Search
Close this search box.

أنا غرقى

أنا غرقى

مزنة الزهوري

بين الأوراق المطبوعة، و أخرى مكتوبة كمسوّدة بخطّ يديّ، القلم وشاشة اللابتوب.

بين ملفات الجافا والماثماتيكا. بين لغات البرمجة ولغة دماغي التي تئنّ وتزنّ لأكتب.

لقد حان الوقت الذي لم تعد لديّ القدرة فيه، على إسدال الصبر لنفسي. جلبتُ عدّة المتّة لأشربها مع خلطة من الأعشاب المهدئة، رغم أنّني  الآن بحاجة لركوةٍ من القهوة؛ و لكنّني لا أستطيع.

والدتي بجانبي تتكلم مع جديّ في دمشق. خالي و أطفاله حول جدي يفرشون المنزل بالسجّاد، ويركبّون المدفأة. أمي فقط صامتة وتبتسم. تشاهدهم من خلف الشاشة الصغيرة التي ساعدتها على تعويض فقدانهم لأكثر من أربع سنوات. خالي يقول لجدي: “هيّا إلى عرشك الدافئ”. جدي تجاوز منتصف الثمانينيات. كان يريد زيارتنا في الصيف الفائت لكنّ القوانين والقرارات و شراءنا للماء في المنزل الذي نستأجره، والعديد من الظروف، منعته من القدوم.

لايحبّذ زيارتنا في الشتاء، فهو لا يتحمّل برودة الجبل الذي نعيش فيه. هذه السهرة تفتقد لجدتي التي لا يغيب ذكرها عن لساني ووالدتي. هي  صاحبة الصدر الأرحب لكلّ همومنا. كيف لأمي أن تحمل كلّ هذا العبء منذ خمس سنوات ونصف بعد وفاتها، لا أدري!

هل الإبنة الكبرى في كلّ منزل، كـأميّ؟

أحاول أن أكون مثلها، وبذات تفكيرها. لا أريدها أن تحمل ما يكئبني. فيكيفيها من همّي وإخوتي الثلاثة ما يفيض. لا أستطيع الغرق بـكيف تستحمل عبئنا بعد غياب والدي للأبد.

اللجوء وتشتيتنا، شابان وصبيتان، تلاحقنا دعواتها لنستطيع الاستمرر في المنفى وعلى الطرقات.

فقط تتأمل وتراقب أهلها، وتردد الآن: ” يا رب”.

أحرّك المصاصّة بكاسة المتّة، لتسألني أختي: “انتِ عم تدرسي؟”، أهزّ برأسي، وأستمتع بلذة الصوت المنبعث من هاتف أميّ، وهي تقول: “ياعيني عالكبير”.

أتخيل ما تشاهده في منزل بيت جدي، وهي بجانبي، لكنّني لم ألتفت!

بيتهم في دمشق، ليس كما في القصير واسعاً بمساحة دونم أرض، فيه حديقة ملأى بالعنب والمشمش والزيتون والرمان… بيتهم في دمشق عبارة عن مبنى يقطنه المستأجرون في الطابق الأرضيّ، أخوالي الإثنان وعائلاتاهما في الثاني، جديّ وخالي محمّد في العلويّ.

خالي محمّد من أقسى الجروح في قلبي، وقلب أميّ. هو من ذوي متلازمة داون” ولادة منغولية”، أصبح عمره حوالي السادسة والثلاثين، لازالت صحته بخير ولله الحمد، يتحرك ويصليّ، ويشرب المتّة. لم يعلّمه أهله في المدارس كما حديثاً، لا يخرج من المنزل، وكان فقط يخرج في القصير لزيارتنا وزيارة خالاتي، وإلى المسجد أيضاً.

أجمل مافيه حرصه على الطهارة، يصرف الكثير من الماء وهو يغسّل، يعاني من وسواس النظافة الزائد، دائماً ضيافته مُحضرّة لمن يزوره، هادئ وسَكين، يتمتم في نفسه أحياناً، ويفتقد كثيراً لجدتي ولبعدنا عنه. أشتاق له، ولجلوسه بجانبي وأنا أدرس.

فأنا تفوقت في دراستي بالشهادات الرسمية عندما كنت أدرس عند جدتي بجانب خالي محمد. أشتاق ليعوّذني هو وجدتي بآيات الشفاء لأرتاح. لقد حفظ العديد من السور بالتجويد، سمعاً عن تلاوة جديّ أثناء صلاته. أتمنى لو أنّه بجانبي، لو أنّه تعلّم ممّن مثله في عصرنا، لو بات فعّالاً في إحدى مجالات الحياة المختلفة.

بدأ قلبي يهدأ بدقاته، عندما وصلتُ لهذا الحدّ لأعبّر عما في خاطري.

البارحة بكيتُ وبكيتُ، بعد أن اختنقت. أنا مكسورةٌ على شهر ونصف من الدراسة.  بدأت إمتحاناتي، ومعظم تفكيري  في الفترة الماضية، منشغل بصحتي والوجع الذي يحمله جسدي، ولايزال. ذكرياتٌ على الإنترنت، تذكرنّي  بالجهد المكثف الذي بذلته أثناء التحضير لفيلم وثائقيّ، العام الفائت مثل هذه الأوقات.

كنت أداوم في الجامعة، وأعمل متطوعة في قسم التعليم مع الأطفال اللاجئين. أتابع المشاكل التي ترافقهم، وأحاول إيجاد الحلول والمطالبة بحقوقهم. بالإضافة إلى ذلك، كنت أدرّس مجموعات منهم لمساعدتهم في تخطي عوائق المنهاج الذي يتعلمونه. أستمتع بوقتي الذي لا يتبقى  شيءٌ منه لنفسي. أخرج عند السادسة صباحاً، وقد أعود في العاشرة ليلاً، أو منتصفه. أحياناً أنام مع أصدقائي في المركز الثقافي في غرف المونتاج، ونحن نستكمل إعداد أفلامنا.

أخذ من جهدي الكثير، فيلمي التسجيلي ذاك. والذي يحكي قصّة مروة وأمّها خيرية. مروة التي زوجتها أمّها في الرابعة عشر من عمرها،  وتعاني حالياً منها ومن طفولتها بعد زواجها. الضغط الذي أضافته مروة إليها، بعد  لجوئها،  لتقطن معها في نفس الخيمة، هاربة من الغوطة مع طفلين تجهل الإعتناء بهما.

خيرية منذ شهر عادت إلى سورية، بعد أن تركت مروة وأطفالها هنا، رجعت لتعالج زوجها المسنّ فالتكاليف في  لبنان باهظة جداً.

في مثل هذه الأيام، كنت أعاني من الرفض والمنع لتصويري في مخيمهم.

في لحظةٍ ما كاد فيلمي أن يتوقف عن وصوله لهدفه، لكنّني وصلت. سبع ساعات مصوّرة على برنامج المونتاج لأستخلص منها (12) دقيقة!

هذا الصيف اعتذرت عن إتمام فيلمٍ وثائقيٍّ آخر، وصحتي أحد أسباب ذلك.

قبل ساعة  نظرَت إليّ أميّ، لتمسح بيدها ظهري. حاولَت احتضاني بلطف كي لا تؤذيني. دون أن أتكلم، تشعر بمايؤلمني، ترافقني بنظراتها وتهمس: ” بلش البرد يا بنتي، اذا عم يتعبك الدوام والقعدة عالكرسي، عمرينها الدراسة والجامعة. الله كريم بتتحسني وبترجعي بتكملي… بلاه هالفصل.”

أميّ التي تعشق العلم وأفنت نفسها، لنصل إلى ماوصلنا إليه، باتت تخاف عليّ من اللابتوب والهاتف، القلم وكلّ شيء… تكرههم!

أكذب وأؤكد أنّني جيدة، ولكنّ تفكيري عند الجلسة التالية من علاجي، فأنا أراسل طبيبي، إذ ينبغي عليّ تكرار الدواء الذي انتهى. وأحدد معه موعد جلستي بعد الخروج من امتحاناتي يوم الجمعة بعد الغد. لقد سُررت عندما أخبرني في الزيارة الأخيرة،  ببدء مؤشرات التحسّن على  فقرات ظهري، استقامت مشيتي نوعاً ما، ولكنّ الوجع لم يستكن. أجلس نصف المحاضرة على الكرسي، لأعاود الوقوف وأسند ظهري بيديّ على الحائط. فقط أحاول التركيز لأحصل على أكبر قدر ممكن من المعلومات، دون أن أتمكن من كتابة الملاحظات التي أريد.

ما آخذه من أصدقائي ليس بكافٍ لي، و أعتبر نفسي أنّني أرهقهم معي. أصدقائي الذين لم يعتادوا عليّ سوى بابتسامتي التي لم يعد بإمكاني رسمها إلاّ بشقّ النفس.

أبتسم لمجرد أنّني أبتسم! ربّما في السابق كالآن، هي حزينة عمق ما أشربه من المجتمع والمخيمات والرسائل، من القصف والقتل والتشريد، من فقدان العائلة والإصابة وترميم الجرح الذي عانيت.

أنا غرقى في الطريق الذي يوصلني لجامعتي تحت شجرة التين حيث أنتظر الحافلة، ورقها الأصفر المتهاوي على جنبات الحجارة  مع شهقات الشمس الخجولة وحبات المطر التي تلبّد حركتهم.

غرقى على وقع ألحان الأغاني اللبنانيّة القديمة تارة، وفيروز تارة أخرى داخل الحافلة.

بين طلاب هذه الضيعة غرقى، إنّها السنة الثالثة لي معهم، و أحاول حفظ وجوههم، لكنّ الطريق في الخارج يسرقني لأغرق فيه، و أسرد له الحكايا و أشبع من قصصه.

طريقنا بين جبلين، كلما انحدرنا وانعطفنا في المنحنيات، بان لنا الوادي الكبير.

عند السابعة والنصف، الراعي وقطيع الغنم والماعز، يقطع طريقنا ليعتلي الجبل بحثاً عن مرعاه، خطوتين للأمام اقتربنا من شجرة الجوز الكبيرة التي تتدلىّ لتغويني بزهرها في الربيع. أوراقها و قِدم جزعها، صدأ أوراقها في الخريف.

بضعُ أميالٍ قليلة، الأطفال اللبنانيون داخل سور مدرستهم الصغيرة، ينتظرون أن يرنّ الجرس. أما على الأمتار الأخرى، أذوب في الحقول الشاسعة على الجهتين، هناك أطفالٌ لاجئون يحملون أكياساً ليجمعوا ما تبقى في حقول البطاطا لأهلهم، الضباب يحلّ بكثافة وأغرق لألاحقهم  بنظراتي. لأصطدم بالمشهد الذي يكويني يوميّاً لمرّات، فتياتٌ لاجئات وأمهاتهن يجنين المحاصيل، أو يقمن بتركيب أنابيب المياه والعديد من الأفعال القاسيّة الأخرى. يَصلون لهذه الحقول فجراً كلّ يوم، ويعودون مع المغيب إلى خيمهم.

تتغير المعادلات عند وقوف الباص، الساعة تدقّ الثامنة والطلبة يهرعون إلى محاضراتهم. حساباتي تختلف هنا، لا بدّ لي من التركيز والخروج بالحصول على هدفي من هذا المكان. أعمل على ضبط نفسي، كي لا أغرق في الهرب بنظراتي خارج القاعة من النوافذ التي تحددّ مشهد الحقول القريبة وما يحيط بنا من مخيمات. أغرق بالبحث عمّا ينسيني ما أراه وأتجرعه.

مع الغروب أعود إلى المنزل بذات الصيغة، والقطيع يصطفُّ بالدور لتجمع حليبه السيدات. أغرق مع محادثة صبية، صادفتها هاربة من رمي الحجارة الذي واجهته من زوجها وأبيها، لأنّها لاتريده، ووالدها يصفّ بجانبه.

أغرق في السماء الواسعة، في الجبل والسهل وكلّ الطبيعة المواسية لوجودي، بينما الشباب في الحافلة يغرقون في الاستمتاع بألعاب ناريّة، هربت من عيش نيرانها على أرض الواقع قبل سنوات. أصلاً لا أعرف كيف نجوت، وكيف بكى أول طبيب أسعفتني إليه أمّي في هذا البلد، ليخبرها أنّ ابنتها محظوظة بنجاتها عند توقف النزيف الداخلي الذي اصابها  في أذنها جراء شدّة القصف.

أهي محظوظة أم أنا، لا أعرف تحديدا! شعور الأمومة وحياتها، تركيبة مختلفة في الوجود. لا زلت أنظر للحبر على أوراقي، و أخشى أن تنظر أميّ لجسدي الأزرق بعد كلّ جلسة كهرباء أُعَالج بها. لازلت غرقى بمراحل التفكير، والإستشفاء مما أنا فيه. أغرق بفنجان قهوة، أغليه بهدوء، أستنشقه جيداً كمدمني الدخان، وأشرب بجانبه كأس زهورات على نافذة المطبخ.  أُشبِعُ عينيّ  من ورق الخريف، من صور عمري، والإبحار حتى إنجاز ما أطمح.

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »