منتهى شريف
ارتبكت تفاصيل وجهها وازدادت شحوباً, فأشاحت بعينيها هاربة من لحظة انفجار دمعها المسجون خلف محجر الروح.
كانت مكالمة قصيرة لم تتحدث فيها أم سامي ولا كلمة, وبدت وكأنها تلقت خبراً صاعقاً.
رأتها أُم جبران من بعيد ترمي الجوَّال, وتمسك الفرشاة وتفرك الأرض بقوة, ثم تعيد سكب الماء من جديد, فأصابها القلق وصاحت بها: “شو صاير لك؟”
عملت أم سامي في تنظيف البيوت بعد أن أصبحت نازحة في بلدة غريبة, واضطرت لاستئجار بيت يحتويها مع أولادها الأربعة, وكانت قد باعت كل ما تملك من ذهبها, وقدمت ثمنه لزوجها الذي سافر هارباً لألمانيا باحثاً للعائلة عن فرصة جديدة للحياة.
حاولت الحفاظ دوماً على طبعها الهادئ وابتسامتها ولطفها وهي تنتقل من بيت لآخر, فتركت أثراً إيجابياً لدى معظم نساء البلدة اللواتي تحدثن بإعجاب عن نظافتها وحسن تعاملها, وسرعان ما تعرفت عليها المحامية سلوى, فطلبت منها أن تقوم بتنظيف بيت والدتها العجوز أم جبران ليس فقط من أجل القيام بالتنظيف بل أيضاً من أجل أن تؤنس وحدتها.
اليوم لم تتحدث أم سامي كالعادة، أنهت المكالمة الهاتفية, ومضت لعملها.
كانت تحاول تطهير كل مكان تدخله, فتمسح الأرضَ وتسكب الماء المعقم, وتعيد الفرك مرات لعلها ترتاح؛ فالدماء التي مرت من فوقها هاربة ليلة نزوحهم ليست بغريبة, إنها دماء جيرانها وأقاربها الذين قتلوا هناك في بلدتها البعيدة.
حاولت أن تنسى مراراً, لكن اللون القاني الذي صبغ أصابع قدميها الحافية -في ذلك اليوم- لايزال يوخزها برائحته على الرغم من هوسها الدائم بالماء والصابون.
نادتها أم جبران: “حاجي تنظفي كلها أسبوع وبتسافري لعند زوجك, وبرجع أنا وحيدة، تعالي نحكي”.
كانت العجوز تشكي لأم سامي وحدتها، بعد موت أبو جبران وهجرة أولادها الخمسة، وتعدد كل مساءٍ أمراضها ثم تقول: “شو النفع إذا ابني دكتور وبعيد عني؟ ست أولاد وما حدا منهم هنا يؤنس وحدتي!”
تعيش أم جبران على ذكريات لم يبق منها سوى الصور على جدران بيتها, وهاتف لم يعد ينقل أصواتهم إلا كلَّ حين، حتى ابنتها سلوى المتزوجة في نفس المدينة كانت دائمة الانشغال عنها، ونجحت أم سامي بتلوين أيام العجوز بحكايات جديدة مختلفة, فلم تعد تنتظر الموت, وخلصتها من ذاك الإحساس الموحش بالفراغ ومن الانتظار الدائم بلا جدوى.
لم تنتبه أم سامي لصوت جرسِ الباب, إلا بعد أن نبَهتها العجوز؛ دخلت سلوى مندفعة، وسلمت على والدتها العجوز, و ناولت أم سامي جواز السفر مؤكدة بأنه بات جاهزاً، فقد كانت قد وعدتها أن تساعدها باللحاق بزوجها بعد أن تمت الموافقة أخيراً على طلب لم الشمل.
استلقت سلوى على كرسي جانب أمها الحزينة التي هزت برأسها قائلة: “رح ضل لوحدي!”
قالت سلوى ساخرة : “يمكن الوحدة أحسن بكثير من …”
ردت أمها بغضب: “من شو؟ هذه حياتك وأنت من اختارها، أليس كذلك؟”
بلعت دموعها بصمت وهي تفكر كيف عساها تخبر والدتها بما تشعر به، الإحساس القاتل بالوحدة وهي بجانب زوجها، كيف تخبرها أن من تزوجته برضاها بات وحشاً يغتصب روحها كل ليلة ويتركها في حالة صراع بين مهنة تدافع فيها عن النساء, وحقيقة قناعٍ تلبسهُ كل صباحٍ لتكمل تمثيل دور الزَّوجةِ الراضية لتحمي أطفالها من اليتم الذي يحتمه طلاقها، فالقانون الذي تعمل تحت ظله مهترئ ولا عدل فيه.
هي التي تبكي وحيدة كل ليلةٍ في كوابيسها, وتناجي الصباح كي يعتقها من رجل تصحر قلبه متحججاً بالحرب التي أقعدته بدون عمل, فباتت التسلية الوحيدة له التفنن بتعذيبها. لم تخبر والدتها بأنها في آخر مرة مرضت فيها وارتفعت حرارتها رفضت أن تذهب للطبيب لأنها تعرف حقيقة مرضها؛ ” إنه الخذلان الذي لا دواء له”.
لقد نجحت الحرب بكشف حقيقة الكثيرين و تعريتهم، قالت في نفسها ساخرةً: “عاكسنا الحظ منذ بدء تكويننا, عندما خُلقنا نساء في وطن لا يحترم الإنسان”.
قرأت العجوز مخاوف ابنتها, فقالت بصوتها حاسمة: “يللا خلينا نحتفل بأم سامي هلق, وحدة منا على الأقل رح تعيش أخيراً بسعادة”.
هرعت سلوى اتجاه أم سامي, وخطفت الفرشاة من يدها، وبدأت تراقصها ضاحكة وهي تقول: “أخيراً يا أم سامي” وأطلقت العجوز زغرودة طويلة أيقظت أم سامي من ذهولها, وبدأت تدور حول نفسها وهي تضحك وتقول: “أي أخيراً، أخيراً”
ولاح لها وجههُ, وعيناهُ الخائفتان لحظة هروبه, وعادت كلماته الدافئة لأسماعها, ووعده لها بعدم تركها وأطفالها وحدهم, وارتسمت أمامها تلك اللحظة التي خلعت فيها خاتم زواجهما لتكمل المبلغ المطلوب ليستطيع السفر.
توقفت فجأة عن الدوران وقالت بصرخة ممزوجة بالدموع:
“أي أخيراً أبو سامي بعث لي ورقة الطلاق، واعتذر عن لم الشمل”.
ساد الصمت للحظات, وملأت الدهشة وصدا كلماتها المكان.
ثم التقطت الفرشاة بهدوء, وسكبت الماء على الأرض ومعه الكثير من دمعها
وراحت تنظف آثار الخيبة من جديد.
خاص “شبكة المرأة السورية”