بيان ريحان
قال غسان كنفاني: “يوماً ما ستصبح الخيانة وجهة نظر”.
اليوم وبعد عام كامل من بدء تهجير أهالي الغوطة الشرقية، المنطقة الأخيرة الخارجة عن سيطرة النظام قرب العاصمة دمشق، وفي ذكرى الثورة الثامنة نشهد تحولات عديدة وانعطافاً مظلماً مجهول المعالم في سوريا، حيث تغيرت المواقف والآراء والمبادئ التي كانت ثابتة في بداية الثورة.
عندما بدأنا ثورتنا في شهر آذار عام 2011، مع الاختلاف الأصيل هل كانت الانطلاقة في (15) آذار، عندما خرج ثوار دمشق العاصمة يصدحون عبارتهم “مافي خوف بعد اليوم”، أم في (18) آذار عندما كتب أطفال درعا عباراتهم على الجدران “جاييك الدور يا دكتور”، حملنا معنا الانقسام مع هذا التاريخ حيث كان عدم تقبل الآخر وفرض وجهات النظر هو المرض العضال الذي أصاب ثورتنا والذي تعمق لخلافات أيدلوجية وطائفية ومناطقية أوصلت سوريا إلى حالة من التشرذم والضياع، حتى بين الثوار أنفسهم من نفس الاتجاه كنت تجد هذا الانقسام.
و سأتحدث عن الغوطة الشرقية في ظل الثورة حيث كانت من المناطق السباقة في الانخراط بالثورة ًابتداءاً من سلمية الثورة الى بدء العمل العسكري، وسأخصص الحديث على دولة الغوطة الشرقية المصغرة التي بدأت مع تحرير الغوطة من نظام الأسد وانتهت مع خروج أول باص تهجير إلى الشمال السوري بعد الحملة العسكرية العنيفة التي شنتها روسيا والنظام السوري عليها.
في البدء …
بدأت مجموعات الجيش الحر تظهر في الغوطة الشرقية بنهاية عام 2011 بعد عدة أشهر من السلمية وكرد فعل على عنف النظام وإجرامه بحق المتظاهرين حيث تحول النظام من إطلاق النار المباشر على المدنيين والاعتقالات العشوائية والانتهاكات الأخرى، إلى استخدام السلاح الثقيل واجتياح المدن والقصف، ولذلك كان لابد من إيقاف هذا النظام وزادت أعداد الشباب الذين التحقوا بالجيش الحر، وبدأ الموضوع يتحول إلى تنظيم أكبر في عام 2012 فظهرت العديد من التشكيلات العسكرية والكتائب، التي في تاريخ 25/10/2012 بدأت بتحرير الغوطة الشرقية من النظام بعد مجزرة ارتكبها حاجز مؤلف من مجموعة عساكر يتبع له في مدينة دوما بحق عائلات مدنية في منازلها حيث اقتحم هؤلاء العساكر بناء سكني قريب من الحاجز وقاموا بقتل كل من فيه وفي اليوم الثاني وبعد انتشار خبر هذه المجزرة فزع الأهالي وطالبوا بالانتقام فبدأت فصائل الجيش الحر بمهاجمة الحواجز التي أقامها النظام في الغوطة وكانت نتيجتها تحرير الغوطة بشكل كامل في تشرين الثاني عام 2012 .
بعد إعلان التحرير، سحبت مؤسسات الدولة كامل خدماتها عن الغوطة الشرقية فتوقفت مؤسسة الكهرباء والماء ومحطات توزيع الوقود والأفران العامة والمدارس والمشافي فكان لا بد من حل بديل لهذه الأزمة. بدأ شباب الغوطة العمل وكان أغلب العمل تطوعياً في بدايته وانتشرت مراكز التعليم والنقاط الطبية ومولدات الكهرباء وخدمات أخرى. وبسبب استخدام النظام لسلاح الجو في قصف الغوطة كان لابد من إجراءات وقائية لذلك كانت أغلب المؤسسات توجد في أقبية الأبنية كونها أكثر أماناً، وفيما بعد ستتحول الى شبكة أنفاق وحياة كاملة تحت الأرض أذهلت كل من شاهدها بعد تهجير أهالي الغوطة.
كان عام 2013 هو بمثابة العام الفاصل في الغوطة الشرقية حيث كانت أغلب التشكيلات المدنية عبارة عن تجارب أولية مثل مكتب التعليم الذي سيتطور فيما بعد إلى مديرية التربية والمكتب الطبي الذي سيصبح مديرية الصحة وما إلى ذلك.
ولكن في نهاية عام 2013 بدأ حصار النظام للغوطة الشرقية حيث طوق الغوطة بشكل كامل ومنع الدخول والخروج إليها وإدخال أي مواد غذائية وطبية اليها.
بعد أقل من شهر واحد فقدت أسواق الغوطة موادها واستهلك الناس مدخراتهم الغذائية والقصف مستمر على المدينة وارتفعت الأسعار بشكل جنوني ليظهر مجموعة تجار ستترافق أسماؤهم مع لوائح العار في التاريخ وهم تجار الدم الذين سيستنزفون أهالي الغوطة عن طريق التعامل مع النظام وإدخال المواد الغذائية بأسعار مضاعفة عدة مرات ولتشهد الغوطة حصاراً أدى إلى وفاة العديد من الأطفال بسبب الجوع والأمراض الأخرى وإلى فقدان مصابين بسبب القصف أعضاءهم لعدم توفر المواد الطبية ووفيات بسبب انعدام العلاج.
الحاجة أم الاختراع
كل ذلك جعل أهالي الغوطة يفكرون في حلول بديلة، على الصعيد الطبي تم ابتكار أدوات ذات صنع محلي تساعد في العمل الطبي وتم استخراج مواد الطاقة من البلاستيك حيث تم تقطير النفايات والمواد البلاستيكية، واستخراج الغاز والمازوت والبنزين منها، وحتى تم صناعة حفر يتم فيها تخمير النفايات لاستخراج الغاز الطبيعي.
بالنسبة للتعليم عمل معلمو الغوطة على الاكتفاء بالموارد المتاحة وصناعة الوسائل التعليمية بأنفسهم، وفتحت جامعة حلب الحرة فرعاً لها في الغوطة ليتمكن الطلاب من متابعة دراستهم، إضافة للمعاهد المتوسطة التي رفدت المدارس بكوادر جديدة بعد خروج أغلب الكوادر الأكاديمية من الغوطة الشرقية قبل التحرير.
وتم حفر انفاق في عام 2014 إلى مدينة برزة والقابون حيث كانت هناك هدنة سائدة مع النظام السوري، وتم إدخال المواد منها للغوطة وبدأت الأسعار تنخفض بشكل ضئيل.
أما المجالس المحلية التي تشكلت من بداية تحرير الغوطة فكانت تحاول القيام بعملها على الرغم من الحصار وضعف التجربة والخبرة لدى بعض المجالس.
كل على حدا كان يحاول أن يثبت نفسه في ميدان العمل، الأخطاء كانت كثيرة نعم ولكن المحاولة والتطوير هو الطريق الذي سلكه أبناء الغوطة، مع العلم أن الحصار كان يشتد بين حين وآخر والقصف لم يكن يتوقف بل كان بشكل يومي.
ولدخول منظمات المجتمع المدني والتمويل أثر في العمل المدني داخل الغوطة، فمن منظمات الإغاثة التي كانت تحاول سد الحاجة المتزايدة للأهالي، إلى مراكز تمكين المرأة ودعمها والمؤسسات الخاصة التعليمية والمعاهد والمنتديات الثقافية التي كانت منبراً لأهالي الغوطة والمشاريع المختلفة التي كانت تنتشر تبعاً للتغيرات التي تحدث في الغوطة.
دولة الغوطة
كل هذا جعل الغوطة دولة صغيرة بمعزل عن العالم، صقلت تجربة أبناءها على جميع الأصعدة، فتجد كل المؤسسات تعمل بالغوطة حتى لو كانت مليئة بالأخطاء والمشاكل، لكنها موجودة وتتطور بشكل يعتبر برأيي الشخصي جيد تبعاً للظروف الأخرى المرافقة لهذا التطور.
لكن مع بدء التصعيد العسكري على الغوطة الشرقية بتاريخ 18/2/2018 والذي انتهى بتدمير الغوطة الشرقية على رأس أهلها وإحراقها واستشهاد الآلاف من أبنائها وتهجير أهاليها إلى الشمال السوري ودخول النظام إليها، انتهت دولة الغوطة والأحلام التي عاشها أبناؤها وتفرقت بهم السبل بين من بقي وبين من هجر، هذا الأمر الذي ما كان سيتم لولا خيانة بعض قادة الحراك المدني وقادة الفصائل العسكرية واتباعهم لسياسات الجهات المانحة ووجهة النظر التي حملت عنوان “يكفي ونريد أن نعيش”، وجهة النظر التي تحدث عنها كنفاني.
اليوم وبعد عام كامل، ومن خلال متابعتنا لما يحدث في الغوطة، نفتخر نحن أبناء الغوطة بالدولة التي بنيناها، حيث أنه إلى اليوم مازالت الغوطة الشرقية فاقدة لخدماتها الأساسية وتسودها الفوضى، والنظام الذي يمتلك الإمكانيات والموارد لم يستطع إلى الآن أن يقدم الخدمات التي قام بها أبناء الغوطة أثناء الحصار والقصف. بإمكان المشاهد أن ينظر إلى صفحات النظام ويشاهد القمامة في شوارعها، والأبنية التي لم يتم إصلاحها والمؤسسات الأساسية كالكهرباء والماء تقدم أقل من الحد الأدنى من الخدمات، هنا ندرك تماماً نحن شباب الغوطة الذين عملنا بأقصى طاقتنا أن دولتنا وتجربتنا لم تكن هباء ولم تكن عادية بل لو عادت إلينا لاستطعنا تفادي أخطاءنا واستكمال ما بدأنا به. صحيح أننا خرجنا من الغوطة لكن ما قمنا بعمله ما زال في نفوس الأجيال الأخرى التي عاشت في تلك الفترة.
وكما قال درويش: “أثر الفراشة لا يرى، أثر الفراشة لا يزول”.
خاص “شبكة المرأة السورية”