Search
Close this search box.

أنين المنسيين

أنين المنسيين

سعاد الأسود

في ظل حربٍ أطاحت بالبشر والحجر وتركتْ قبوراً تضج بالآلام التي دُفنتْ مع أصحابها، بقيَ الأحياء موتى مع وقف التنفيذ ولا يفصلهم عن هدوء الروح وسكون النفس سوى ملاك الموت الذي يزورهم كل يوم، فلا يجد روحاً ليخطفها، فأرواحهم ذبلت وجفت منذ أمد بعيد.

مع بداية الأحداث وتسارع وتيرتها والقصف الذي طال أرواحاً وخلف معاقين وأيتاماً وأرامل ومآسي يندى لها الجبين، بدأت بالعمل على تمكين المرأة جسدياً ونفسياً وترميم ما يمكن من روحها، فكنت أسمع من القصص ما يدمي المقلْ. هذه قد مات زوجها و لفظ أنفاسه أمام عينيها، وتلك اعتُقِل زوجها تاركاً لها “كوماً من اللحم” بلا معيل، وتلك تداعب شعر ابنتها مبتورة الساق وتجاملها بابتسامة كاذبة تلتهم شفتيها.

عملتُ عدة سنوات إلى أن شاءت الأقدار أن أعمل في مخيم للنازحين، وقد كنت أظن أن المخيم هو هجين لطبقات مختلفة وشرائح متنوعة. كنت أظنه صورة مصغرة عن المجتمع الذي يضم الفقير والغني، و لكني للأسف كنت مخطئة بشدة، فالمخيم عبارة عن سجن صغير تذوي خلف قضبانه أرواحٌ قد جف فيها الضوء وبقيت همومها حبيسة عدسة المصور التي تضيق بآلامهم!

بحكم عملي كنت أستمع إلى قصص النساء كما أسلفت، وأقترح حلولاً عساها تخفف من وطأة الألم الذي يعايشنه، وقد فكرت صراحةً بترك العمل أكثر من مرة، فأنا بشر من لحم ودم، وتلك الهموم التي تنحني تحت ثقلها الجبال كانت كفيلة بإرهاق روحي وجسدي، و لكن واجبي وانسانيتي فرضا عليّ البقاء.

قصص كثيرة تزدحم في ذاكرتي عن الضحايا اللامرئيين، عن هؤلاء الذين هم وقود الحرب وضحاياها والذين قلما تٌسمع أصواتهم.

في أحد الأيام، فوجئتُ بالباب يُفتح على مصراعيه وقد تشكلت خلفه امرأة، كانت رقيقة الملامح رثة الملابس وكان الأسى يحتل عينيها ويتعلق بتقاطيعها تعلق الطفل بأمه، كأنه عاصرها أمداً فصار قطعة منها. تقدمت نحوي بخطاً متثاقلة ومترددة وصوت أقدامها يجرح الصمت الذي ساد المكان. جلستْ والحروف تزدحم ثم تنتحر فوق شفتيها قبل البوح و لسان عينيها يقول: “إني قد ضاقت بي الأرض بما رحبت”.

التقطت أنفاسها و بدأت ترتشف قهوة مرة كأيامها ولازالت عيناها تعانقان أرض الغرفة والدمعة البراقة تتأرجح فوق أهدابها، ثم بدأت تسرد: ” أنا أم أسامة من سكان هذا المخيم وأعمل في الأراضي الزراعية علني أجد ما يسد رمق أسرتي التي تتكون من أسامة وسبع بنات”.

عاد الصمت من جديد يكبل شفتيها والحزن يمطر من عينيها ثم استدركت: “أرجوكِ ساعديني، زوجي يريد أخاً ذكراً لأسامة وما هي إلا ستارة واهية يخفي بها شغفه بحبه القديم الذي وجده بعد سنوات طوال”.

عادتْ للبكاء الذي حطم قضبان كبريائها وكأن روحها تجمعت في عينيها. هرعتُ إليها بدون وعي وبعيداً عن برتوكول الموظفة، فأنا إنسان قبل كل شيء ثم أنثى تشعر تماماً بما يعتمل في صدر أم أسامة، ربتّ على كتفيها ثم ضممتها وطلبت منها أن تهدأ من روعها فـ”لكل مشكلة حل ولكل داء دواء” ، قلت لها.

ثم بدأتُ أشخصُ مشكلتها:

“أبو أسامة رجل يعاني مشقة الحرب وظروف المخيم والفقر وضغوط العائلة والأطفال ولعل غيابك لساعات في العمل قد ترك في روحه فجوة عاطفية. لعل الحوار بينه وشريكةَ حياته الجميلة قد انقطع حيناً من الزمن في ظل هذه الظروف الخانقة. الاهمال يا صديقتي يجعل الروح تذبل والرجل طفلً يحتاج العناية كما أطفالك تماماً. وكما أنكِ زهرة تحتاجين السقاية، اسقه اهتماماً وسدي ثغرات روحه بعطفك الذي أراه يشع من عينيك. كوني له بيتاً، يكون لك وطناً، وستضمحل صورة الأخرى في قلبه، فغياب العناية من خلقها”. هذا ما توجب علي قوله لها في حينها.

ابتسمتْ أم أسامة و كأن حديثي لامس روحها وأرضى هواجس نفسها بإيجاد حل، وودعتني وقسماتها تفيض بالشكر والامتنان.

مرت الأيام ولا تزال صورة الأنثى المضطهدة في عيون أم أسامة لا تفارقني و في أعماق روحي كنت أتلو صلوات الفرج و الخلاص لوجهها الغض الطيب.

و في يوم قد شحب نهاره سمعتُ إيقاع خطوات ألفتها تقترب من باب المكتب. شيء ما قد أمسك قلبي ثم اعتصره.

دخلتْ …

هي المرأة المحطمة الرقيقة ذاتها ولكن الأسى في عينيها كان هذه المرة بلون مختلف.

هذا الوجوم المدوي وهذه الرعشة التي تهدهد الصمت أطلقا لشفتاي العنان بحروف خائفة : “هل تزوج أبو أسامة؟”

كانت صامتة مبهمة كالضباب وأنفاسها المضطربة ترسم الحيرة في فضولي المرتجف.

“لا يا سيدتي”، نطقتها كما لو أنها تقول يا ليت ذلك حدث و لم يحصل ما حصل.

سقطتْ منهكة على الكرسي وبدأت تسرد ما اعتصر قلبها وأمومتها وأنوثتها:

“كنتُ أسمع عن طمع النفس البشرية و جنوحها إلى الخطأ. أسمع عن التحرش بالنساء والأطفال وكنت أصون نفسي و أطفالي من قذارة الاختلاط وعواقبه، فنحن غرباء في منفى. لا يعرف أحدنا الآخر إلا باسمه. كنت أسمع عن القذارة لكني لم أتوقع أن تلوثني يومآ. كنت أمنع أطفالي من الخروج حرصاً وخوفاً ولكن الممنوع مرغوب والمحظور قد وقع.”

طالبتها “تابعي!” ، و عيوني تحملق في وجه ينهشه التعب.

“لقد أهملتُ أطفالي في ظل عملي الشاق وهواجسي بزواج زوجي، ويبدو أن الفجوة التي تحدثتِ عنها المرة الماضية كانت أمضى في نفوس أطفالي، فهم من كان بحاجة للعطف والحماية.”

البارحة عندما عدتُ من عملي، استقبلني صوت بكاء مكتوم، لا بل إنه أنين خجول لصوت طالما سكن روحي.

إنه أسامة فلذة كبدي وصغيري المدلل. كانا متقوقعاً في زاوية باردة يبكي ويرتجف. سألته:

  • ما بكَ يا حبيبي؟ أين كنت؟
  • كنت عند “فلان” يا ماما

كان لذكر اسم “فلان” وقع الصاعقة في نفسي، إن فلان شاب مشهور بميوله الجنسية الشاذة ومثليته الفاحشة.

كان ذكر اسمه كفيلاً بمرور عاصفة جارفة من الغضب في شراييني.

ضربتهُ كما لم أضربه يوماً. بدات اصرخ به كالمجنونة أسدل عرى قميصه الممزق وثيابه علني أجد أجوبة لأسئلتي.

كانت الندوب الخبيثة  قد ملأت جسده الغض. هززته والدموع تفيض من كبدي: “ماذا فعل بك “فلان”؟

-لقد جلدني بالحزام يا أمي ومزق ملابسي ثم فعل ما لم أفهم … لكني موجوع كثير يا أمي.

تلك الجملة المختصرة من ثغر بريء عاقبتهُ الحياة بكل ما أوتيت من خسّة، جعلتني أفقد اتزاني وأسقط مغشيآ علي. تجمهر الجيران حولي ولسان حالهم يقول ماذا جرى؟ لم أنطق ببنت شفة وأحداقي تنهش احدى الجارات حقداً ووجعاً. إنها أم “فلان” التي رحل الجميع وبقيتْ. صارحتها: “ابنك قد فعل…”

لم يكن بالنسبة لها شيئاً طارئاً أو مهماً، فثقافة الجهل التي تفشت في عقلها المهترئ صورَ لها ابنها طائشاً لا مجرمآ!

لم أذق طعم النوم الليلة وفي رأسي يدور ألف سؤال.  ماذا سأقول لزوجي الذي سيجعل من اهمالي ذريعة ليتزوج بأخرى؟ وكيف لي أن أمعن تمزيقاً بأسرتنا؟  كيف لي أن أصارح المجتمع الحقير بمصيبة سيرتديها طفلي قبل المجرم؟  ماذا أفعل؟ “

ضممتها واختلطت دموعنا فالمصاب جلل. كنت أعلم في سري أن الندوب في جسد أسامة لا تقارن بندوب روحه التي ستكبر معه وترافقه مع أنفاسه وأن طفولته قد مزقتها أنياب الشيطان بلا رحمة أو تفكُر أو رأفة.

قدمت لها العديد من النصائح والاقتراحات ومسكنات النفس وكانت تهز رأسها بلا فهم، فالكارثة حدثت.

غادرتني أم أسامة، غادرتني جثة بملامح إنسان.

بقيتُ حبيسة مكتبي الذي ضاق ليستحيل مشنقة فوق عنقي.

إلى متى نعيش في مجتمع بلا وعي أو رأفة؟ إلى متى يضع هذا المجتمع أصفاداً على أحلامنا وأقفالاً على أفواهنا؟ إلى متى نخجل من حقوقنا؟ كم من أم أسامة ستنزف وجعاً ستجبر على كتم أنينه في الزوايا المهملة؟

وكم من (أسامة) سيموت على قيد الحياة؟

كم من (فلان) سيغتال الطفولة ويسكب طغيان قوته على أبهى ألوانها؟

القاتل الحقيقي ليس (فلان) الذي اغتصب، وليس (أبو أسامة) الذي ضرب بعرض الحائط تضحيات زوجته، لم تكن (أم أسامة) مذنبة إذ خرجت للعمل بضغط ظروفها، و لم يكن (أسامة) مذنباً إذ غابت عن أذنيه توصيات أمه.

القاتل الحقيقي هو المجتمع المدجج بالجهل. المجتمع الذي يذبح الشاة ويتوج الذئب ملكاً مطلقاً.

المجتمع الذي يلد أسامة و يلد فلان ثم يجمعهما في منفى واحد.

خاص “شبكة المرأة السورية”

One Response

  1. القاتل الحقيقي هو من بدأ الحرب على هذا الشعب، هو من أفقره وأمعن في تجهيله وأجبره على الهجرة والنزوح بهدف البقاء على الكرسي. اللعنة على العالم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »