Search
Close this search box.

ذاكرة الحرب في سينما ما بعد الحرب

ذاكرة الحرب في سينما ما بعد الحرب

دمشق – سلوى زكزك

للحرب ذاكرة، منطوقة وحية، بصرية وصورها المستعادة مازالت تحافظ على عدوانيتها، على وحشيتها، وعلى شحنات الألم الدافق والسكن في الروح والجسد.

لا شيء قابل للنسيان، حتى ألم التكور على جرح القلب الصامت يأبى إلا أن يطلق أنينه المر والقاهر، ويكرر السينمائيون رواية حكايات الحرب، يكررون المشاهد وإن غيروا الأسماء، يذهبون لذات الأمكنة التي مزقتها الحرب، لا ينتحلون صفات الضحايا ولا أشكالهم، بل يثبتونها في عين الزمان والمكان، وتتوقف اللقطة هناك، لا لتصمت، بل ليبدأ النشيج أو الحوار، لا فرق، أكشن! ويستعيد كل شيء  صوته ورائحته ووجهه.

بتاريخ السادس والعشرين من آب عام 1999 شنت روسيا الاتحادية حربها الثانية على جمهورية الشيشان، رداً على غزو داغستان من قبل اللواء الإسلامي الدولي الذي يتخذ من الشيشان مقرا له، أنهت هذه الحرب استقلال الشيشان الذي أعقب الحرب الشيشانية الأولى.

المخرج الروسي ألكسندر سوكوروف وفي فيلمه الروائي المسمى (الكساندرا) والمنتج في عام 2007، وهو نسبة إلى اسم البطلة الثمانينية التي  أدت هذا الدور في الفيلم، وهي راقصة باليه متمرسة لكنها عوقبت بالحرمان من عملها ومن ثم بالطرد خارج روسيا فهاجرت إلى أمريكا لتعود إلى روسيا في ع2002. وهي شخصية محورية شبه مطلقة من الناحية الفنية ومن ناحية ادارتها لرواية القصة ومن حيث بناء وحضور كافة الشخصيات الأخرى في الفيلم.

الكساندرا جدة أحد الضباط الذين رست قاعدتهم العسكرية في غروزني عاصمة الشيشان، لا أعمال قتالية تجري أثناء الفيلم، تبدو الحالة العامة أقرب إلى حرب باردة عسكرياً، لكنها حرب متقدة وحية في المدينة المهدمة والممزقة، وفي قلوب وعقول أبنائها المسكونين بسؤال إلى متى؟ وكيف سيكون الخلاص؟

تقرر الجدة زيارة حفيدها الضابط في قطعته العسكرية بعد سبع سنوات مرت دون أن تراه خلالها، استعراض الطريق وصعوبته وتهالك الحافلات العسكرية والحال المزري  والبدلات  العسكرية المهترئة وشبه الحائلة  والجوع الذي يحيط بأحوال الجنود الروس مجرد مقدمة للحدث الأساسي للفيلم، تعّبر الجدة الكساندرا مراراً وتكراراً عن الرائحة الواخزة للحديد ولرائحة الرجال المهجورين والمتروكين في عراء الاختلافات العرقية والقومية  وسؤال لماذا نحن هنا؟ أو ماهي الخطوة التالية؟ خاصة وأن كل شيء ثابت على حاله، مجرد حالة من الترقب الحذر، وحدود فاصلة لا تتجاوز حاجزاً معدنياً يحتاج عبوره لموافقة عسكرية أو كلمة سر قد تكون (أنا جدة الضابط فلان) فقط.

يبدو حضور الجدة ألكساندرا لافتاً بين جوع العسكريين المتجهين إلى ما يسمى جبهات القتال، حضور طاغ في أنثويته وفي روسيته، سيدة ثمانينية بملابس  فضفاضة ومريحة، بحذاء عبارة عن بوط مريح ولا يشبه الأبواط العسكرية أبدا، قرطين وخاتم وسلسال ذهبي فلوكلوري الطابع، بحجرة  أرجوانية اللون ترتديها غالبية النساء الروسيات، وبضفيرة معقودة إلى الخلف ومحبوكة بمشط خشبي بالغ الجمال وروسي بكل ما تعنيه الهوية من معنى.

حضور طاعن في السن وفي غرابته، يتفاجأ العسكريون وهم يركبون قطارهم الحربي بوجه أنثوي، لا وقت للتساؤل، تطوف المرحبا والتحية اللطيفة في المكان وتغطي على همجية التحيات العسكرية التي تجمد في الحلق غالبا، يتأنسن الجو العام بحضور الأنثى، تصمت العبارات الموحية البذيئة لأن المرأة جدة، ولا بد أنها تخص عسكرياً رفيع المستوى بوسعه تأمين الموافقة على زيارة قريبة له إلى قطعته العسكرية، يتداخل الإنساني بالرمزي وتفوح رائحة حنين غامض وصامت، وبعده غرق وذهول في وجوه بعيدة مكانياً داهمت أحبابها الآن بمجرد حضور الجدة.

تتعرف الجدة إلى حفيدها من جوربيه الصوفيين التي حاكتهما له، تتعرف إليه صامتاً لا  صاخباً كعادته ومليئاً بأسئلة وجودية لم تكن ذات معنى من قبل، سؤال القوة وسؤال التعرف إلى الذات بعد قتل الكثير من الضحايا. سؤال البقاء هنا على الجبهة إلى متى ولماذا؟ سؤال المعنى عن من هم، ومن نحن؟ والأهم سؤال الهوية الذاتية الذي بات مغلفاً بأمر عسكري وبرتبة إضافية على الكتفين.

يبدو مشهد زيارة الجدة للمدرعة ودخولها فيها رغم صعوبة ذلك لامرأة في عمرها، من أروع المشاهد، نشعر بالاختناق وبالهواء الذي ينفذ حسب وصفها, بالضيق وهي تسأل عن طاقة المدرعة الاستيعابية، بالهزالة والمدرعة المدمرة ترتبط في عملية إغلاقها بحبل بائس ورفيع، لم يؤنسن حضور الجدة هنا الحالة العامة داخل المدرعة, بل بدا حضورها خانقاً ومؤلماً، نتفاعل على أمل أن تخرج سريعاً إلى الضوء والرحابة.

يغادر العسكري الحفيد قطعته العسكرية في مهمة لمدة خمسة أيام، فيعتري الضجر الجدة، تخرج من المعسكر، تتجه نحو السوق الشعبي، تلتقي بالشيشانيات يبعن الخضار والدخان والبدلات العسكرية، يقايضن الجنود الروس الأعداء افتراضياً على  علب  الدخان مقابل بوط عسكري أو سترة عسكرية سميكة ودافئة، تزور  الجدة إحدى الشيشانيات في بيتها، تبدو اللغة هنا عائقاً ودليلاً على اختلاف الهوية، على الشيشان تعلم الروسية، لكن الروس لا يتعلمون الشيشانية، فما الحاجة لذلك والقوة هي لغتهم الحالية للتواصل.

في طريق العودة يرافق الجدة الياس، الشاب الشيشاني  الذي يحملها رسالة تقول: إلى متى ويكفي كل هذا، هنا تبدو غروزني مجرد شبح لحرب طالت المباني والبيوت والماء والكهرباء، تكالبت على آمال الشباب وحاصرتهم إما في قرار الرحيل والهجرة أو التجييش في خندق يخنقهم ولا يشبههم أصلاً، تبدو غروزني أراض ممتدة شبه يابسة طالتها يد الحصادات ويد مستقبل غامض ومحفوف بالخراب ومكلل بظلال الحرب الطاغية.

تعود الجدة لتودع حفيدها وتتقصد توديع النساء الشيشانيات مؤكدة عليهن بزيارتها بعد أن أعطتهن عنوان بيتها.

هل هي دعوة للنسيان؟ للبدء من جديد؟ خاصة أن النساء كنّ قد أكدنّ أنهن لم تخضن الحرب ولم تخترنها.

عبثا  تسعى الذاكرة للنسيان، وكل التآلف الوجداني يصطدم بسؤال لماذا ومن سيدفع الثمن  أو من سيقرر  موعد وآليات البداية من جديد؟ ليس على أنقاض الذاكرة فهي لا تتهافت أبداً، بل على الرغبة الفعلية ببناء الجديد الذي قد يلهم لشراكة متساوية ومنصفة.

ذاكرة الحرب تحيا ابدا وإن في الصور أو في فيلم طويل.

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »