آريا أومري
قرأتُ وسمعتُ قصصاً عن معاناة النساء من أشكال العنف الموجهة لهنّ فقط لكونهنَّ نساءً، ولامستُ بعضها على أرض الواقع أيضاً، لكن فكرتي عن هذا الوجع وأبعاده لم تتعمق إلا بعد أن خضتُ التجربة بنفسي قبل سنتين تماماً من هذا اليوم، أي في الثالث عشر من حزيران 2016، اليوم الذي سيبقى محفوراً في ذاكرتي بحضوره السيء ما حييت.
الحرُّ شديد، كآبةُ الصيف فردت ظلّها على يومي منذ الصباح. لديَّ موعد عمل في القامشلي في حدود الخامسة مساءً، أطلبُ سيارة أجرة، وكما جرت العادة أحاولُ دائماً أن أختار سائقاً يُشعرني بالراحة، هادئاً لا يثرثر كثيراً في الطريق، يجيد القيادة، والأهم أن تكون سيارته مناسبة، فيها تكييف، ومرتفعة حتى لا تتعثر في حفر ومطبات الطريق، وما أكثرها في شوارعنا. وطبعاً تطغى أهمية هذه التفاصيل في الصيف أكثر من غيره من أوقات السنة.
«مرحبا (ع)، ممكن تجي توصلني عالكراج»، يعتذرُ السائق عن المجيء لتواجده خارج عامودا، وهو الذي اعتدتُ أن يقلّني في أغلب أسفاري. أرتدي ثيابي في عجلة من أمري، أكلّفُ أمي أن تطلب لي سيارة أجرة أخرى. تبحثُ في أرقام الهاتف، وأخيراً تطلب من السائق (م.خ) المجيء، وهو أحد سائقي العائلة منذ فترة بعيدة امتدت لأكثر من ثلاث سنوات.
الـ «عم» أيضاً يتحرّش
أجلسُ في المقعد الأمامي، ونتجه إلى الكراج. الحرارة عالية جداً، لا أثر لراكب ولا طيفَ لأحدٍ سوى سائق الميكرو، الذي جعلني أفقد الأمل في امتلاء الميكرو بالركاب.
يقترحُ عليَّ سائق سيارة الأجرة أن يأخذني في طلب خاص، فأوافق دون تردد كي ألحقَ بموعد العمل. نتفقُ على السعر، 2000 ليرة سورية، وهو المتعارف عليه آنذاك.
نمضي إلى القامشلي التي يفصلنا عنها حوالي 30 كم، أي ما يقارب نصف ساعة من الزمن. ولكن بدت الرحلة وكأنها استغرقت دهراً، وكأنها أخذت عمراً مني. كلّ شيء يغدر بي حتى الطريق، لا شيء على حاله، لا شيء على ما يرام.
نتبادل أطراف الحديث الذي بدا أنه لا يبشّر بالخير منذ بدايته. يسألني بامتعاض عن عدم تعاملي معه في الآونة الأخيرة، لأجيب بلباقة على سؤاله المحرج: «ما تواخذني عمو، أنت في الفترة الأخيرة كثرت سفراتك وكنت بطلبك كتير ما تكون متواجد، وهيك بالصدفة تعرّفنا على سائق جديد من معارف أخي، وسيارته كتير مريحة، وهوي شرواك بالخير». يستمرّ الحديث دون أن أجهد نفسي بالتركيز على ما يثرثر حوله. الحرارة لا تُطاق، لا تكييف في السيارة، ورأسي مصدوع.
يبدأ بسؤالي عن دورة السواقة التي كنا قد زعمنا أننا سنخوضها في السنة الماضية (2015) أنا وإحدى صديقاتي. كان السائق قد أخبرنا حينها بفتحه كورسات لتعليم قيادة السيارة للعديد من أهالي عامودا، وشجّعنا ذلك على أن نقترح عليه تعليمنا، بالأخصّ أنه في عامودا لا توجد مدارس لتعليم قيادة السيارات، لكننا عدلنا عن الفكرة لأسباب مادية، بالإضافة إلى أن ذلك لن يمنحنا شهادة قيادة رسمية.
أُذكِّره بأننا أخبرناه وقتها عن تراجعنا عن الفكرة، وبأنها لم تعد قائمة لأننا حتى إذا رغبنا الآن، فسنحاول الالتحاق بدورة تدريبية في القامشلي لدى إدارة المرور التابعة (للإدارة الذاتية). بدأ كلامه يبعثُ الصدمة والقلق في داخلي، لأنني شعرتُ أن معالم التحرّش اللفظي المبطّن قد بدأت بالظهور. يقترح عليَّ بلهجة يحاول أن تبدو بريئة: «أي عيفك من صديقتك، أنتي تعي بعلمك لحالك وما بدي مصاري. بنطلع بعد المسا بالليل كل يومين على طريق المطار، منو بتنبسطي وبتغيري جو ومنو بعلّمك».
أُفاجأُ بعرضه غير اللائق، أردُّ بتحفظ وانفعال بالرفض، وأطلبُ منه إغلاق السيرة. حاولتُ أن أكبح جماحي، وأن أُبقي احتمال سوء الفهم مفتوحاً. تعتريني دهشةٌ كبيرةٌ ممّا يلمح له، وأتمنى أن أكون مخطئة في شكوكي، ليقاطعني بقوله: «له يا عمو لا تفهميني غلطـ، أنتي متل بنتي، أنا كان قصدي بالليل لأنو ما بيخلص شغلي إلا بالليل، وما في وراي أي شي».
«أنتي متل بنتي»، يكررها ويسحب رأسي باتجاهه محاولاً تقبيله. أسحبه بحركة لا إرادية: «شو عم تعمل؟!» تتبع دهشتي صدمةٌ كبيرة. يقول ضاحكاً: «ليش شو عم بعمل يعني؟» ليمدّ يده إلى صدري ويشدّ نهدي، يعتريني الذهول من شدة الصدمة، ثم أبدأ بالصراخ عليه وتوبيخه.
يبدو أن كلمة «عمو» ليست كفيلة بعدم منحه الحق بلمسي، فكلّ متحرش يمنح نفسه الحق في لمس ضحيته. أحاولُ فتح باب السيارة لأقفز منها، لأنني أصبحتُ أشعرُ وكأنني جالسة على جمرة نار، والذي إلى جواري وحشٌ وليس إنساناً.
يزيد سرعة قيادته للسيارة ويصفني بالمجنونة. لم أجرؤ على القفز. يبدو أنه كان صعباً عليَّ تقبّلُ فكرة أن أموت بسبب مجرم مثله، وفكرةُ الانتقام لكرامتي باتت تعلو على كل شيء. أستمرُّ في توبيخه والصراخ، وأطلبُ منه أن يوقف السيارة لكن دون جدوى. أصرخُ من النافذة وأطلبُ النجدة لعلّ صوتي يجد مجيباً، تبحث عيني عن طوق نجاة، عن ملجأ، عن مغيث. لا مارّة في الطريق المطلّ على البرية، إنه موسم الحصاد، وجميع من لمحتهم كانوا بعيدين عن الطريق العام، ولا يسمعونني.
يرتعدُ متوسلاً: «استريني أبوس إيدك، لا تفضحيني، الدنيا رمضان، نحن بالشهر الفضيل». أردُّ عليه بغضب: «ليش لما مديت إيدك ما كان شهر فضيل؟! شو يلي تغير يا قليل الأدب».
لم أكن أستطيعُ التخطيط لشيء. ماذا سأفعل؟ وكيف يجب أن أتصرف؟ فيما كانت تقودني ردة فعلي وانفعالاتي. بدت نقطة التفتيش الأمنية القادمة طوقَ النجاة الوحيد أمامي، وكغريق يتمسك بقشة قررتُ اللجوء إلى عناصر الأسايش «الأمن التابع للإدارة الذاتية».
إنه حاجز هرم شيخو، القرية التي تبعد عن القامشلي حوالي 12 كم. المسافة التي تجاوزتُها معه منذ لحظة تحرشه بي إلى أن وصلنا للحاجز كانت بمثابة كابوس يجثم على صدري، وجلُّ ما كنتُ أتمناه أن أخرج من سيارته. عندما اقتربنا من الحاجز وبدأتُ بالصراخ طلباً للنجدة، بدا واضحاً بالنسبة له أنني لن أتراجع عن فكرة اللجوء إلى عناصر الحاجز، فبدأت لهجة التحدي تظهر في ملامحه وكلامه، وتحوّلَ من شخص كان يتوسل ويرتعد قبل قليل من فكرة تسليمه إلى الأمن، إلى شخص واثق من نفسه. قال باستفزاز: «شو ما بدك اعمليه، أنا ماني خايف وما رح أعترف ورح أحلف عالقرآن أني ما عملت شي. ولله ما رح تستفيدي شي».
تاء الهفال«ة» الفارقة
تتمّ مصادرة السيارة، يأخذونه إلى غرفة منفردة يبدو كأنها مخصصة للتوقيف، أما أنا فأدخل إلى البناء الصغير المجاور المؤلف من غرفتين ترابيتين. إنها حوالي الساعة الخامسة، أسمعُ أحد العناصر من الغرفة المجاورة يكلّم أحد المسؤولين على الحاجز عبر اللاسلكي، ويبدو من لهجته أنه كادرو (تسمية تطلق على الكوادر الحزبية لحزب العمال الكردستاني)، إذ جرت عادة التنظيم لدى مؤسسات الإدارة الذاتية، سواء كانت مدنية أم عسكرية، أن يكون هناك على رأس أي عمل كادرو يكون المستشارَ والمرجعَ الأساسي في كل شيء.
يدور الحديث المسموع: «هفال (رفيق)، يوجد رفيقة هنا تعرضت للتحرّش من سائق تاكسي كان يقلها إلى القامشلي».
الهفال: «هيي من الرفاق؟».
عنصر الأسايش: «أي نعم هيك يبدو».
يرد الهفال بغضب: «يلا 10 دقايق رح أبعت عناصر يجو ياخدوها ويعتقلو المعتدي».
يزيحُ سماعي ذلك بعض الضيق عن صدري. «دقائق ورح يجو الرفاق للمساندة، أنتي هفالة أليس كذلك؟؟». يسألني عنصر الأسايش ليؤكد توقعاته، التي كان مصدرها ربما أن هيئتي أوحت بذلك (لا مساحيق تجميل، شعرٌ مربوطٌ مشدودٌ للوراء، بنطال جينز، بلوزة فضفاضة، خفّافة)، أو ربما مجرد التبليغ عن جريمة تحرّش، وهو الأمر الذي بدا أنه غير مألوف.
أجيبه بالنفي، فيسأل: «ولا نص هفالة؟ (يقصد بذلك الكوادر المحلية التي تقوم بشبه مهام الكادرو، دون الانضمام إلى حزب العمال الكردستاني)، ولا تعملين في مؤسساتنا؟». تعتري الدهشة الجميع لأنني لا أمتُّ بصلة للهفالات، أو للعمل مع مؤسسات الإدارة الذاتية وأحزابها.
يبدو أنه من سوء حظي أنني لست هفالة، لأنه عاود الاتصال لأسمع الحديث مجدداً: «هفال… هي ليست من الرفاق، وددتُ أن أعلمك بذلك».
يأتي الجواب: «أهاااا… تمام هفال، رح شوف شو بدنا نعمل، أو رح خبّر أسايش المرأة وخلي هنن يتصرفو».
أراقبُ بخيبة ما يدور حولي، تمضي ربع ساعة من الانتظار، ثم أستفسرُ عمّا يجب فعله. يعاود الأسايش الاتصال بالهفال في الخارج، ثم يخبرني: «شوي ورح تجي أسايش المرأة وتاخدك لأنو هاد شغلهم وتابع لألهم».
يبدو أن حقيقة أنني لست هفالة جعلتني أنتظرُ لوقت أطول. أصبحنا في الساعة السادسة ولم ألمح أحداً، أجلسُ وحدي على أريكة مهترئة ومغبرّة، تجتاحني الكآبة، والعرق يتصبب من جسدي وسط الحرّ الشديد. أغرقُ في تفاصيل الغرفة؛ مكتبة حمراء من ثلاثة رفوف عارية من كل شيء سوى الغبار، ومجلدان لعبد الله أوجلان. شجرة صناعية تكسوها صور شهداء عسكريين، والجدران مزينة بصور القائد.
أقولُ في نفسي وأنا أشردُ في هذه التفاصيل: لو كنتُ أنتمي إلى كلّ هذا، يبدو أن الأمور كانت لتكون أسهل بكثير، وبالفعل بدأت الأمور تتعقد أكثر مما تصورت.
في حوالي السادسة والربع يجيء عنصر آخر بلباس عسكري على دراجة نارية، يبدو أنه من المشرفين الإداريين على الحاجز.
قبل أن يحقق معي يستفسرُ هو أيضاً إذا كنتُ هفالة، أو إذا كنتُ أعملُ في مؤسسات الإدارة الذاتية. يبدو أن الأمر مهم جداً، ومفصلي. يخبرني بلغة يشوبها الغموض والتردد عمّا إذا كنتُ أريدُ أن أتابع الموضوع، أم أنني سأكتفي بأن يتوقف هنا، ويؤكد أن القرار يرجع لي. لم أفهم ماذا يقصد حينها بقوله: أن يتوقف الموضوع هنا، لكن الصورة بدأت تتضح لي أكثر فيما بعد، إذ يبدو أنه كان يلمح لي أن أتنازل عن الدعوى وألّا يتمّ تحويلها إلى المحاكم. ربما كان مُحرِجاً بالنسبة له أن يقول هذا بشكل مباشر، كونه يمثل جهة سياسية تنادي بحقوق المرأة كمبدأ أساسي في أهدافها.
تُكتَبُ الإفادة التي سيتم تحويلها إلى أسايش المرأة، وفي حوالي الساعة السابعة يجيء عنصران من الأسايش بلباس مدني في سيارة جيب بمحض صدفة إلى العمل، فيطلب منهم أن يأخذوني إلى القامشلي، إلى مركز أسايش المرأة.
بدا بالنسبة لي أن الإدارة لم يكن لديها علمٌ بما حصل. أقابلُ إداريةً بعد أن يدلّني الديوان على مكتبها في الطابق الثاني، ليتمّ هناك تسجيل شكوى باسمي وتحويلها إلى النيابة العامة، وتخبرني السيدة أن عليَّ انتظار اتصال النيابة.
يدخل هفال كادرو إلى الغرفة منفعلاً لظنه أيضاً أنني هفالة، يأخذ الإفادة من يدي ليتلاشى الانفعال والدعم الذي أبداه في لحظات بعد معرفته أنني لست كذلك، ويوكل الأمر إلى الإدارية هناك.
الحقيقة هي أنني لن أملك حظوظاً، لأنني أنتمي إلى التاء المربوطة، والساكنة.
بركان شرف
ألحقُ بآخر ميكرو في الكراج لأعودَ أدراجي إلى البيت. يبدو لي الطريق كأنه نفقٌ مظلمٌ أستعيدُ فيه جميع ما حدث. تدور الصور والتفاصيل كشريط سينمائي داخل رأسي، كأنني داخل كابوس أودّ بشدة أن أستيقظ منه. أتصلُ بأمي لأطمئنها أنني في الطريق إلى البيت، أحاولُ أن أخفي الغصّة في صوتي، لكني لم أنجح في إخفاء ملامح الانهيار عن وجهي وجسدي عندما وصلتُ إلى البيت. أمي وأخي يرتعدان عندما يشاهدان مظهري، ليستفسرا بقلق وخوف عن حالي.
أنطقُ بحقيقة ما حدث دون أن أعي أن ما سأقوله سيفجّر بركاناً في البيت. يثور أخي، يأخذ مسدساً ويتجه إلى هرم شيخو حيث تمّ احتجاز السائق، أمّا أمي فتنهار وتبدأ بالعويل. تلومني لأنني تكلمتُ أمام أخي، تحمّلني مسؤولية ارتكابه لأي خطأ. لم ننجح في تهدئته ومنعه من الذهاب، ولحسن الحظ أنه كان قد تمّ نقل الجاني إلى «فرع الجريمة».
تبدو حقيقة مواجهتي للأعراف العائلية صادمة وموجعة، لأن سيناريو الناموس والشرف يطرح نفسه بقوة. جملةٌ من الاعتراضات والضغوطات كانت تزيد من ثقل ما أشعر به. الأمّ تخشى الحكم الأخلاقي الذي سيطلقه المجتمع بشأني، وتلومني لأنني بُحتُ بحقيقة ما حدث، ويأخذ الأخ موقفاً مرتبكاً خشية الحكم الأخلاقي أولاً، وواجب الانتقام ممن مسّ شرفه وشرف العائلة بسوء ثانياً. أشعر بضغط نفسي كبير، ولكن تبقى المواجهة الأصعب والأهم هي المواجهة مع الذات، ومع إرثي الداخلي، لأنه عندما توضع مبادئ الإنسان وقيمه على المحكّ، فإنه يواجه امتحاناً صعباً، يختبر فيه مدى تصالحه وصدقه مع ذاته إن صحّ التعبير.
تدور نقاشات حادّة في البيت، صراعٌ بين تشخيص الموقف كجريمةٍ وانتهاكِ كرامةٍ يستدعي المحاسبة وعدم السكوت، وكقضية عامة يجب أن تهمّ الجميع لأن فيها إساءة للمجتمع ككل، وبين كونه مسألة شرف تخصّ العائلة وتستدعي المعالجة ضمن دائرتها بعيداً عن القانون، وعن أعين وألسنة الناس. تزداد مساحة هذا الصراع، ليدخله الأصدقاء، وأهل الجاني الذين يريدون الصلح.
كانت فكرة استقبال أحد من عائلته مرفوضة في البيت، لذلك كانوا يلجأون إلى بعض الأصدقاء في محاولة للضغط علينا لإسقاط الدعوى وحلّ المسألة بشكل عشائري. تتسع دائرة من يودّون أن ألتزم بخياراتهم المحدودة، وتستمر الضغوطات التي أشعر فيها وكأنني ملكٌ للجميع إلّا نفسي. الأصدقاء، حتى أشدُّ المناصرين لقضايا الحقوق والعدالة، مكبّلون بالإرث الاجتماعي الممتد إلى داخلهم، ويبررون ذلك بخوفهم عليّ.
كان التراجع عن الدعوى وإسقاطها بمثابة إهانة كبيرة لكرامتي، لا سيما بعد أن تمّ رفع الشكوى إلى النيابة. يعود القرار النهائي لي، لأنه رغم كل الرؤى والقناعات التي طرحها الأهل، إلّا أنهم لم يستخدموا معي الإكراه، ولم يحاولوا إرغامي على قرار لست مقتنعة به، وربما يعود ذلك الموروث التربوي للعائلة، وإلى بعض المساحة من الاستقلالية التي أتمتع بها، والتي حصّلتها بعد جهد.
قضاءٌ بين فكّي الجهل والتحزّب
نتوجه إلى النيابة أنا وأخي، الذي قرّر الوقوف إلى جانبي ومتابعة الدعوى في القضاء، وذلك بعد يومين من رفع الشكوى إثر تبليغ من النيابة. إنها المرة الأولى التي أدخل فيها إلى غرفة تحقيق، وتكون لي دعوى في مؤسسة قانونية.
يجري التحقيق من قبل لجنة التحقيق والادعاء المؤلفة من شخصين، طالب سنة ثالثة حقوق، ومحامية متخرجة حديثاً. كانت هذه بمثابة أول مخالفة قانونية ألاحظها.
تؤخذ إفادتي، ثم إفادة الجاني وجهاً لوجه. يتنكر لفعلته ويلفّق بعض الأكاذيب، كقوله إنني حاولت قيادة السيارة بتهور، وأوشكتُ على التسبب بحادث لولا تدخله السريع الذي أسفر عنه ملامسة جسدي دون قصد. ليضيف بأنه لا يثق بقيادتي، وبأنني تسببتُ في تعطّل سيارة أحد المعارف عندما حاولتُ قيادتها، ومن ثم يشير إلى (ع) صاحب سيارة الأجرة الذي كنتُ أتعامل معه في الآونة الأـخيرة. لا أعلم ما الذي دفعه إلى هذا الادعاء، ربما لدعم الرواية التي لفّقها. تستدعي النيابة (ع) إلى التحقيق بعد الاستئذان مني، لتأخذ اللجنة إفادته في اليوم نفسه، وينفي حقيقة الأمر.
تكتبُ النيابة تقريرها وتحوّل الدعوى إلى المحكمة الجزائية. نكمل بعض الإجراءات القانونية ونعود إلى البيت بعد يوم حافل بالتعب والانتظار خلف أبواب المكاتب القانونية في النيابة، بسبب الجهل الذي لا يُطاق للموظفين بقوانين العمل. في هذه الأثناء كانت الوساطات من قبل أهل الجاني، ومحاولاتهم في توقيف الدعوى مستمرّة.
جاء موعد الجلسة الأولى التي تمّ تحديدها في الثلاثين من حزيران 2016، ندخلُ إلى قاعة المحكمة الصغيرة (الغرفة الجزائية الثانية)، التي يبدو كلّ شيء فيها خارجاً عن المألوف القانوني، لا لباس موحداً أو رسمياً للقضاة، ولا كفاءات قانونية، ولا خصوصية في المرافعة التي تستوجبها قضايا جزائية من هذا النوع، رغم أننا طلبنا أكثر من مرّة الخصوصية بسبب حساسية القضية، لكن دون جدوى، بل تمّ الاكتفاء بطلب مغادرة القاعة من بعض أصحاب الدعاوى الأخرى، ولم يتمّ الالتزام حتى بهذا.
ديوان العدالة يشغله أربعة أشخاص، القاضي (م.ص) الذي كان يعلك العلكة ضمن التحقيق، في الستينات من عمره، وهو محامٍ سابق. القاضية (ش.ع) التي كانت ترتدي قميصاً مزركشاً وإكسسوارات كثيرة من الذهب، وهي لا تملك كفاءات قانونية، بل تحمل شهادة التعليم الثانوي فقط، وتمثّل هيئة المرأة التابعة لاتحاد ستار (الجناح النسائي لحزب الاتحاد الديموقراطي). بالإضافة إلى (ز.ه) ممثل لجنة الصلح الاجتماعي في القضاء، الذي يحمل شهادة التعليم الابتدائي فقط. و(ك.ي)، وهي متدربة خريجة حديثاً من إحدى أكاديميات التدريب الفكرية التابعة للإدارة الذاتية.
أمّا مقاعد الحضور الجماعية التي تقابل الديوان فيشغلها طلاب أكاديمية ميزوبوتاميا (مؤسسة تدريبية فكرية تابعة لحزب العمال الكردستاني)، الملزمون بحضور المرافعات القضائية لكي يتدربوا على العمل القضائي، بالإضافة إلى أصحاب دعاوى أخرى في المحكمة ينتظرون دورهم في المرافعة. يدخل ويخرج من يشاء، الباب مفتوح على مصراعيه، الحارس يتنقل بين الخارج والداخل، عناصر أسايش تدخل أحيانا، وكلّ هذا دون استئذان. بدا المشهد هزلياً جداً بالنسبة لي!
تجري المرافعة الأوليّة، وتؤخذ مجدداً إفادتنا التي لم يتغير فيها شيء، إذ يستمرّ الجاني في عدم الاعتراف بفعلته. تنتهي الجلسة الأولى، وإلى أن يحين موعد الجلسة الثانية التي حُدّدت بتاريخ 18 تموز، لا محاولات جديدة ولا وساطات تُذكر من قبل أهل الجاني في سبيل وقف الدعوى.
يأتي خبرٌ مفاده أنه تم دفع رشوة من قبل أخ المتهم لأحد الوكلاء في النيابة لتحريف الدعوى لصالح المتهم. نبحث عن طريقة نُعلِمُ فيها الجهات المشرفة على القضاء بما يجري، وبضرورة مراقبة عمل لجنة العدالة في الغرفة الثانية، ونقابل الكوادر الحزبية المسؤولة عن مؤسسات القضاء، لكن ذلك لم يجد نفعاً.
تزدادُ اللوحة سوداوية أمام عينيّ، لا يتملكني أدنى بصيص أمل بإنصاف قضاء لا يشبه القضاء، لكن لا خيار أمامي سوى متابعة الدعوى إلى النهاية وانتظار الحكم.
يبدو مسار المرافعة في الجلسة الثانية مختلفاً، تبدأ الاسئلة التي تُشعرني أنني داخل قفص الاتهام، ويبدو أن هناك جملة من القواعد تنظّم سلوك الضحية قبل سلوك المعتدي، وأصابع الاتهام تتوجه إليها قبل أن تتوجه إليه.
القاضي (م. ص) والقاضية (ش. ع)، مع تحفظي على تبني وصف (القاضي)، يبدأن بطرح الأسئلة التي تحوي كثيراً من الالتباس: «ممكن تخبرينا ليش ركبتي قدام مو ورا، وهل جرت العادة في عامودا أنو النساء تركب قدام؟». وأيضاً: «كيف كان لبسك هداك اليوم؟».
تستفزّني الأسئلة التي تشعرني وكأنني مسؤولة عن تحرّشه بي. أجاوبُ بانفعال: «هل يعني أنو أي بنت تجلس بالمقعد الأمامي فهاد بيشكل دافع ليتحرّش فيها الشوفير؟ ما في فرق بين القعدة في الأمام أو بالخلف إلا أنو نية الشوفير كانت عاطلة، بس رح جاوب مشان تتوضح الصورة اللي ربما تفيد العدالة: أنا متعودة أركب بالخلف متل ما جرت العادة، لكن إصرار العمو إني بركبتي بالخلف عم هينو وقلل من قدرو بحجة أنو هوي يشوف نفسو من العيلة وبيمون، خلّاني أنحرج وسايرو بدون ما أحسب أي حساب لنوايا عاطلة وراء طلبه. أما بخصوص اللبس، فما ممكن طريقة اللبس تكون سبب ودافع للتحرّش، لأن التحرّش سلوك عدواني وجنسي شاذ، بيتعلق بالمتحرّش نفسو ومالو علاقة بالضحية، بس رغم هيك بحبّ أكد أنو لبسي كان محشوم بحسب مقاييسكم ومقاييس المجتمع، وإذا بدكم تتأكدوا بإمكانكم تسألوا أسايش هرم شيخو، وبإمكانم مراجعة كاميرات المراقبة على الحاجز».
يثير ذلك حفيظة القاضي: «ليش أنتي ما بتحسبي نفسك من هالمجتمع، ومانك متفقة مع مقاييسو؟ نحن في عنا عادات وتقاليد بنلتزم فيها وبنرجع إلها في أحكامنا».
تُثار العديد من النقاط التي من شأنها أن توقع اللوم على الضحية وتخدم المتهم، بالإضافة إلى قولهم إنه لا يوجد دليل قاطع أو شهود على فعلته. مراجعةُ أسايش هرم شيخو والأخذ بإفادتهم، والإفادة الكاذبة التي قدّمها المُدعى عليه حول سائق التاكسي (ع)، والعديد من التفاصيل التي مرّت أثناء التحقيق، كلّها دلائل من شأنها أن تفيد الحكم. ذلك بالإضافة إلى أن المتحرّش لا يتحرّش بوجود شهود، لكن لا يبدو أن الأمر يعنيهم كثيراً.
لم يتمّ قفل باب المرافعة في الجلسة قبل الأخيرة كما جرت العادة، وفي الجلسة الأخيرة بتاريخ 11 آب 2016، تم النظر في تصورات الطرفين عن الحكم، ثم اكتفت اللجنة بالقول: «انتهت الجلسة وبإمكانكم أن تنصرفوا إلى البيت»، دون قراءة الحكم المصاغ كتابياً بشكل علني كما ينبغي، ودون تقديم أي توضيح حول ماهية الحكم. أستفسرُ مستغربة ومعترضة على ذلك، لتجيبني القاضية (ش.ع): «خلاص… انتهت الدعوة واكتفينا بمدة توقيفه»، لتُضيفَ بابتسامة غبية: «يعني ما صار شي كتير ثقيل، ما تحمّليها كل هالقد، هوي رجال كبير بالعمر، حرام، وأخد نصيبو».
أنفجرُ غاضبة عند سماع ما نطقت به: «يا إلهي! هل أنتم بحاجة إلى أن يكون الجرم أشدّ حجماً لكي تأخذ العدالة مجراها؟ هل كان يجب أن يكون جرماً جنائياً (اغتصاب مثلاً؟) حتى يُصنّف كجريمة مخلّة بالأخلاق؟!».
بدأتُ أدركُ أن النقاش والاعتراض لن يجدي نفعاً، لأن هناك جهلاً حقيقياً بمفهوم التحرّش وأبعاده، وعدم الدراية بالقوانين، وافتقاد لأصول الحكم. أطلبُ نسخة من الحكم، ونغادر المحكمة. كنتُ أريدُ أن أخرج بسرعة من هناك، أن أهرب من تلك العفونة المؤذية. كل شيء في المكان كان يثير الاشمئزاز في داخلي، حتى الجدران المليئة بالشعارات الثورية الديماغوجية وصور القائد.
نكتشفُ بعد قراءة قرار الحكم أنه كان قد تم إخلاء سبيله دون إعلامنا بذلك، وأنه يزاول مهنته في البلدة بعد فكّ احتباس سيارته، ويتعهد بحضور جلسات المحكمة. وكان إخلاء السبيل قد حصل عشية عيد الأضحى، أي في تاريخ الخامس من تموز، ما يعني أن مدة اعتقاله كانت 22 يوماً، وهذا مخالفٌ حتى لنص القرار الصادر عن هيئة العدالة. أمّا بالنسبة للرسوم ومصاريف الدعوى، فلم يأت أحدٌ على ذكر كيفية تحصيل نفقات التقاضي التي تكفّلنا بتغطيتها كلّها، رغم ورود فقرة في القرار تشير إلى تضمين المُدعى عليه الرسوم والمصاريف.
خذلان مركب في تطلعات نحو الحرية
تمضي أيام وشهور مليئة بالضغط والإحباط، كنتُ مّكبلة فيها بكثيرٍ من المشاعر السلبية، وكانت تتملّكني أحياناً مشاعر عنيفة ورغبة بالانتقام أخشى الإفصاح عنها حتى بيني وبين نفسي.
يفوق الأمر التوقعات ويصبح مختلفاً عندما يأخذ الإنسان مكان الضحية للمرة الأولى. لقد أدركتُ دوافع الانتقام الشخصي لدى كثيرين في ظلّ غياب العدالة والقوانين. مؤلمٌ ألّا يكون الإنسان محمياً في الأمكنة التي ينتمي إليها، إذ لا قوانين رادعة، وثمة حقوق مهضومة في ظلّ قضاء غير نزيه وغير منصف، وهو الذي يُفترض أن يشكّل القاعدة الأهم في ضبط العنف بجميع أشكاله.
أمضي إلى عملي في القامشلي كل يوم في تمام الساعة التاسعة صباحاً، لأعود في الثانية ظهراً مُنهكة يؤرقني الطريق باستحضار جميع تفاصيل اليوم المشؤوم إلى ذاكرتي. وفي جو العمل كان الإحباط مضاعفاً، لأنني لم أحظ بمساندة حقيقية من فريق العمل، الذي علم الإداريون فيه بما حصل عن طريق إبلاغهم عبر النيابة في بداية الدعوى بإمكانية استدعائهم إلى التحقيق إذا لزم الأمر.
هذا الفريق الذي عمل في أكثر من مناسبة على قضايا تخصّ العنف ضد المرأة، لم يتعامل معي كأنني إحدى ضحايا هذا العنف. واجهتُ كثيراً من الضغوطات والتحديات في العمل، فلم أستطع الاستمرار، ولذلك فسختُ العقد وقدمتُ استقالتي قبل أن ينتهي المشروع بنحو خمسة أشهر. كنتُ أحتاجُ إلى فترة راحة بعيداً عن ضغط العمل.
ازدادت خيبتي عندما طرحتُ على مديرة المشروع (ر.ح)، وهي حقوقية ومسؤولة عن ملف قضايا المرأة في المنظمة، كما أنها عملت مدربة في مجال مناهضة العنف ضد النساء، فكرةَ نشاط عن التحرّش، تتمّ الإشارة فيه الى رداءة القوانين وفضح الجهات القائمة عليها. لقد أبديتُ استعدادي لأن أكون شاهدة كضحية تقدّم تجربتها، ليكون ذلك بمثابة تشجيع لضحايا العنف على كسر حاجز الخوف والبوح بمعاناتهم والمطالبة بحقوقهم. لكنها لم تقبل حتى بمجرد لقاء إذاعي تناقش فيه قرار الحكم، ويتمّ تقييم الأخطاء القانونية فيه، مُبرّرةً ذلك بحساسية الموضوع وعدم تقبّل المجتمع لطرحه، كما أنها تجنبت أن تصبح في مواجهة مع سلطة الإدارة الذاتية، وهي دائماً تحاول أن تحافظ على علاقة جيدة معهم.
امتلكتني رغبة كبيرة في القيام بحملة ضد التحرّش من شأنها أن تؤثر في الرأي العام، وحاولتُ التواصل مع بعض الناشطات حول قضايا المرأة في المجتمع، لكن لا يوجد انفتاح على نقاش هكذا موضوع، لأن الكلّ يخشى من الأحكام الأخلاقية للمجتمع. في قضية التحرّش، الصمت هو الخيار الطاغي لدى أغلبيتهنّ!
وجدتُ نفسي وحيدة ومحبطة، ربما لأني مؤمنة دائماً بأن التكاتف الجماعي في المطالبة بالعدالة والحقوق من شأنه أن يُحدِثَ تغييراً في المجتمع، لكن يبدو أن سلطة القوانين الاجتماعية والأعراف أعلى بكثير مما توقعت، ويبدو أن هوية (الضحية المذنبة) سترافقنا أمداً بعيداً.
لم أصادف أي صوت نسائي في المجتمع المدني يسعى إلى كسر حاجز الصمت، ويسعى إلى أن يكون صوتاً جامعاً ومؤثراً في المجتمع. ولا يخفى أن من أولويات مهام المجتمع المدني الضغط على السلطات، ومحاولة تغيير القوانين للصالح العام، لكن لا يبدو أنه يوجد نضال حقيقي في سبيل ذلك، بل لا يوجد استعداد لأدنى تضحية أو فعل يجعلهم في مواجهة مع أعراف المجتمع وتحدياته، أو مع السلطات، ليبقى الدور ضيقاً ومحصوراً بالقيام ببعض الورشات التدريبية، وتثقيف النساء حول بعض المفاهيم.
قضية الدفاع عن حقوق المرأة ومناهضة العنف الذي تتعرض له النساء مرتبطةٌ بسؤال الحرية العميق، وتحتاج إلى كسر الاحتكار الإيديولوجي الحزبي لقضية المرأة، كما تحتاج إلى إيمان عميق بضرورة التحرّر من الإرث الاجتماعي، والتغيير الجذري في الذهنية والمفاهيم الضيقة غير العادلة حول المرأة.
باختصار، يحتاج الأمر إلى ثورة ذهنية وثورة جنسية، ومهما كانت الأعراف الاجتماعية حاضرة بقوة، إلّا أنه لا يجب التنازل عن الحقوق مهما كانت الأثمان، وذلك يحتاج إلى تكاتف أصوات حرّة من شأنها أن تدفع بعجلة العدالة والحرية نحو الأمام.
*****
التقيتُ الجاني صدفةً قبل أيام، أي بعد مرور ما يقرب من سنتين على الحادثة. نخرجُ من السوبر ماركت أنا وأخي، لأراه يركن سيارته قرب الرصيف ويدخل. اعتراني الغضب وتولدت لدي الرغبة بالانتقام والهجوم عليه، لكن خشيتي من ردة فعل أخي الذي لم يلاحظ وجوده دفعتني إلى كبح جماحي. عندما تقابلت عيوننا رمقني بنظرة تحدٍّ رافعاً رأسه وهو يلعب بحزمة المفاتيح التي في يديه، ولاحظتُ في عينيه نشوة الانتصار المزيف ذاتها التي بدت في جلسة الحكم الأخيرة.
لو عاد بي الزمن، فإنني لن أختار الصمت حتماً. ربما لن ألجأ إلى قضاء فاسد، لكن خيار الصمت هو جريمة بحق أنفسنا كضحايا، ويحبط تطلعاتنا نحو الحرية. أكتبُ اليوم وأسردُ هذه التجربة لأكسر حاجز الخوف، وأبوح بالمعاناة التي يجلدها الصمت، علّي أُلقي بقعة ضوء ولو كانت صغيرة على التحديات والعوائق التي تصنع واقعنا الذي تحكمه القوانين والقواعد الذكورية في جميع جوانبه الثقافية والاجتماعية والسياسية.
أكتبُ من أجل الحرية التي سيشرق شمسها يوماً في سمائنا لا محالة.
عن “موقع الجمهورية”