Search
Close this search box.

إنسانة، وليست نبع حنان فائض

إنسانة، وليست نبع حنان فائض

لجين العرنجي

كان من أكثر المواضيع تكراراً في دروس القراءة والإنشاء في المرحلة الابتدائية والإعدادية سابقاً ومرحلة التعليم الأساسي حالياً “موضوع الأم” حيث درسناه وتلقيناه بقدسية وملائكية. وكان كلما استخدم الطفل في دروس التعبير بشكل خاص، تعابير وتشابيه مثل (الأم نبع حنان لا يفيض، الأم الحضن الدافئ الذي لا مثيل له، الأم وطن… إلخ) يحظى بأفضل الثناءات. ربما لا ضير في تبيان حنان وعاطفة وتفاني الأم، ولكن المشكلة أنه لم يتسنّ لتعليمنا أبداً تقديم صورة واقعية للأم ككل البشر، بينما اكتفى بتقديم صورة طوباوية تَظهر بها الأم وتصير عليها أمام المجتمع، تحت ظروف وضغوط وعوامل متعددة، تختلف في مجتمعات أخرى تنال فيها الأم حقوقاً وحريات أفضل من واقعنا، وهكذا استمرت صورة الأم هذه بالرسوخ في حياتنا وتم التعاطي معها على أنها حقيقة جميلة وليست محض تراكم يكبّل الأم ويجعلها فرداً منتقص الحقوق والحريات، وعليه واجبات، وبتأديتها يكون “ملاكاً عظيماً”.

فالأم/ الفتاة التي ترعرعت ضمن مجتمع شرقي، حيث نشأت بصورة نمطية، على أن يكون ملعبها المطبخ والمنزل، وتربيتها قائمة على السترة في النهاية، والحلم بالرجل الذي سيقلها إلى قفصها الذهبي على حصان أبيض، فهي من المرفوضات أو غير السويات إذا ما رفضت أو تمردت على أي فكرة تقليدية من هذه الأفكار، وإذا ما عاندت كل الذي سبق، يمارس مجتمعها المحيط الضغط الكافي ليعيدها إلى قطيع التفكير النمطي، وإلا فهي فريسة للتعب والشقاء والعنوسة أو الضياع كما يدّعون.

تقول ميس، 35 سنه، خريجة ماجستير إدارة أعمال من جامعة ألمانية: “لا يمكنني تخيُّل حياتي بدون طفلتي اليوم، إنها عالم آخر من العاطفة والعطاء، أنا أعيش لأجلها، لم أعد أتخيل كيف كنت سأدرس الدكتوراه بعد عودتي من ألمانيا دون التفكير بالزواج والإنجاب، ولولا ضغط العائلة الكبير لما كنت صوبت طريقة تفكيري وتزوجت وأنجبت ولربما كان القطار سيفوتني وأنا أفكر بالتحصيل العلمي فقط!”.

الأم/الزوجة، التي تزوجت إما بالغصب في بعض المجتمعات الضيقة أو عن طريق الأهل في مجتمعات أخرى أو عن حب أو عن قناعة بأفضل الأحوال في البيئات المنفتحة إذا ما صح التعبير، كل هذه الدروب مصيرها بيت زوجية يندر أن يكون منصفاً للمرأة، فالواقع الأعم هو اللامساواة، فالأم /الزوجة العاملة والمساهمة في تأمين حاجيات الزواج المادية على الأغلب، والمسؤولة عن تنظيم منزل بكل شؤونه، وتربية الأطفال، وتأمين حاجيات الزوج المادية، هي نفسها المطالبة بأن تبقى بكامل أناقتها وزينتها وجسدها المغري وشبقها تجاه زوجها، وفي حال قصرت في الجانب الجنسي نتيجة كل الأعباء التي يحملها اياها المجتمع والدين والقانون، فستتلقى صدمةً من زوجٍ، ينتمي إلى مجتمع ذكوري، يُبرر له ما لا يمكن للمنطق تصديقه، فهذا الأخير قد يلجأ إلى العلاقات خارج الزوجية “المنتشرة جداً” والتي إن كُشفت يتناساها المجتمع بسهولة! أو أن يلجأ لزواج ثان في بعض الأحيان والبيئات الاجتماعية، وهنا تفقد الأم/الأنثى حتى الحق بأن تعيش حياتها الجنسية الصادقة الناتجة عن رغبة حقيقية وتضطر إما لأن تحفظ جسدها وتقبل بالخيانة بصمت من أجل أطفالها وعائلتها وتكون فريسة القلق النفسي والأسلوب العصبي الذي يؤثر على أدائها في كل مفاصل حياتها، أو أن تُغصب جسدها على ممارسة ما لا يرغب وتخضع لاغتصاب شرعي يمارسه زوجها متى يحلو له، وهذا فعل يحافظ على سعادة الأولاد وصورة العائلة أمام المجتمع، لكنه ينتهك مشاعر ورغبة وجسد الأم.

تؤكد هدى، 50 عاماً، ربة منزل، لشبكة المرأة السورية: “في الليلة التي لا أحقق رغبة زوجي الجنسية، ينقلب اليوم التالي في المنزل لجحيم متذبذب، إذ يكون زوجي في أي لحظة جاهز لإثارة أية مشكلة، لا أحب الدنو منه بعد يوم طويل من التعب وإهماله لكثير من التفاصيل التي لا ترضيني، إلا أن تلبية حاجته هذه درء لخطر يوم تالٍ مقيت”.

الأم/مدبرة المنزل، القائمة بالأعمال المنزلية، فبغض النظر عن نوعية عمل المرأة وعمل الرجل، وعن كم العمل الموجود في المنزل، فمن المتعارف عليه في مجتمعاتنا أن المرأة هي التي تتولى هذا الشان، فإذا كانت غير عاملة، فلا يجوز لها أن تشكو من التعب من إنجازها أمام انجازات زوجها المحصّل للأموال التي تسد مصاريف المنزل! وإذا كانت عاملة، فما هو هذا الشأن الإضافي البسيط الذي تقوم به؟ هذه هي المقارنات الدائمة والمتكررة التي تواجه المرأة في مجتمعاتنا. في الوقت الذي تطالب فيه المنظمات النسوية بتخصيص أجر مناسب لكل شكل من أشكال العمل المنزلي، كما حدث في بعض بلدان أوربا، هذا التخصيص من شأنه أن يبين مقدار أهمية عمل المرأة في المنزل بكل تفاصيله.

تقول سعاد، 60 عاماً، لشبكة المرأة السورية، وهي مدرسة تعليم أساسي متقاعدة: “كنا أنا وزوجي نعمل كمدرسين بنفس المدرسة، وعند العودة للمنزل كان يستلقي منتظراً الغداء وأنا أقوم بأعمال المنزل حتى الإنهاك، وفي حال تقاعسي أو تأففي يؤول مصير المنزل والأولاد مصيراً مخزياً، إذ لا يمكن لعقليته أن تقبل العمل في المنزل، كان أهون عليه أن يتسخ المنزل ويُهمل الأولاد على أن يُغيّر نمط تفكيره”.

الأم/ طموح مع وقف التنفيذ، فلطالما سعت أغلب الفتيات إلى أن يكنّ ماهرات ومميزات في حرف محددة ( الخياطة، تصفيف الشعر، التجميل)، ولطالما اجتهدت فتيات في الدراسة لتتقدمن على الرجال وتبنين مستقبلاً علمياً عالي المستوى، وبعد الزواج يمكن أن يتراجع هذا الطموح عند النساء بشكل بسيط لزيادة بعض المسؤوليات، إلا أن إنجاب الأطفال يعرقل الطموح ويقف أمامه حاجزاً كل تقدم، هذا ما يلحظه واقع المرأة على الأغلب، فلا مجال مع كم المسؤوليات الكبير أن تتفرغ المرأة لتطوير أي انتاج خارج نطاق العائلة، وفيما تقتنع بعضهن أن إنجاز العائلة لوحده إنجاز عظيم للمرأة وهو أهم من كل انجاز، تعتقد أخريات أن الحياة الزوجية والأمومة قاتلة للطموح.

تضيف ميس: “ربما بعد أن تكبر ابنتي أستطيع أن أشرع في رسالة الدكتوراه، ولكني أرى أن الوقت الأهم اليوم هو لها”.

غفران، 30 عاماً، ممثلة: “لم أكن أتوقع أن إنجاب طفل يتطلب كل هذا الجهد والعناء، إنه حياة أخرى بين يدي، متى سأمثل إذاً؟”.

يم، 40 عاماً، كاتبة: “أنا أحب ابني كثيراً، لكنني في بعض الأحيان التي أكون فيها جاهزة للكتابة ويحصل أي طارئ يحتاج لتعطيل كتابتي، أحمل في داخلي ندماً كبيراً وأسر لنفسي أن الأمومة تسرق أفكاري وهمتي ورسالتي من الكتابة، خاصة أن الكتابة عمل مزاجي، لا يمكن القيام به ضمن نظام، هو يحتاج للحظة الالهام التي أقضيها وأنا أطعم ابني أو ألاعبه حين يمل”.

“سلام” لم تكمل رسالة الدكتوراه في مجال الآثار بعد انجابها بينما زوجها يكمل بحثه بكل بساطة، و”فاطمة” تفتح عيادتها التي هي مقابل عيادة زوجها لساعات قليلة، بينما يقضي زوجها أغلب يومه في عيادته ويزيد خبرته وشهرته ومواكباته الطبيّة.

الأم/امرأة في مجتمع ذكوري بامتياز، فلا قانون يحمي حقوقها، إذ لا يحق لها إعطاء الجنسية لأبنائها بظل أي ظرف قاهر، ولا يحق لها الإجهاض إلا برأي الزوج مهما كان عدد أولادها أو حالتها النفسية والجسدية، وإذا ما حدث الطلاق، فالأم التي تثق بأن تترك أطفالها عند زوجها محتقرة اجتماعياً، بالمقابل لا يحق لها حضانة بناتها بعد السن القانوني للحضانة، بينما يحق لها حضانة الذكور من أبنائها في حال رغبوا بذلك بعد سن الحضانة القانوني، ولا يمكنها السفر خارج القطر مع أبنائها المحضونين إلا بموافقة من الزوج، وفي حال زواجها تُحرم من كل حقوقها في الحضانة، فهي رهينة لقوانين دستورية واجتماعية تضيّق عليها إن تخلت وإن بقيت.

أمام هذا الخنق، أمام ذكورية متأصلة في كل التفاصيل الحياتية للمرأة منذ صغرها حتى الكبر، من تربية نمطية، ومراقبة اجتماعية لا متناهية، وانتقاص حقوقي في التربية ومن ثم في بيت الشراكة وفي القوانين، تجد الأم نفسها أمام طفل من صلبها، يستهلكها برغم الحجم الكبير لمتطلباته بكل حب، وبأقل عنف من أي عنف موجود آخر! لربما تجد المرأة نفسها في الأمومة بأمان أكبر مقابل أي وضع آخر، وتتخلى عن أعظم الانجازات والاهتمامات الشخصية والذاتية التي من الممكن أن تكون لها خارج الأمومة لأجل هذه الأخيرة، لذلك فهي تقنع نفسها وتلجأ لأن تكون نبع حنان فائض، فهي تعرف ملياً معنى العطاء وتبالغ في تقديمه لأنها تفتقده ذاتياً في كثير من الجوانب.

أما في البلدان المتقدمة، فيخصص للأم فترة محددة للرضاعة لا تزيد عن السنة، بينما تتولى جمعيات ومنظمات ومؤسسات كثيرة مساعدتها في تربية أطفالها، بالإضافة إلى تحمل الأب ذات المسؤولية التي تتحملها الأم منذ الولادة حتى بلوغ الطفل، لذلك أصبحت الأمهات هناك لا يتحجمن فقط بكونهن أمهات ويستمررن في متابعة شؤون حياتهن بكليتها، مع عاطفة وحب وحنيّة تجاه الأطفال ضمن الحد الطبيعي للأم دون الفناء بالأمومة لا غير.

اللوحة للفنان “ضياء علي”

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »