د. صباح ضميراوي
بعد شتاء طويل زارني الربيع، باسطاً ثوبه ناثراً عطر أزهاره. جنت أشجار اللوز والدراق والمشمش، وانهمرت ألواناً زاهية. دبت الحياة بأوصال المدينة وابتسمت بعد طول عبوس.
فكرت وأنا حائرة كيف استطاع الشتاء إخفاء جمال بهذا المقدار، وتساءلت سعاد، القادمة من أقاصي الجنوب: “هل ستعود الحياة كما كانت؟”. ولكن كيف وهذه الجموع الغفيرة الواردة كل يوم من كل حدب وصوب تفترش الأرصفة والطرقات، بحثاً عن ملاذ آمن بعد سفر طويل ومرهق ومحفوف بالخوف والمخاطر؟ قد تجد من يستقبلك وقد لا تجد، أو بالأحرى قد تجد من يعيدك إلى حيث اقتلعت من جذورك، من حيث أتيت او لمكان أسوأ، وفي النهاية لا تجد غير خيام عارية حتى من أدنى متطلبات الحياة، فوجود الماء والكهرباء يعتبر رفاهية.
كانت سعاد من بين الجموع الغفيرة القادمة من الجنوب بواسطة وسائل نقل جماعية، وقد اصطحبوا معهم بعض المتاع والكثير من الذكريات الجميلة المؤلمة الحزينة والقاتلة. وتخيلت سعاد ان يأتيها المخاض الليلة بعد ذلك السفر الطويل والمضني، كم كانت تحلم كيف ستستقبل مولودها الأول والثياب الجميلة التي ستحضرها له ومن سيذهب معها إلى المشفى، وأي مشفى ستختار لتكون الأمور أسلم وأكثر راحة؟ تناست سعاد كل هذه الأحلام لأن أهم شي الآن هو عامر زوجها الذي اختفى على أحد الحواجز منذ أربعة أشهر ولا تعرف عنه شيئاً.
عامر الذي عاشت معه قصة حب جميلة في زمن العنف والحرب، عامر الشاب الوسيم والرجل الحنون، والذي كل ما اقترفه حتى يغيب الآن أنه أسعف ابن جيرانهم، الذي أصابته رصاصة في إحدى التظاهرات ولم يكن يعلم أنها جريمة لا تغتفر، رغم توسله الشديد لطبيب الإسعاف بألا يذكر اسمه بأنه أحضر المريض، وفر هارباً من المشفى يومها. نعم عامر زوجها اعتقل على الحاجز بعد أن تأكد أن لا أحد رآه مع الجار المصاب. عامر الذي كان سيصحبها إلى المشفى كما اتفقا عندما تعارفا وقررا الزواج، والآن هو غير موجود ولا أحد من الاهل، ولا تعرف إلى أي مشفى ستذهب. إحساس قاتل ومخيف، ولكن لا تملك إلا الانتظار والبقاء كما هو حال الجميع الذين توزعوا في الخيام الفارغة.
ففي الخيمة المجاورة كانت حميدة تقيم مع أطفالها الخمسة ولا معيل لها، فهي لم تكمل تعليمها ولم تعمل يوماً خارج واجباتها المنزلية المعتادة، والتي أصبحت بحكم الظرف القاسي المعيل المعيل لأولادها الخمسة، فأكبرهم لم يتجاوز العاشرة، بعد ان فقدت زوجها اثناء وجوده بعمله، بأحد البراميل المتفجرة. كان الوضع متوتراً جداً يومها، وكم تمنت، بل طلبت منه بألا يذهب يومها إلى عمله، لكن الأفواه التي كانت تنتظر لقمة العيش، والتي رقدت أمامه كانت اقوى من رجائها.
أما في الخيمة الثالثة فكانت تقيم صفاء، الفتاة الثلاثينية مع أولاد إخوتها الثلاثة، بعد أن فقدوا الأب والأم في صاروخ، عندما خرجا إلى البرندة لمعرفة سبب الأصوات القادمة من بعيد، وكأنهما كانا على موعد مع الموت. لن تنسى كيف حملتهم إلى المدينة الثانية وأقاموا فيها قرابة السنة قبل ان يهجّروهم إلى حيث هم الآن.
أما حسام الشاب الذي لم يبلغ السابعة والعشرين من عمره، والذي ترك دراسته والتحق بالقتال دفاعاً عن الأرض والعرض، كما كان يقول، والذي فقد إحدى ساقيه في معركة بقذيفة هاون، فكان يقيم في الخيمة الرابعة مع أبويه العجوزين ولا يعرف من سيساعد من.
أما في الخيمة المقابلة فكانت تقيم وفاء، والتي طلبت منها أن تساعدها في حمل أطفالها المعاقين إلى الخيمة، لأن الباص الأخضر قد أنزلهم بعيداً عن المكان، ولأن ابنها السليم بينهم صغير ولا يستطيع مساعدتها، والذي ستعرف فيما بعد بأن أباهم وهو ابن عمها قد تخلى عنهم وتزوج من امرأة لا تقرب له كي يرزق بأطفال أصحاء، كما نصحه احد الأطباء، وعندما حان وقت الرحيل رفض ان يأتي معها وبقي في بلدته تحت القصف والدمار. أما وفاء فلم تجرؤ على البقاء وهي التي أدخلت جريحاً ذات يوم من امام منزلها، ولم تكن تعلم يومها بأنها جريمة لاتغتفر.
وبعد ساعات وساعات من الانتظار القاتل، حضرت بعض المنظمات ووزعت لهن بعض الحاجيات الضرورية، فرش اسفنجية رقيقة، حرامات صغيرة، أدوات منزلية بسيطة. أما المنظمة الثانية فوزعت سللاً غذائية متواضعة. وحضرت منظمة ثالثة ووزعت لهن وجبات سريعة بمطبخ ميداني قرب المخيم المجاور. أما المنظمة الرابعة فبدأت بالعمل لتجهيز الصرف الصحي، والذي سيكون بالطرف البعيد جداً من جنوب المخيم. كل هذا لم يكن ليشغل بال سعاد عن التفكير بالمخاض الأول والذي اقترب أوانه، حتى المخيم الذي لم يكن مزوداً باماكن الصرف الصحي، لم تعد تفكر به والذي يجب الابتعاد كثيراً عن المخيم لقضاء الحاجة فيه، لانه للمخيم المجاور لهم. حاولت سعاد ان ترتاح قليلا لكنها لم تستطع، آلاف الصور تدور في مخيلتها، وبدأ الألم يتسلل اليها رويداً رويداً، بحثت في المخيم عن نساء يستطعن تقديم النصح لها، وإن كن يستطعن الذهاب معها إلى حيث لا تعلم. تبرعت إحداهن بالذهاب معها وسألوا مدير المخيم الذي أمن لهن سيارة بعد جهد وطول عناء، وانطلقتا إلى اقرب مستوصف أو مشفى، كم كان الطريق طويلاً بالنسبة لها، فالحواجز التي اعترضتهم كانت كثيرة والتفتيش البدائي والبطئ كاد ان يودي بحياتها. أحست أن دهراً طويلاً مر عليها من المخيم إلى المشفى، ولما وصلت إلى هناك، لم تكن الطبيبة أو القابلة موجودة، بل ممرضة يعلم الله أنها كانت تشرف على الولادة للمرة الأولى. هكذا احست سعاد من أسئلة الممرضة لها ولمن حولها، ومن الطريقة الوحشية التي علقت لها السيرومات بها، ولسؤالها على الهاتف أي دواء ستضعه في السيرومات، وهي لا تكاد تعرف اسم الدواء الذي ستضعه ولا تعلم أيضاً إن كان موجوداً أم لا. االخوف كان أكبر من آلام المخاض، تساءلت: “هل سينجو وليدها، هل ستنجو هي من موت احسته شبه محتم؟”.
طلبت بعض المسكن للألم الفظيع، لكن لم يكن هناك أي مخدر حتى لجرحها الذي خلفته الولادة. نزفت اكثر مما يجب، وتألمت اكثر مما يجب، وكم تمنت الموت من هذا الجحيم القاتل، لكن صرخة المولود التي بدأت تجلجل في كل ارجاء المكان الذي يسمى مشفى القرية، رسمت ابتسامة صفراء على محياها، وذهبت معها كل الام المخاض وكل قساوة الحياة، لتزرع في نفسها الرغبة بالحياة والبقاء. ضمت ابنتها لصدرها وشعرت بسعادة كبيرة تغمرها، وكأن إرادة الحياة قد تغلبت بداخلها على الموت والدمار.
خاص “شبكة المرأة السورية”