خزامى أبو عمار
منذ ست سنواتٍ نزحت فاطمة مع زوجها وأبنائها من إحدى المناطق المشتعلة في الغوطة الشرقية إلى ضواحي دمشق، مودّعين أنقاض منزلهم نحو عدمٍ جديد، مُستبدلين الموت السريع بالموت اليومي البطيء. وكغيرها من النساء السوريات ذاقت فاطمة شتى أنواع القهر والعذاب في رحلة البحث عن سبل النجاة من جحيم حرب مارست عليها ساديتها وعبثية سطوتها فصارت حقل تجارب لبطش ونزوات تلك الحرب القذرة.
بعد أيامٍ من النزوح المرير اعتُقل زوجها في حملةٍ شنها الأمن لإعتقال الكثير من نازحي الغوطة بحجة أنهم إرهابيون. لم تمهل الحياة الزوج المريض كثيراً من الوقت في غياهب الظلام ففارقها تاركاً خلفه عائلةً تغرق في مستنقع المجهول. أجِبرت فاطمة مع فتياتها الثلاث، اللواتي تركن الدراسة والأحلام والصبا، على العمل في أعمال كنَّ يدفعن فيها الكثير من الوقت والجهد وهدر الكرامة لقاء أجورٍ لا تكاد تسد الرمق، كالعمل في تنظيف المنازل وشطف الأدراج وورشات الخياطة وأسواق العمل المضنية والمكتظة بالاستغلال والتحرش الجنسي.
بعد فصل من المرارة جاءها نصيبٌ من فرج، بعد أن طلبها أحد الرجال الشرفاء للزواج، وكان ميسور الحال قادراً على انتشالها وأبنائها من براثن المعاناة اليومية، انتابها شيء من الأمل والفرح ولكن قدرها التعيس كان له رأي آخر، فهو لا يريد لها الخلاص لأنه عدو الفرج وسليل لعنة الحرب. اعتُقل زوج المستقبل على أحد الحواجز بتهمة الكنية، فكنيته كانت محض تهمة وحاملها مجرمٌ في عُرف الجلاد، فأخذ حلمها معه ومازال الرجل حتى اليوم مجهول المكان والمصير.
لم تكتف المحن بحجم المصائب التي ألحقتها بالعائلة. ففتحت أبواباً جديدةً للأذى. فحتى شقة (العظم) المقفرة التي كانت تأويهم والمستأجرة بمبلغ كبير ضاقت بهم جدرانها الباردة. فأجبرهم مالكها (الشبيح) على إخلائها بعد أن علم بمصير رب العائلة، ولم يمنحهم حتى مهلة لإيجاد سكن بديل، فهم بنظره إرهابيون لا يستحقون الحياة.
كان يمكن للعائلة أن تفترش الطريق، لو لم تجد من يشفق عليها. أسكنهم أحد الذين رأف بحالهم في غرفةٍ داخل مزرعته ريثما يجدون سكناً، فعاشوا بضعة أيامٍ، وهم أموات، في غرفةٍ قذرة تشبه الإسطبل بجوار مخزنٍ للأعلاف يطلُّ على حظيرةٍ للأبقار قبل أن ينتقلوا إلى شقة عظم جديدة بذات تعاسة سابقتها. في فترة الإقامة في” الإسطبل” تعرضت البنت الوسطى إلى لسعة حشرةٍ غريبة فأصيبت بطفحٍ جلدي تطور إلى مرضٍ غريب بدأ يأكل جلدها، ولم يتسنى لأمها، نتيجة شلل الحال والضياع، أن تنقلها إلى المستشفى إلا بعد فوات الأوان. مكثت الفتاة على سريرها أياماً ملوعة عجز الأطباء فيها عن علاجها، وكأن جسدها انهزم أمام قسوة الحياة ولؤمها، فاستسلم للإنهيار واختار الزوال. رحلت ولم تبلغ الثامنة عشر، مودّعةً أحلاماً بيضاء لم تكتمل، بعد معركةٍ مريرة مع الألم والعذاب طالت ضراوتها قلب الأم والأخوة ومزقت أرواحهم.
عادت العائلة إلى روتين الوجع اليومي، وما أن بدأ جرح الأم يشفى حتى عاد نزيفها من جرحٍ جديد، وكأن القدر يتفنن في تعذيبها. الضحية هذه المرة كانت ابنتها الكبرى التي تعرضت للاغتصاب بتهديد السلاح. اختطفها المغتصب، صاحب السلطة والسطوة، وهو المنتمي إلى إحدى ميليشيات الحي الذي تعمل به. اقتادها إلى جحيمه وصب نار وحشيته على جسدها المغلوب على أمره، مفترساً أنوثتها الغضة بأنيابه القذرة. رماها إلى مجهولٍ مرعب، بعد أن هدّدها بإبادتها وعائلتها إن وشت به، لتسير بخطىً واثقة نحو الجنون. وكان يمكن لفعلته أن تنسى لو أن أحداً لم يكتشف ما جرى. تزوج الجلاد بضحيته المغتصبة بعد أن فضح أمره في الحي، فتدخل أبواه المتدينان لإنقاذ الفتاة ظناً منهما أن الزواج سيصحح ما جرى، وبعد نوبات من الذعر والهستيريا ومحاولات الإنتحار انصاعت الفتاة لهذا الزواج المدمِّر خوفاً من جلب العار لعائلها التقليدية الملتزمة وتجنباً لإلحاق الأذى بها.
حتى اليوم تعاني الفتاة من مرضٍ نفسي يرافقه نوبات إكتئابٍ وفوبيا، وتموت في اللحظة آلاف المرات، بعد أن أصبحت أسيرةً في سجن عدوها، خادمة مطيعة لسطوته وشاة تذبح كل يوم بسكينه الذي يدمي ما تبقى من حياة فيها.
لم تنجُ الفتاة الصغرى من ويلات الأذى, فهي الأخرى غدت فريسة الاكتئاب والتداعي النفسي بعد ما رأت وعاشت من صدماتٍ ونكسات. كانت تعمل مكرهةً في معملٍ للخياطة يملكه صاحب الشقة التي تقطنها مع أمها وأخيها، وقد وظّفها عنده ليقتنص فتنة جسدها الفتي فصار يتحرَّش بها كل يوم فيطلبها إلى مكتبه على انفراد ويستبقيها بعد انصراف الموظفين، لكن الفتاة كانت حذرة ويقظة لتنجو من شباك مآربه، ثم بدأ يزورهم في البيت، مصطحباً هداياه كرشوة. وبعد صدها لتحرشاته أكثر من مرة، طرق باباً جديداً ليصطادها فطلبها للزواج وهي الجميلة اليانعة ذات السابعة عشر عاماً وهو العجوزالمتعفن. ولما رفضت وأمها طلبه هذا، صبَّ عليهم انتقامه فطردها من العمل ثم طردهم من البيت. مكثوا أياماً عند جيرانهم الفقراء النازحين، قبل أن يجدوا جحيماً آخر يأويهم لتنتقل المأساة هذه المرة إلى الطفل الصغير ذو الثمانية أعوام والذي لم يعرف شكل المدرسة حتى الآن. أجبِر الطفل على العمل عند محلات البقالة وعلى بيع العلكة والبسكويت في الشارع والتسول في أحيان كثيرة ليصبح رَبَّ أسرةٍ قبل أن يتجاوز عتبات طفولته المهدورة.
تعاني فاطمة اليوم من أمراضٍ وأوجاع جسديةٍ شتى، ناهيك عن حالات القهر والنزيف النفسي. فتكت أقدار الحرب بجسدها وأصابها العجز والهرم ولمّا تزل في الأربعين من عمرها. لم تعد قادرة على العمل أو حتى تدبير شؤون العيش، تجلس في حطام شقةٍ تملؤها الأنقاض، لا تصلح كمكانٍ للعيش البشري. تصلي وتبكي وتناجي ربها الذي تخلى عنها ورمى بها إلى التهلكة رغم إيمانها الكبير، بينما تجاهد ابنتها المحطمة وطفلها الشريد، رغم ما يحملان من مآسي، فيصارعان أمواج القدر ليحققا مع أمهما المهزومة بعض شروط البقاء في حياة نسوا كيف تعاش أو متى ستعود، ينتظرون معجزة ما تقودهم إلى قدر يرأف بحالهم ليتذكروا شيئاً من إنسانيتهم المسلوبة.
خاص “شبكة المرأة السورية”