نبال زيتونة
لطالما امتزج حضور المرأة في الفنّ التشكيليّ مع الفكرة الفنيّة، وكان حاملاً لها. فكثيرة هي التجارب التي نضجت فيها هذه الرؤية، وتخلّصت من تقييد المرأة في جوانب سطحيّة لا تتعدى حدود الجسد..
ولعلّ الفنان التشكيليّ السوريّ أمير طراد، أهمّ الذين وثّقوا الوجع السوريّ، ورسموا تضاريس الألم من خلال “بورتريه” لوجه امرأة في حالات متعدّدة ومتنوّعة، عكس برمزيّته ودلالاته التعبيريّة الألم الإنسانيّ، وشكّل عامل دهشةٍ وإثارة لما يؤرّخ له من وجع المرأة السوريّة ومعاناتها عبر تاريخها الطويل، وصولاً إلى المآسي التي تحمّلتها في مرحلة الثورة السوريّة، وعلى مدى سنوات الحرب الثماني..
تشابهت وجوه نسائه حيناً، وتنافرت أحياناً. فكانت هويّتها الغياب، وزادها القلق. تبوح بالحزن حين لا تنفع الأقنعة. قبائل من النساء يكبّلها القمع السلطويّ، ومومياءاتٌ توشك على الكلام. خوفٌ وغضب وألم ومعاناة، تؤرّخ وجع الزنزانات، ودروب النزوح واللجوء برّاً وبحراً وفي كلّ اتجاه. عنوانها الأوضح القوّة والتحدي. هي المرأة السوريّة كما جسّدها أمير طراد في “بورتريه”!
أمير طراد – طراد خليل:
فنان تشكيليّ سوريّ، من مواليد عامودا عام 1956. درس الأدب الإنكليزيّ في جامعة حلب. عمل في المسرح القومي وفي النادي السينمائيّ في حلب بين عامي 1977 – 1990..
تعرّض للاعتقال في زمن الأسد الأب عام 1987، على خلفيّة تهمة الانتماء لرابطة العمل الشيوعي، التي طالت الكثيرين غيره في تلك المرحلة.
خرج من سوريا إلى غير رجعة عام 1995، ليحطّ رحاله في ألمانيا، حيث عمل في المسرح، ثمّ عاد للرسم عام 2000.
عن اسمه يقول أمير: إنّ والده عمل على تغيير اسمه بوصول البعثيين إلى السلطة، وكانوا لا يحبّون هذه المعاني. وكان اسمي الذي أحبّ “أمير”، وناداني به الأطفال في المدرسة، وأسرتي في البيت. دفعت ضريبة الاستبداد حتى في تغيير اسمي.
وعن بداياته مع الرسم يقول: رسمت منذ الطفولة، وكان عنواني الكبير “الألم الإنسانيّ”، وقد جسّدته في خطوط وألوان ولوحات.
وقد زاوج الفنّان بين الألم الإنساني ووجه المرأة، حيث كان مدخله إلى التعبير، عبّر من خلاله عن هذا الألم بكل أشكاله وتلاوينه. وعن ذلك يقول:
إنّ وجه المرأة أقدر على التعبير عن الألم!..
وقد تعرّفت ألم المرأة السوريّة في وقت مبكّر جدّاً من حياتي. هناك في إحدى زنازين نظام الأسد الأب، في السريان القديمة بحلب، كنت أسمع صوت “زينب”، الفتاة السوريّة الكرديّة، في الزنزانة المجاورة، تقول؛ “حاضر”!.. من خلال صوتها رسمت صورة المعاناة التي كانت تعيشها في ذاكرتي، وتخيّلت حجم الألم الذي يجتاحها.
وذات يوم أدخلوني إحدى الغرف، لأنتعل حذائي الذي كنت أحمله تحت إبطي، يومها رأيت وجه “زينب”، وعرفت أنّها صاحبة ذلك الصوت، جارتي في الزنزانة. رأيتها على سرير عسكريّ، تلتحف بطانيّة عسكريّة. كان وجهها جميلاً كما رسمته في مخيّلتي، وباعتباري ممثّلاً سمعت ما قالته عيناها؛ “لا”، مع ابتسامة توحي بالخوف. انتعلت حذائي وهي تراقبني. خرجت من الغرفة وظلّت نظراتها تتابعني، ومازالت!.. صار وجه “زينب” الذي ينضح ألماً موضوع لوحاتي.
وعن العنف الممارس ضدّ المرأة، العنف المتجذّر في التاريخ، تحدّث أمير طويلاً عن رمزيّة المرأة في “الأمّ شجاعة” (Mutter Curag)، في مسرحيّة برتولد بريشت. وقال:
كانت تلك الأمّ في زمن الحرب، تموّه وجهها كي لا تتعرّض للاغتصاب، هي الوطن برمزيّتها، الوطن الذي كان مغتصباً بالكامل.
“الأمّ شجاعة” جسّدتها المرأة في الحالة السوريّة في المعتقلات، تحت قصف والبراميل وكلّ أنواع الأسلحة، وبين براثن الحصار. جسّدتها المرأة السوريّة في معاناتها في رحلة اللجوء، في البرّ والبحر، وفي العراء المخيّمات. جسّدتها الأمّ السوريّة عارية إلا من ألمها. “البورتريه” يعبّر عن كل حالات العنف التي تعرّضت لها تلك المرأة، وهو يجسّد الموزاييك السوريّ على امتداد مدنه، وبمختلف أطيافه.
وكثيراً ما يجمع “البورتريه” بين معاني الألم إلى جانب الغضب والقوّة. فيقول:
أرى المرأة بوجهها الإيجابي، وأتعاطف معها. أرسمها تتعرّض للعنف، في حين أميّز بوضوح ملامح قوّتها، فهي ليست ضعيفة ولا يائسة. أرسم الوجه الإنسانيّ للمرأة، وأصوّرها إنسانة تمتلك الجمال والقوّة رغم ما تتعرّض له، بل وتستمدّ جمالها من قوّتها.
وعن التآلف والتنافر العجيب في لوحاته يقول:
أتفانى في خلق هذا “الهارموني” بين الأنا والموضوع.
وعن التعبيريّة في الفنّ التشكيليّ يقول:
التعبيريّة هي إحدى الوسائل الأقدر على التعبير عن الألم الإنسانيّ، والأقدر على الخوض في متاهات النفس البشريّة. وما عليّ إلا أن أمسك بروح اللوحة.
الإروتيك لا يعبّر عن ألم المرأة القابعة في الزنازين، تحت سياط سلطة القمع. والفانتازيا لا تستطيع سبر مجاهل الألم.
ولعله يرى في توظيف الفنّ والثقافة عموماً، ضرورةً لإحداث تغيير في الوضع السوريّ، طالما عجزت السياسة عن إحداث هذا التغيير، يقول:
لم يرقَ الفنّ، ولم ترقَ الثقافة عموماً لتكون بمستوى الحدث السوريّ. كان كلّ شيء قاصراً أمام عظمة حركة التغيير، وقلائل هم الذين ضحّوا في سبيل ذلك بالمقارنة مع الكمّ الفنيّ الموجود على الساحة السوريّة. فكان التعبير نوعيّاً، ولم يكن كميّاً.
وأخيراً فقد سعى الفنّان جاهداً لتوضيح القيمة التعبيريّة لأعماله، في مبالغات وتحويراتٍ كثيرة في الخطوط والألوان. فتألّقت الفكرة بقدرتها على التعبير عن الانفعالات النفسيّة جرّاء المعاناة، التي عاشتها المرأة السوريّة. واستطاع بحسّه الفنيّ العالي أن يجسّد خلجات تلك النفس، وما ينتابها من قلق وهواجس وصراعات.
خاص “شبكة المرأة السورية”