رهادة عبدوش
لطالما كانت الأعياد في سورية كثيرة، فهي لم تقتصر على الأعياد الدينية والوطنية، بل تخللتها احتفالات اجتماعية كثيرة.
وآذار “آدارو” باللفظ البابلي ويعني الصوت العنيف، و “الجامد” باللغة السريانية، والنبات الزَهْريّ الخريفي بلغات أخرى سوريّة، هو شهر الأعياد كما يسميه السوريون، بدءاً من الثامن من آذار عيد المرأة مروراً بالخميس الثاني من آذار عيد المعلّم وليس انتهاءً بعيد الأم والنيروز في الحادي والعشرين من آذار، فقد ينتهي الشهر بأعياد الشعانين بحسب تغيّر المواعيد الأرثوذكسية والكاثوليكية.
ترصد حركة الأسواق ما تعيشه البيوت في سورية، فهو المرآة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات، ففي دمشق أسواقٌ تحتفل بحدّ ذاتها بتلك المناسبات لتلوّن الواجهات بحسب المناسبات وتتغيّر العبارات والإعلانات والدعايات في وسائل التواصل الإذاعي والتلفزيوني والطرقي.
كل ذلك نجده في الحميدية والصالحية والشعلان والقصّاع وباب توما والجسر الأبيض ومساكن برزة والدويلعة وكشكول بتنوّع العائلات السورية في أذواقها وأوضاعها الماديّة والمعنوية.
فليس كلّ من يبحث في السوق أتاها ليشتري، وليس كل من زارها قاصداً هديّةً لأحد ما، فالحياة تغيّرت والحربُ لوّنت طرقات الشام باللونين الأسود والرمادي لتبدو كئيبة كسكّانها وزائريها والمقيمين فيها والملتجئين إليها، وأفرغت الجيوب لتصبح الهدايا رفاهيةً في ظلّ الأجور المحدودة والأسعار الخياليّة والاحتياجات الإنسانيّة والأوّلية التي في أغلب الأحيان لا يتم تسديدها.
“أزورها لألتقي بذكرياتي”
هكذا لخّصت بارعة “أم معاذ ” جولتها في سوق تفضلي يا ست بالحميدية، عندما سألتها عن رأيها بنوعية القماش الذي أشتريه فطريقة تلمّسها للقماش تنمّ عن لمسة خبير بأنواع وجودة الأقمشة، لأعرف منها أنّها كانت خياطة معروفة في جوبر، وما زيارتها للأسواق إلا كنوع من البحث عن ذكريات عاشتها في هذه الأسواق لتشتري ما تحتاجه من مستلزمات الخياطة.
“هلق ماعاد عندي محل ولا بيت ولا بستان ولا زباين متل أيام زمان”.
نزحت مع آخر من نزحوا من عائلتها لتلجأ إلى أحد مراكز الايواء في العاصمة، تهدّم البيت واحترق ما فيه من ماكينات وفساتين كانت مجهّزة للعرائس ومجلّات وصور وأحلام كثيرة.
“كثير من الأحيان أزور تلك الأسواق وأشتري أقمشة رخيصة على قد حال الزبائن وأخيط ملابس للجيران، وفي الأعياد يزداد العبء عليّ فأخيط كثيراً بلا أجرة فقط لأحاول ان أسعد من حولي، الألم الذي عشناه أعطانا أيضاً مقدرة على مساندة بعضنا”.
“جرزة البقدونس بمئة ليرة وكيلو اللحمة بأربعة آلاف”
وتلتقي معها ” أميرة”، التي كانت تعيش في حرستا، وحدّثتني أثناء تجوالها في سوق مساكن برزة، فهي أيضاً تصنع السعادة بقلبها الحزين، “كانت الأعياد عندنا مواسم جميلة نسهر ونضحك ونفرح، لم نكن أغنياء لكن لم نكن نعرف شيئاً عن السياسة والحرب، عرفنا كم كنّا نعيش بظلم وقهر عندما طالبنا بقليل من المطالب، فانهالت علينا ألوان التنكيل، ولديّ ماتا في السجن، والباقي هربوا بالبحر، وقلبي تائه بين الشام وبين أولادي”.
ربما بكلامها اختصرت حال السوريين، فهي تعيش مع زوجها المعاق وابنتيها مما يرسله لها أبناؤها حسب ما يستطيعون توفيره من أموال الإعانة، فقد تركت مركز الإيواء واستاجرت بيتاً وتعمل بحياكة الصوف فتشتري كنزات من البالة وتعيد حياكتها بعد غسلها وتبخيرها.
“كنا في الأعياد نحتفل في البيوت مع الأسرة الكبيرة ونغنّي ونرقص ونشوي اللحم والتبولة ونصنع فرحاً كبيراً، لكن اليوم لم يعد لنا نفساً لكلّ ذلك، ولم تعد الأموال تكفي لشيء، سعر كيلو اللحمة أربعة آلاف ليرة سورية، وجرزة البقدونس تصل أحياناً لمئة ليرة رغم أنّ سوق المساكن للخضار هو أرخص من غيره لكن الحال أصبحت لا تطاق”.
“طعامنا بلا طعم ومائنا لا يسدّ الظمأ”
وليست النساء فقط من تتجوّل وتتحسّر في الأسواق بل الرجال أيضاً، فهم خسروا عملهم أو خسروا أولادهم أو بيوتهم، ومنهم من ينتظر آخر الشهر ليقبض الراتب من الدولة، والذي لم يعد يتجاوز الثلاثين ألفاً للفئة الثانية والخمسين ألفاً للفئة الأولى بعد سنوات كثيرة من الخدمة أي ما بين الستين والثمانين دولاراً شهرياً بأفضل الأحوال.
“بيبيعونا بالدولار وبيقبضونا بالليرة، كيف بدنا نعيش اعربيلي ياها”، هكذا جاوبني “حسان” أبو جابر وتابع: “أنا لم أخسر بيتاً ولا عملاً، لكن الأحوال تبدّلت كثيرا،ً كان الراتب يعادل 300 دولاراً، الآن يعادل الثلاثين دولار، والأولاد لهم مصاريفهم المدرسة والبيت والصحّة والماء والكهرباء والهاتف، الأسعار والاحتياجات زادت عن الحدّ الطبيعي للتحمّل والأجور انخفضت كثيراً عن الحدّ الطبيعي للعيش الكريم، طعامنا بلا طعم ومائنا لا يسدّ الظمأ لكننا نحاول العيش قدر الممكن”.
في الأعياد يحاول حسان مع زوجته ان يبحثوا عن أشياء رمزية يمكن أن يصنعوا منها ما يستطيعون ليتبادلوا الهدايا فهي عادة جميلة تصل بين الناس لا يودون قطعها فالسوريون يحبّون التواصل ولو بوردة.
الأسرة السورية تحتاج إلى 200 الف ليرة شهرياً
يصدر المكتب المركزي للإحصاء – مديرية التجارة والأسعار – شهرياً الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك الذي يعطي صورة إجمالية عن تطور أسعار السلع والخدمات المستهلكة من قبل الأسر السورية.
مهمة الرقم القياسي لأسعار المستهلك هو قياس التغير النسبي في المبلغ المدفوع لشراء سلة الاستهلاك من أصناف سلع وخدمات من شهر إلى شهر ومن سنة إلى سنة, وهذا يساعد في تحليل الأداء الاقتصادي عبر قياس التضخم على مستوى معيشة الأفراد والأسر وغيرها من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.
مع الأعياد يصل معدّل الانفاق إلى 290 ألف ليرة سورية
ويقول “محمد سرحان”، وهو اسم غير حقيقي لموظف في المكتب المركزي للاحصاء (فقد تحفّظ عن ذكر اسمه لأنّ الرأي يحتاج لموافقة من الوزارة): “حسب أرقام المكتب المركزي للإحصاء حول معدل انفاق الأسرة وفق مسح 2009– 2010 كان متوسط الانفاق يصل إلى 30,826 ألف ليرة، وأرقام مسوحات لبعض المراكز في المحافظات عن نفقات الأسر السورية، وصل آخرها إلى 320 ألف ليرة سورية. لكن هذه الأرقام التي تنشر من وقت لآخر لم تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الاستهلاك بين محافظة وأخرى مع التغيير بالعادات الاستهلاكية، فمن الصعوبة بمكان إجراء مسح لنفقات الأسر السورية في الوقت الراهن نتيجة الظروف الراهنة وعدم الاستقرار، والمسح المذكور بحاجة لاستقرار ورصد مبلغ خاص لهذه العملية مع استبيانات اجتماعية. ويقوم المركز ببعض المسوحات لكن لا ننشر معظمها خوفاً من البلبلة. لكن نقدّر في المكتب المركزي للإحصاء متوسط إنفاق الأسر السورية حوالي 200 ألف ليرة، منها 65 % للغذاء، وهي تزيد في الأعياد وفي شهر رمضان، ويمكن تقدير معدل إنفاق الأسرة حالياً بناء على معدلات التضخم والأرقام القياسية للأسعار والتي من المفترض أن تتراوح ما بين 275 إلى 290 ألف ليرة سورية”.
تعددت المسوحات والجوع واحد
وفي مقارنة بسيطة مع ماجاء بتصريح السيد سرحان مع الرواتب والأجور فإن الأسرة المؤلفة من خمسة أشخاص بحاجة لمبلغ 200 ألف ليرة سورية للطعام والشراب والاحتياجات الأساسية بدون ذكر أجور البيوت ولا الصحّة، فإن أضفنا 100 ألف ليرة سورية فإن الأسرة السورية المؤلفة من خمسة أشخاص تحتاج إلى ثلاثمئة ألف ليرة سورية لتعيش حالة الإكتفاء دون رفاهية.
ففي مسح اجري عام 2014-2015 مع منظمة الغذاء العالمية حول التغذية في سورية “الأمن الغذائي” كانت النتائج الأولية تشير إلى أن هناك 30 % معدمين غذائياً و50 % قابلين لحالة الانعدام الغذائي و20 % آمنين غذائياً.
و أظهرت نتائج مسح تقييم الأمن الغذائي 2017 الذي قام به المكتب المركزي للإحصاء أن أقل من ربع سكان سورية يعتبرون آمنين غذائياً (بنسبة 23.4%) والنسبة المتبقية من السكان موزعة بين 45.6% ضمن فئة معرض (هامشي) لانعدام الأمن الغذائي ونسبة 31% غير آمن غذائياً.
وفي تفاصيل نتائج المسح الذي شمل 11 محافظة،، تبين أن محافظة طرطوس هي الأعلى نسبة في الأمن الغذائي بـ38.3%، على حين تعتبر محافظة اللاذقية هي الأعلى ضمن فئة معرض (هامشي) لانعدام الأمن الغذائي بنسبة 54.4%، على حين تعتبر محافظة السويداء الأعلى في معدل عدم الأمن الغذائية بنسبة 46.5%.
أما بالنسبة للقيم بالحد الأدنى فتعتبر محافظة حماة الأقل نسبة لناحية الأمن الغذائي بـ12.3%، على حين تعتبر محافظة السويداء هي الأقل في فئة معرض (هامشي) لانعدام الأمن الغذائي بنسبة 39.9%، والمحافظة الأقل نسبة في معدل عدم الأمن الغذائي هي اللاذقية بنسبة 10.7%.
وتم مسح تقييم الأمن الغذائي الأسري 2017 بالتعاون بين المكتب المركزي للإحصاء وهيئة التخطيط والتعاون الدولي ومنظمة برنامج الأغذية العالمي WFP الذي شمل أكثر من 5 آلاف أسرة معيشية في 11 محافظة والذي رصد الأمن الغذائي في سورية، وبحسب المكتب المركزي للإحصاء فإن هذا المسح ساهم من خلال نتائجه بتعزيز فهم تأثير الأزمة على حالة الأمن الغذائي للأسر المتضررة، وتحديد وتطوير استجابات التعافي المناسبة لدعم الأسر في تأسيس أو إعادة تأسيس سبل العيش لتحسين الأمن الغذائي، وتوفير تقييم موضوعي وتفصيلي لحالة انعدام الأمن الغذائي وأوضاع الهشاشة في سوريا.
الفقر ليس وليد الحرب بل سبباً من أسبابه
والسؤال يبقى هل الفقر جديد على السوريين؟ والجواب لا. فالحرب لم تكن سبباً للفقر بل هي سبب لتزايد اعداد الفقراء، فبالرغم من كثرة الموارد الطبيعية والثروات في سوريا إلا أن الفقراء وصلوا إلى ثلث عدد السكان قبل الحرب، وذلك بحسب دراسة عن تقرير الفقر في سوريا 1996 – 2004 بالتعاون بين الحكومة السورية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بهدف رسم إستراتيجية للحد من الفقر في سوريا، فقد كانت النتيجة الأساسية التي توصل إليها هذا التقرير هي أنه في عام 2003-2004 لم يتمكن حوالي 2 مليون سوري (11.4% من السكان) من الحصول على حاجاتهم الأساسية من المواد الغذائية وغير الغذائية. وباستخدام خطوط الإنفاق للفقر الخاصة بالأسرة المعيشية، يرتفع الفقر الإجمالي في سوريا إلى 30% ليشمل 5.3 مليون شخص.
ورغم كل ما ورد أعلاه، لا تزال في دمشق أسواق للأعياد تطوفها النساء والرجال منهم لإعادة إحياء الذكريات، ومنهم للبحث عن فسحة للفرجة والفرح علّ المحاولة تساهم في شيء من الأمل.