبة لأرضه أو لحقوقه”.
سميرة كانت تعمل بجني البطاطا بأجر زهيد ولكنه ضروري لتأمين متطلبات العائلة، تقول: “تفتحّنا هنا”! وأضحك من مدلول هذه العبارة، “نعم كنا قططاً مغمضة العينين، نعيش في نفس الحوش مع عائلة زوجي الكبيرة وخرجنا كلنا معاً، لكن الخيمة لم تكن بلداً ولا الهرب من الموت أبعد الموت عنا، تعب وخوف وتمييز ووعيد ووصم وظلم لا وصف له”.
في نفس النقطة الحدودية تترجى سيدة شابة بحدود الثلاثين من العمر السائق المرافق لنا لاصطحابها معنا إلى نقطة الحدود السورية، دخلت بشكل نظامي، متزوجة منذ سنين خمس ووجود زوجها في لبنان أخر عملية الإنجاب، تخاف أن تبقى بلا طفل، تخاف هجران زوجها ونسيانه لها، ولأنها لا تملك إقامة نظامية هي وزوجها في لبنان تقوم بمغادرة الحدود السورية واللبنانية في ذات اليوم بفارق زمني بسيط لتعود إلى بيروت حيث يعيش زوجها وحيث تخضع لعلاج من أجل الإنجاب، يتصل بها زوجها ليطمئن، تضحك وتقول له لا تخشى شيئاً، لكن الوقت تأخر يقول لها، فتجيبه نحن تأخرنا في المغادرة، لأن إقامتها على الحجز الفندقي تنتهي بحدود الثانية عشرة ليلاً، وعليها الحصول على إقامة جديدة ولو لخمسة عشر يوماً حتى لا تعدّ مخالفة لشروط الخروج والدخول، وحتى تتمكن من الدخول النظامي في المرة القادمة.
أسألها عن بيروت والحياة فيها، تقول: “الشام أحلى، وبيتنا على قدنا لكنه جميل ومرتب ومكتفين به وبعمل زوجي في صناعة الحقائب النسائية، وهو الآن وبعد تركه الشام يعمل في بيروت بأجرٍ بالكاد يكفينا وبالكاد نشعر بالقدرة على دفع كلفة الاستطباب من أجل الإنجاب”.
عندما يتم الحمل ستعود بادية إلى الشام، لتدللها أمها، لتلد طفلها القادم هناك، تبدو الحياة كلها في عيونها طفل يتخلق هنا في بيروت وينمو ويولد في الشام، في الشام فقط سيرى مولودها النور بين أهلها وأهل أبيه وفي بيته.
يقول الرجال سنرسل الزوجات والأبناء إلى ريف حلب بعد خروج داعش منه، على الأقل لن ندفع إيجار البيوت خاصة بعد أن اعتذر أصحاب العمل عن التعهد بالإفصاح والتصريح عنهم وتسجيلهم كعمال لديهم وهذا هو الإجراء الوحيد الذي يؤمّن لهم فرصة للبقاء في لبنان دونما خوف أو أي احتمال للتعرض للترحيل، لكن تعذّر الحصول على تصريح عمل أو الحصول على صفة عامل مسجل، ستجبرهم على ترك أعمالهم والاختباء في البيوت، سيعيش عدد كبير من الرجال في بيت واحد لتخفيف أعباء تكاليف العيش وإيجار السكن وسيرسلون ما قد يتيسر لعائلاتهم. أحدهم قال: “أبي سيتكفل بخبز عائلتي وحليب الأبناء”، “والبقية يا رجل”؟ أسأله فلا يجيب، الحوار في داخله مستعر وصاخب.
ما بين فرحة صاخبة بختم المنع والعودة المؤكدة، وما بين الخوف من موانع تيسر العودة وتجعلها آمنة وسهلة وكريمة، تتناقض الحالات وتتشابه المخاوف، تغادرنا السيدة الخارجة لتوها من الحدود السورية إلى الرصيف المقبل لتسجل خروجاً من الحدود السورية يتلوه دخول للأراضي اللبنانية، دخول نظامي قد يجعل منها أماً، والاجتماع بالزوج بعدها مؤجل كما كل الوعود وكما كل الأماني الضئيلة والضعيفة بعودة نهائية كريمة وآمنة وبأسرة طبيعية، متكاملة وكاملة العدد، أب وأم وأطفال في بيت العائلة.