منتهى شريف
تجمَّد مكانه مُرتعداً واختنقت أنفاسه وهو يُراقبها؛ لم يتوقع أن ينتهي الأمر معها بتلك الّصورة.
كان مجرد فضوله ما جعلهُ يقتربُ منها ليتفحصها، كانت المرة الأولى التي يتاح له فيها أن يكون قريباً منها بهذا القدر، ملمسها الناعم جذبه, وكأنَّها تَدعوهُ ليضمها، لكنه لم يكن يَعرف أن ذلك الوَحش الذي يسكنُها سَينطلقُ وينهي كل شيء.
كانَ والدهُ قد جلبَها بعدَ الأحداثِ التي عَصَفت بقريته منذ زمن ليس ببعيد. فكرة اقتناء سلاح لم تكن ببالِهم, لكن كل شيء تغير منذ ذلك التاريخ, فمشهد موت العشرات من أهل قريته وأقاربه، الذين باغتهم المسلحين ذلك الصباح دون أن يَستطيعوا الدِّفاعَ عن أنفُسِهِم، لا يمكن أن ينتسى.
على الرغم من أن والده كان يعلم أنه يكره العنف وأنّه يعشق الشعر والموسيقى، إلا أنه أصرّ أن يقدم له تلك الهدية قائلاً: “البارودة لك, قد يأتي يوم وتستخدمها”.
كلمات والده تبعته كظله، وبقي صداها يدور بباله، يومها استهزأ بها ضاحكاً, لكن نظرات أبيه الغريبة والواثقة جعلته يفكر بالأمر لعله سيحتاجها حقاً! ماذا عساه يفعل اذا اقتحموا بيته في غياب والده الغائب؟
الجميع كان يعلم أن اغلب الشباب لا يخرجون من منازلهم دون سلاح، وهو لم يعد بمقدوره تجاهل الخطر المحيط.
كان وحده في المنزل عندما سحبها من مخبأها السري، ومددها على الطاولة متفحصاً!
تلك الرصاصة باغتته فخرجت فجأة من الفوهة, وانطلقت تجاه الجدار المقابل فأحدثت على الفور فتحة كبيرة داخله ثم ارتدت باتجاهه لتختصر مخاوفه ووجعه وأسئلته وحياته.
تهاوى على الأرض مستسلما لخيالاته ولتساؤلاته: “ماذا سيحصل لجنى بعد موتي؟”
ضحك ساخرا من فكرة أن جميع من قتل بقريته ربما سألوا السؤال ذاته, أثناء اختراق الرصاص لأجسادهم, وأنهم لابد لم يتذكروا سوى أحبتهم أيضاً.
أو لعل الرباط بين الحب والموت أقوى من أن يكتشفه إلا من يفارق الحياة للتو، مثله، حيث يتلاشى انتظام الزمن ويختلط الماضي بالحاضر ، باحتمالات المستقبل، اللحظات مع الحبيب هي الأكثر ثباتاً في الذاكرة
فهي التي تبقى عالقة بنافذة الروح.
ليته قال لها كل ما خطر بباله ,كم مرة كان عليه أن يقول لها: “أحبك” وكم تمنى أن يلعب بشعرها ويمسك أصابع يدها ويركض معها تحت المطر. وكم سيشتاق لشالها الأزرق المعطر برائحة جسدها .
فجأة تذكر والدته, ماذا سيحدث لها عندما تدخل وتراه ميتاً؟ كيف ستلعن الساعة التي جلب فيها والده تلك البندقية؟
هي التي كانت تقول دائما: “السلاح فأل سيء ودخوله للبيت سيجلب الموت المحتم”.
جاهدت لتبعد أنظارهم عن تلك البندقية فخبأتها بمكان لا تطاله أيديهم.
والده! كم مرة سيغتال نفسه لأنه كان سببا بموته ؟
هاهو يتلاشى بين أفكاره حدّ الاختفاء.
كثيرا ما أحب ذلك الشعور بالتماهي مع موجودات الكون وهو صغير، أن يتحول لقطرة مطر فيسيل مع الماء ويطير مع الغيوم.
ضحك عندما تخيل نفسه نوتات موسيقية وأنغام، لكنه لم يفكر أن الرصاصة أيضاً من الموجودات وأنها تستطيع أن تتحكم باختيارها لطريقة التماهي والتلاشي من الحياة.
فكر كيف ستقترب الآن وتدخل جدار جسده الهش لتعلن رحلتها الجديدة. الم تحظى بفرصتها الآن وقد نالت حرية الانطلاق نحو الهدف المرتجى؟ الم تكن هي الأخرى ضحية الأسر داخل ذاك الشيء المسمى بندقية؟
وإن كانت حريتها مرهونة بموتنا نحن البشر, فلماذا نهلل لها؟
عادت الأناشيد المدرسية بكلماتها لتعبر مسامعه بقوة, لأول مرة ينتبه أن غالبية الأغاني والأناشيد المدرسية والشعبية كانت دموية!
كلمات كثيرة ارتدت صوبه كالرصاص في لحظة شكلت قاموس الحرب التي طالت وطغت ؛ شهيد, أسير، مختطف , نازح ,مهاجر, مختفي, مقتول , ميت، هل هذه الكلمات ما ستنتقل معه لعالم آخر؟
تلة من المفردات التي يكرهها صعدت فوق صدره وتحولت لغيمة تكثفت فيها كل مخاوفه، غيمة سوداء ستهطل رصاصاً.
ليته يستطيع استحضار مفردات أخرى في نصف اللحظة المتبقية! ليته يستطيعُ أن يطلق العنان لكلمات لها علاقة بالجمال والحياة، بالحب وبالموسيقى والشعر. ليته استطاع أن يلف الكون بشال جنى الأزرق وبعطرها لربما توقفت الحرب.
سمع صوت هاتفه الجوال, إنها الرنة الخاصة بجنى. ليته يستطيع أن يصل للهاتف ويخبرها كم أحبها وأنه تخلى عنها لأجلها, فهو ككل الشباب هنا مستقبلهم رهين بانتهاء هذه الحرب. هل يمكنها إنقاذه؟
لكن الهاتف بعيد وجسده الذي تحجر لا يساعده على الاقتراب. الآن سيراه الجميع وسيظنون أنه انتحر ولن يصدقوا الصدفة – الرصاصة القاتلة.
أنفاسه بدأت تتباطأ … صوت أقدام تقترب من الباب، حاول أن يمسك بتلابيب صوته ليصرخ طالباً المساعدة لكنها خذلته. أغمض عينيه محرراً نفسه من كل شيء.
إنها فرصته الأخيرة ليكون حقيقياً ويتجرد من براثن الزمن والاحتمالات.
هاهو يبتعد و يحلق خارج المنظومة المعدّة لجسده ويطير حراً ويتماهى مع أحلامه.
بدأت الأصوات حوله تتعالى وعاد الهاتف ليرن برنة جنى الخاصة، وهو لا يزال بانتظار الرصاصة المرتدة.
اللوحة للفنانة: عزة الشريف
خاص “شبكة المرأة السورية”