Search
Close this search box.

“إسماعيلية” و”روسي” بين أيدي داعش!

“إسماعيلية” و”روسي” بين أيدي داعش!

عبير محمد

كان تنظيم داعش قد وصل إلى مصنع (لافارج) للإسمنت، الذي كان يعمل به زوجي، واحتلته. كان يقع في منطقة الجلبية، بالقرب من عين عيسى بالرقة، مما اضطر جميع الموظفين ﻹخلاء المصنع بظروف قاسية جداً من حيث تعرضهم للخطر. وحالياً هناك قضية مرفوعة ضد الشركة في فرنسا لتعريض حياة موظفيها للخطر أثناء وجود داعش. فالشركة تركت موظفيها البالغ عددهم 200 موظفاً في مواجهة داعش دون العمل على حمايتهم.

وفي اليوم الذي قررنا فيه السفر من منبج، التي كان يسيطر عليها داعش، إلى أهلي في مدينة “سلمية”، استيقظنا في الصباح الباكر واستقلينا سيارتنا، وكنت قد ارتديت بنطالاً وعباءة وشالاً أسود. تلثمت بالشال بحيث لا يظهر من وجهي شيء. مررنا بحواجز داعش دون مشاكل حتى وصلنا إلى آخر حاجز، حيث ظهر ذلك الداعشي بشعره المنكوش، ومظهره القذر، ونظرته الخبيثة اللئيمة، التي راحت تراقب ما بداخل السيارة. نظر إلي، فرأى عيني. قال بلؤم: “غطي عينيك  جيداً”. فتململت، وغطيت وجهي بالكامل، ثم تابعنا السير. ولم تمض سوى عشرة دقائق، وإذ بحاجز (طيار)، أي حاجز متنقل، يتواجد في المكان ﻷجل مهمة محددة. فجأة ظهرت مجموعة من المسلحين والملثمين وهجموا علينا وكأنهم وجدوا صيداً ثميناً. صعدوا إلى السيارة ليفتشوها. وما حصلوا عليه كان  سيوصلنا لحتفنا، لكن العناية الإلهية اهتمت بنا وقتها.

فقد كنت أحمل بطاقتي الشخصية، التي تثبت أنني من منطقة “سلمية”، وزوجي اصطحب معه جوازيه، السوري والروسي، باعتبار أنه يحمل الجنسية الروسية. وأعترف الآن أن تلك أخطاء تاريخية لنا، فتلك الوثائق وحدها كانت كفيلة أن نُذبح من أجلها. فتش الملثم محفظتي، فوجد بسهولة بطاقتي الشخصية، ثم بدأت المعركة والتحقيق معي ومع زوجي. بدأت الأسئلة تنهال علي: “هل أنت إسماعيلية؟ هل أنتي إسماعيلية؟”. أُصبت بالجمود وكادت نظراتي تثقب اﻷرض. ولا أعرف من الذي نطق، ولا أظن أنني أنا من نطقت، ولكن لساني راح يتحدث، فقلت وانا أبكي وأصرخ: “اي، اي إسماعيلية). حتى في هكذا موقف لم أستطع الكذب. طبعاً كان ذلك قمة البلاهة من قبلي، فلو وثقوا كلامي واعتمدوه لكنت اﻵن سبية. ثم تجمعوا كلهم حولي. نظرت إلى زوجي فرأيته ملقى على اﻷرض، فقد كان يعاني من مرض السكري، قبل أن نعلم لاحقاً أنه يعاني من تشمع الكبد. عندما رأيته على اﻷرض صرخت بهستيريا: “يا ربي يا ربي، مشان الله اتركونا”. كان الطريق اتستراد عريضاً حيث تسير باصات البولمان، رحت استنجد بهم، ولكنهم كانوا يمضون مسرعين دون النظر إلينا. نظرت إلى ابني عمورة، الذي كان يجلس في المقعد الخلفي من السيارة، واستنجدت بهذا الطفل الصغير: ” يا ماما دخيلك”، فرأيته يبكي ويصرخ: “ماما، بابا”.

طبعا هذا أكثر شيء آلمني، أن يتعرض هذا الطفل الصغير، الذي كان عمره 3 سنوات فقط، لهذه المواقف. قال لهم زوجي وهو ملقى ويكاد لايستطيع رفع يده: “أريد دواء السكر”، قالوا لي: “أين دواؤه؟”،  صرخت: “لا أعرف”. فتشت عن دوائه وأعطيته لهم. أخذه وبعد لحظات تحسن قليلاً. ثم أخذونا إلى “مسكنة” على طريق حلب في قرية يوجد فيها عناصر منهم. ثم بدأ التحقيق معنا من جديد وفتشوا كل ما في السيارة. وفي الحقائب رؤوا اﻷلبسة، ومن بينها بلوزات نسائية سافرة، كما يسمونها. وقف أحدهم بحانب السيارة ورأى بنطالي الجينز تحت العباءة. فضرب باب السيارة صارخاً: “ولابسة جينز؟”. قضينا وقتاً طويلاً منتظرين وهم يسألونا. وأخيراً قرروا إرسالنا إلى الحسبة في مسكنة. اقتادنا شاب  صغير عمره بحدود 20 سنة، ثم بدأ يبث الرعب فينا. قال: “أعطوني ابنكم عمر أنا أربيه، لن أخفي عنكم”، ونظر لزوجي مخاطباً، “قد يذبحونك ويأخذون زوجتك سبية، وإبنكما يأخذونه عبداً”، ولكم أن تتخيلوا ما الذي بقي لنا من اﻷعصاب والروح لنمضي ذلك النهار.

وصلنا إلى مسكنة، حيث جاءت مجموعة منهم. جلس أحدهم، وكان شكله يوحي بأنه يمني، وعمره لا يتعدى 21 سنة. فحص الكومبيوتر المحمول. ثم أخذوا يسألوني: “من هو إمامكم؟ وكيف تصلون؟”، وسألوا زوجي: “كيف تتزوجها وهي اسماعيلية؟”، عندها صرخت: “أنا على دين زوجي”، وكأني أحاول إنقاذ نفسي بذلك. استمر الوضع لساعات، وبعدها أرسلونا إلى قائد الشرطة، الذي بدأ بأسئلته أيضاً: “ما هي التحيات؟ هل تعرفين أركان الإسلام؟”. أجبته بثقة عن أركان اﻹسلام، ولكن التحيات لم أكن أعرفها، فاستدركت مكررة كالمجنونة: “أنا على دين زوجي”.

في النهاية قرروا أن يحتجزوا كل الوثائق التي تخصنا، من جوازات سفر وأوراق معهم، بحيث لايبقى معنا شي يدل علينا. وقرروا ارسالنا إلى والي منبج، كما يسمونه، لكي يبت بأمرنا.

خرجنا مسرعين بسيارتنا باتجاه منبج، وكان الوقت ليلاً. طبعاً لم نكن نرى الطريق، وقد تكون السيارة حينها تسير لوحدها. ثم وصلنا إلى المنزل. وصلنا وكأننا نحلم.

لم نصدق أننا أصبحنا في بيتنا، وسننام على فراشنا. طبعاً ليلتها لم أنم كل الليل وأنا كالمحمومة. أتخيل أنهم سيكسرون باب المنزل ليعتقلونا من جديد. جاء الصباح، وكان علينا الذهاب للبحث عن الوالي، وتبين أنه لا يوجد والي، فكان يجب أن نذهب إلى المحكمة المغطاة بالكامل باﻷسود لنقابل القاضي وهو سينظر بأمرنا. ذهبنا للقاضي، وأنا ارتدي اللباس الداعشي النظامي، بعد أن اشتراه لي زوجي من السوق، وهو عبارة عن شروال عريض وكاب فضفاض موصول بغطاء الوجه والرأس مع قفازات لليدين، وكلها باللون الأسود. دخل زوجي أولاً لمقابلة القاضي بعد أن أوصاني أن أقول لهم إنني كنت إسماعيلية ثم أصبحت على دين زوجي بعد أن تزوجته. وبعد خروجه أدخلوني. وقفت أمام القاضي، الذي كان مصري الجنسية، فسألني: “ما هي ديانتك؟”. جاء زوجي ليقاطع الحديث حتى يستدرك ماسأقوله، فقال له: “لا تتكلم”. قلت له: “إسلام سنة، أنا سنية وأهلي سنة”. وكأن الله أنطقني، ﻷن ما اتفقنا على قوله انا وزوجي، قبل ان نرى هذا القاضي كان عكس ذلك. وعندما سأل زوجي عن ديانتي قال لهم: “هي سنية”. فتطابق حديثنا معاً. قال القاضي: “طالما أهلك سنة لماذا بقيتم في سلمية؟ وماذا عن أقاربكم لماذا لم يصبحوا مثلكم؟”، قلت له: “لقد طلبنا منهم كثيراً أن يصبحوا سنة ولكن لم يقبلوا؟”.

طلب القاضي أن نُحضر في اليوم التالي شاهدين على كلامنا فأحضرنا جارنا، وأصله من منبج، وندين له لموقفه الرائع معنا ليشهد أني من السنة. ورفيق زوجي، وهو من منبج أيضاً. وبعد مداولات اقترح القاضي أن أعمل دورة شرعية، وأرسل طلبنا إلى قسم يدعى (اﻷمنيات)، وهو عبارة عن فرع تحقيق. فأخذوا يتحرون عنا وبقينا على هذه الحال ثلاثة أشهر ونحن ننتظر. طبعاً خلالها ثابرت على الدروس الدينية في الجامع، (القسم المخصص للنساء)، وجلست مع فئة الصغار، باعتبار أنهم يطالبونا بحفظ أجزاء كبيرة من نصوص القرآن، وأنا كنت أستصعب الحفظ، لذا تابعت مع اﻷطفال لحفظ السور الصغيرة. ومع ذلك حاولت في اﻹمتحان أن أنقل، فكشفتني المعلمة، والتي لم يتجاوز عمرها 18 سنة،  ووضعت لي علامة الصفر. خرجت من الجامع وزوجي ينتظرني، سألني: “ما بك؟”،  قلت له بانزعاج: “كنت أنقل، وأخدت صفر”. المهم، بعد عام، قرروا اﻷمنيات أنه لا يوجد شيء حولنا، فأرسل القاضي ورقة لقائد الشرطة في مسكنة أنه لا مانع من إعطائنا أوراقنا. فأرسل اﻵخر ورقة بدوره لقاضي منبج، أن زوجي يحمل جواز سفر روسي وكان في طريقه إلى النظام النصيري. فسأل القاضي زوجي: “ماذا تفعل بجوازك الروسي؟”، فأخبره أنه بلا فائدة، فهو منذ فترة طويلة لم يذهب لروسيا، واستقر في سوريا. ولحسن حظنا حدث ما حدث معنا ولم تكن روسيا تقصف منبج وقتها، ولو حدث ذلك، لكانت نهايتنا بالموت حتمية. أخيراً أفرجوا عن أوراقنا، وانتهت تجربتنا المريرة مع داعش، ولكن لم نعد نتجرأ على السفر أو التحرك وبقينا في منبج لمدة سنة كاملة.

وأتى اليوم الذي قُصفت فيه المستشفى، التي تقابلنا تماماً. كنت في الغرفة الخلفية أرتبها، وابني عمورة في الغرفة المقابلة للمشفى يشاهد الكرتون. فجأة ومن قلب الهدوء، طارت النوافذ البلور واﻷبواب، فركضت بلمح البصر باتجاه غرفة عمورة، الذي كان يبكي ويصرخ: “ماما طار البيت”. ولحسن حظنا الشديد أنه كان يجلس على الكنب التي في الزاوية مقابل التلفزيون، وليس على الكنب المقابلة للباب الزجاجي. أخذته وخرجنا مسرعين لننزل ونختبأ تحت الدرج في الطابق اﻷرضي. ووقتها طار طفل من بيتهم إلى المنزل المجاور فسقط جثة هامدة. عندها جاء زوجي على الفور وأخذنا إلى قرية جيراننا، التي تبعد ربع ساعة عن منبج وقضينا فيها أسبوعاً كانت من أروع اﻷيام بالنسبة لي، حيث ملأ الصفاء والروحانيات الفضاء، بالإضافة إلى سكون المكان الذي يبعث على الطمأنينة. سافرنا بعدها إلى مدينتي “سلمية”، التي بقينا فيها حتى اللحظة.

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »