سلوى زكزك
على باب حديدي أسود كُتبت باللون الأحمر عبارة (مدخل ومخرج للنساء)، وترافقت العبارة بسهم استرشادي كبير أبيض اللون يدل على المكان لمن تتوه عن القراءة، وكأن صاحب الدكان يقول من هنا فقط تدخل النساء.
ظننته في البداية باب مصلىً للنساء تابع لأحد الجوامع، لكن لا جامع في المكان، ورائحة التوابل والزهورات توحي بدون تردد أن المكان محل بقالة وبذورية، كما هو شائع في دمشق كتسمية للمحال التي تبيع كل شيء من مفردات المونة والمطبخ.
عبارة صادمة
ما أرّقني بداية هو تلك العبارة الصادمة التي أخاف من أن تتحول لعبارة عادية، تشرعن إطلاق محال خاصة بالنساء ومقاهٍ أيضاً ومدارس وربما صيدليات أو عيادات، وإن كانت لغير اختصاص النسائية لكنها لا تستقبل إلا نساءً.
بررت بعض النسوة وجود العبارة أو على الأصح واقع حال الدكان لضيق المحل، والأسعار الرخيصة نسبياً، وتوافر كل الحاجات الضرورية في مكان واحد، وبالتالي فإن الاكتظاظ الناجم عن كثرة الزبائن يوفر ضغطاً على الزبونات، ولأنهن الأكثر عددا والأكثر معرفة بتفاصيل المطبخ والمونة والأكثر تبضعاً لها، فلم لا يكون لهن باب خاص. ومن وجهة نظري فإن هذا الباب يجلب زبونات جدد، أو يزيد من عدد المشتريات ويدر أرباحاً أكثر. وعندما قلت هل هو مسجد، استشاط البعض غيرة على الدين وعلى المسجد ومصليه، وكان غضب لم أفهم له مبرراً واحداً.
وتقول صديقتي إنها، ومنذ أربعين عاماً، كانت تدرس من المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية في مدارس مختلطة وكل الأمور طبيعية ومقبولة علمياً واجتماعياً، لكن بعد قرار فصل البنات عن الصبيان في المدارس، خاصة ما بعد المرحلة الابتدائية، بات الطلاب الذكور يهربون من المدرسة في الحصة الأخيرة لتتسنّى لهم رؤية البنات أثناء انصرافهن في المدرسة المعزولة جندرياً رغم قربها الجغرافي.
وكانت خطوة الفصل هذه، هي التي عززت مواقف المتصلبين، الذين يعارضون تجربة التعليم المختلط بذرائع مختلفة، وكلها ذرائع رثة لكنها ثابتة ومتزمتة، بل كست العداوة كلماتهم وتوعّداتهم حتى وصلت آذان الأهالي الآخرين، الذين ينقسمون إلى خائفين أو مترددين أو عدم راغبين في الفصل لكنهم مستسلمين للقرارت العامة. وبات بعضهم يعلن عن عدم استعداده أصلاً لتسجيل بناتهم في مدارس مختلطة، وباتوا مدافعين شرسين عن فكرة الفصل، ومستعدين لضربها مثلاً يُحتذى للحفاظ على الشرف الأصيل.
مبدأ التمييز الجندري
وكانت لبعض المعترضات على هذه الحالة وجهات نظر دينية بحتة، أي رد فعل عنيف، على أساس أن الفصل الجنسي الجندري، حتى بالمحال التجارية، هو من منشأ إسلامي، كما اعترضت الأخريات على إلباس التجاريّ لبوس المقدس. ولربما كانت ثمة رغبة معلنة لدى بعض النساء في توفير مكان محظور على غيرهن، ومتاح لهن فقط، هي أحد تلك الأسباب. لكن البائعين ظلوا ذكوراً، وإفراد باب خاص للنساء لم يخفف الازدحام بل زاده وبشدة، أي أن الأرباح تضاعفت بحجة الذود عن الشرف واستقلالية الحريم كما يُشاء لهن، حيث بات مصطلح (جماهير النساء) شائعاً. وتؤكد صديقتي أن بعض النساء ظللن يصرنّ على الدخول من باب الرجال، فكانوا يبتعدون عنهن مقدار نصف متر وهم وجلون متذمرون، إلا أن بائعاً في المحل ذاته يرفع لها يده بإشارة اللايك لأنه أصلاً يرفض الفكرة.
ثمة فكرة مرعبة أخرى تكمن وراء مثل هذا الإجراء، وهي ذريعة أن المرأة كثيرة السؤال ملحاحة، تحب التعرف على كل مكوّن بحواسها الخمس، وأن مدة تسوقها أطول من مدة تسوق الرجل، وأن استفساراتها لن تُجاب في ظل زحام كبير، بل والحال هكذا، تقوم النساء بإبداء آرائهن ببساطة، وقد يقدمن محصلة خبراتهن في التذوق لنساء أخريات، وأرى هنا أن الخصوصية الثقافية للمرأة ليست تهمة تحتاج حلولاً تمييزية تنفرد بتطبيقها عن إرادة الرجال.
وأشير هنا إلى أن وجود النساء معاً وتقديم محصلة الخبرات المتبادلة يرفع من معدل التسوق، ويدفع النساء لشراء مواد جديدة لم يخطّطن لشرائها أصلاً، لدافعين، أولهما دافع (الغيرة) وهي سمة مجتمعية تطلق على النساء غالباً، وتؤكد هذه السمة بين النساء أن الغيرة قائمة وحاصلة تجارياً هنا، وهي بالتأكيد دافع قوي لزيادة الشراء، وبالتالي الأرباح. أما الدافع الثاني فهو دافع الرغبة في تجريب أي جديد، وهو نازع إنساني جمعي عام، يحدث لكلّ من الذكور والإناث، لكنه يوظف هنا تجارياً بصورة بحتة، ويتم منه تحصيل مكاسب مادية واجتماعية، وربما دينية وشرعية أيضاً.
هل هو دافع شريف؟
في الحقيقة، إن أسوأ ما تم قوله في هذه الحالة هو ما أطلقوا عليه اسم “الدافع الشريف”، أي الخوف والحرص على عدم التحرش بسبب الازدحام، وأن بعض الرجال لن يأتوا إلا فقط للتحرش، والشارع متاح ومزدحم، والنساء نفسهن متاحات في الشوارع وفي الحافلات الضيقة والتي لم يعد أحد يتردد في استعمالها، ولو كان الكتف على الكتف والفخذ على الفخذ، ليس بسبب الشراهة الجنسية، بل بسبب الازدحام المرعب على وسائل النقل العام وقلة عددها ووعورة الطريق وطوله زمنياً ونفسياً وصحياً.
المؤسف أن يتم تقويم هذه الحالة بالحالة الإيجابية، ويتم دفع النساء من قبل ذكور العائلة للشراء من هذا المحل تحديداً وحصرياً، ومن المؤسف أن يكون هذا الإجراء بوابة مشرَعة لمحال أخرى ومحاولات حصرية أخرى، تبدأ من رياض الأطفال تنتهي بدور رعاية العجزة.
لكن، والحال هذه، ماذا تفعل النساء المتسوقات حيال البائعين الذكور؟ وحيال الميزان المذكر والباب المذكر، في وقت تخرج فيه فتاوى شرعية تمنع النسوة من النوم بمحاذاة الجدار لأنه مذكر، فتاوى تشيطن حتى الخيال الطفوليّ وتحصر النساء في دائرة المحرمات والتغييب للإرادة وحتى ضمن خيار التسوق.