خزامى أبو عمار
فرّوا من جحيم مناطق الصراع، من الموت السريع نحو موتٍ جديد يقتلهم كل يوم. مأساة الحرب تحيط بهم أينما ولّوا وجوههم. تخلت عنهم جميع منظمات حقوق الانسان والطفل. أجبرهم النزوح والفقر وواقع الحياة المرير وفقدان الأهل والمعيل على النزول إلى الشوارع والحدائق لاستعطاف المارة واستجداء ما يسد رمق العيش. ومن نجى منهم من وحشية الشارع اختطفه غول العمل ليغرق في مآسٍ جديدة تسرق منه طفولته لتجعل منه كهلاً أرهقته الحياة ودمرّته قبل أن يتعرف عليها.
لا يخلو مكانٌ من حضورهم، لقد باتوا علاماتٍ فارقة ومميزة في الشوارع. ضاقت بهم المدارس ومراكز الإيواء، فتلقفتهم الأرصفة والحدائق. حدثٌ عاديٌ جداً أن تمر قدماك بمحاذاة وجه طفلٍ يفترش الرصيف. مشهدٌ طبيعيٌ أن تشهد حالات العراك والشتائم، وسط الشوارع بمحاذاة السيارات المسرعة، بين أطفالٍ أصبحوا وحوشاً بعد أن حولهم الشارع إلى مستذئبين.
التسول، اغتصابٌ للطفولة
(م) طفلة بعمر 12 عاماً، تتسول على الرصيف قرب أحد الأسواق المكتظة بالبشر، ينام أخوها الصغير (5 سنوات) دافناً رأسه في حضنها، ممدِداً جسده بين أقدام المارة الذين يتجنبون التعثُّر به. مشهدٌ مؤلم يستعطف أغلب المارة، استوقفني لأسألها عن واقع حالها، فأجابت بلوعة من أرهقته السنين: ” كل يوم تُحضرني أمي بصحبة أخي الصغير إلى هنا قبل أن تذهب إلى عملها كمستخدمة في إحدى المستشفيات. والدي مفقود منذ خمس سنوات (معتقل، مخطوف، مقتول). نعيش في شقةٍ (على العظم) منذ نزوحنا إلى دمشق. راتب أمي 35 ألف ليرة، ندفع إيجار الشقة البائسة 25 ألف، لذا أحاول مساعدة عائلتي بعملي هذا الذي يعود علي ببعض النقود، أجلس هنا حتى المساء إلى حين عودة أمي”.
في مشهدٍ آخر، أربعة أطفالٍ نازحين، يعملون في التسول منذ سنوات، يجوبون الشوارع طوال النهار. قتل والدهم قبل نزوحهم مع أمهم إلى ضواحي دمشق، حيث عاشوا ظروفاً قاهرة ومريرة أجبرت الأم على الزواج علّها تجد من يدعمها ويحمي أطفالها من جحيم الواقع، لكن أحلامها تحولت إلى جحيمٍ جديد، إذ تبين فيما بعد أن لزوجها مآرب قذرة أخفاها خلف هذا الزواج. أجبر الأخير أطفالها الخمسة رغماً عنها على العمل في التسول يومياً ليعودوا عليه بمكاسب مالية كبيرة. كان يمنعهم من العودة إلى المنزل قبل أن يجمعوا المبلغ المالي المطلوب منهم، والذي لا ينالهم منه سوى طعامٍ بائس ومأوىً يشبه السجن. ونتيجة وجودهم في الشارع طوال الوقت واحتكاكهم بوحوش البشر وأقذر أنواعها، أصيبوا بلوثة الشارع وأمراضه المدمرة وأحدقت بهم لعناته من كل حدب وصوب، فالأخت الكبرى تعرضت أكثر من مرة للتحرش الجنسي ومحاولة الاغتصاب، ونتيجة لذلك صارت بدورها تتحرش ببعض الأطفال الذين تصادفهم في أماكن مختلفة. الأخت الوسطى تعلمت فن السرقة، فسرقت مبلغاً من المال من احدى المحلات ليتم القبض عليها وسجنها، أما الأخوين الأصغر فتعلموا عادات التدخين وشم التنر والشعلة. حاولت الأم أخيراً الوقوف بوجه زوجها لتنقذهم من الشارع بعد أشهرٍ من استسلامها للواقع المؤلم، فقام الزوج بضربها، لتهرب من بيته، وتنام وأطفالها في إحدى الحدائق لأسبوع حتى عثرت على منزلٍ يأويهم، لكن واقع الأطفال لم يتغير، إذ تابعوا مهنة التسول التي اعتادوا عليها، بعد عجز الأم عن تأمين حياةٍ كريمة ولائقة لهم.
يروي لي صديقي – الذي يعمل مع احدى منظمات الدعم النفسي للأطفال – حكاية مؤلمة أخرى: ” أمٌ وأطفالها الخمسة فقدوا الأب والسند والمعيل. تشردوا لأسابيع في الحديقة القريبة من شارع الثورة. وبعد فصول من المعاناة والذل والتحرش، تزوجت الأم زواجاً عرفياً على أمل أن تنقذ نفسها وأطفالها من جحيم التشرد، بعد وعود زوجها برعايتهم، لكن الأخير نكث بوعوده بعد أيامٍ من الزواج وطرد الأطفال من بيته، ثم قام بتشغيل الأم في مهنة الدعارة تحت التهديد والإكراه، ولم تستطع الأخيرة أن تهرب أو تتقدم بدعوى ضده خوفاً من الفضيحة التي ستلطخ شرفها بالعار، لكنها رغم ذلك لم تنجُ منها. اكتُشف أمر المنزل وتم القاء القبض عليها وسجنها، بينما استطاع زوجها المزعوم أن يتخفى عن الأنظار. بقي الأطفال في الحدائق عدة أشهر يفترشون العشب ويعتاشون على فتات العابرين. أصيبوا بأمراض كثيرة كالجرب والأمراض الجلدية وسوء التغذية، بالإضافة للأمراض النفسية المدمرة، وكان يمكن للموت أن يفتك بهم لولا تدخل بعض أصحاب القلوب النبيلة، الذين قاموا بنقلهم إلى أحد مراكز الرعاية المؤقتة”.
إن انتشار ظاهرة أطفال الشوارع قد فتحت الباب أمام بعض عصابات الاجرام التي قامت بجمع الكثير من أولئك الأطفال لتشغيلهم في مهنة التسول مقابل اطعامهم وايوائهم، حيث يتم توزيعهم في الشوارع منذ ساعات الصباح الأولى، يُلبسونهم الثياب البالية أو يتركونهم حفاة لكي يستعطفوا المارة، وفي المساء يتم جمعهم واعادتهم إلى أماكن سكنهم البائسة، بعد سلبهم المال الذي جمعوه.
الطفل (أحمد) وأخوه كانا ضحية استغلال تلك العصابات. أراهما منذ نحو عامٍ في الشارع ذاته، ينامان حيناً ويتشاجران حيناً مع أطفالٍ آخرين – من ضحايا تلك العصابات أيضاً – يحاولون سلبهما ما جمعاه من مالٍ ليكملوا المبلغ المطلوب جمعه وفقاً لأوامر مشغليهم. في فصل الشتاء تبرع أحد الأشخاص لأحمد وأخوه بأحذيةٍ شتائية ليردا البرد القارص عن أقدامهم العارية، ولكن في اليوم التالي كانا يجلسان حافيان كما اعتادا. سألت (أحمد) الذي أصبح يعرفني بشكلٍ جيد، عن سبب عدم ارتدائهما لتلك الأحذية، فاتضح أن الرجل المسؤول عنهما قد منعهما من ارتدائها وجرّدهما منها، كي يكون منظرهما أكثر إثارةٍ للشفقة والاستعطاف، فذاك الرجل هو فردٌ من تلك العصابات التي تقوم بتشغيل الأطفال بمهنة التسول.
من الشارع إلى سوق العمل
في الآونة الأخيرة أصبحت أغلب محلات البقالة والخضار والمطاعم، التي توفر خدمة توصيل الطلبات، تعتمد على الأطفال للقيام بهذا العمل. أطفالٌ هربوا من جحيم الشوارع ليتم استعبادهم واذلالهم عبر أعمالٍ يعجز عنها الكبار وذلك مقابل أجورٍ لا تذكر، لتجد طفلاً يحمل أكياساً ثقيلة قد تفوق وزنه، وآخر يحمل غالونات الماء إلى الطوابق العليا. لذا أصبح أمراً اعتيادياً ومألوفاً أن تجد من كتب على باب محله: ” يلزمنا فتاً صغيراً للعمل”، فأغلب أرباب العمل باتوا يفضلون الأطفال عن البالغين للعمل لديهم، وخاصة الأطفال النازحين، لأنهم يعملون دون تذمر ولساعاتٍ طويلة لقاء أجورٍ قليلة وبخسة. أما الفتيات فلهن نصيب آخر من المأساة، حيث تحول كثيرٌ منهن للعمل في خدمة المنازل وتنظيفها وشطف الأدراج، أو العمل في ورشات الخياطة والمعامل وغيرها.
لقد أصبح منظر الأطفال الراكعين عند أحذية المارة مشهداً مألوفاً في شوارع دمشق، مشهدٌ يقتل طفولتهم وهم يعملون على بسطات تلميع الأحذية حيث الذل والكرامة المهدورة. مشهدٌ اعتيادي آخر لأطفالٍ يبيعون العلكة والبسكويت بشكل يشبه التسول، أو آخرين يمسحون زجاج السيارات عند اشارات المرور، أو يغسلوها أمام المطاعم والمقاهي. بالإضافة للأعمال اليدوية الشاقة والمضنية كالعمل في ورشات الميكانيك والحدادة وأعمال البناء.
بنظرةٍ تفحصيةٍ على شوارع الحي الذي أعيش فيه، كنت أرصد يومياً حضوراً كبيراً للأطفال في كل مرافق العمل بشكلٍ يدعو للحزن والألم ويدمي القلب. أطفالٌ خطفهم سوق العمل إلى كل مكان، من ورشات الحدادة والنجارة والميكانيك وتصليح السيارات، إلى مغاسل السجاد ومستودعات توزيع اسطوانات الغاز. كثيراً ما تجد طفلاً يحمل اسطوانة غاز في الشارع أو يجرها في عربةٍ أو ينقلها إلى الطوابق العليا. في الشارع ذاته أرى أطفالاً يعملون في أعمال البناء، بعضهم يخلط الرمل والإسمنت، وآخر يحمل مطرقة وإزميل أو يجر عربة معبئة بالرمل والحصى.
في البناية المقابلة لمنزلي، أرى كل يوم جمعة ثلاثة أطفالٍ يعملون بشطف الأدراج، بعد حديثي معهم تبين أنهم قد تعاقدوا مع عدة بنايات، حيث يتقاضون مبلغاً من كل شقة ضمن البناية التي يقومون بشطف أدراجها بشكل اسبوعي. الأمر الذي يتركهم عرضة للاستغلال والتحرش الجنسي في بعض الأحيان.
مع ساعات الفجر أرى من نافذتي بشكلٍ شبه يومي، عدة أطفالٍ يعبثون في حاويات القمامة، أخبروني ذات مرة أنهم يمرون على عدة حاويات ليقوموا بجمع البلاستيك والكرتون والعلب الزجاجية بغية بيعها، أو جمع بعض المواد الأخرى التي يمكنهم الاستفادة منها. وبالإضافة لعملهم هذا، يعمل بعضهم في نقل أكياس القمامة من بعض منازل الأثرياء لرميها في الحاويات لقاء مكافآت ماليةٍ بسيطة يقدمها أصحاب تلك المنازل بالإضافة لتقديمهم بعض الأطعمة أو الثياب المستعملة لأولائك الأطفال الذين يحضرون كل يوم ليتسولوا العطايا بحجة نقل القمامة. أطفالٌ كثر قرعوا باب بيتي ليسألوني عن أعمالٍ منزلية يمكنهم القيام بها، ومن ضمنها نقل قمامة المنزل.
التقيت بـ (محمد) الذي يعمل على بسطةٍ لبيع السجائر، فتحدث عن واقع حاله بقوله: “اعتقل والدي منذ أربع سنوات ولا نعلم شيئاً عن مكانه ومصيره. أمي لا تستطيع العمل لأنها تعاني من الشلل. ولكي نستطيع تأمين لقمة العيش ودفع ايجار المنزل، أُجبرت وأخويَّ على ترك المدرسة والعمل في أعمال مختلفة، وها نحن اليوم نعمل على بسطات بيع السجائر. هذه البسطات يملكها رجلٌ في حارتنا لا أعلم أي شيءٍ عنه، يرتدي زياً عسكرياً ويحمل سلاحاً أغلب الوقت. يصطحبنا هذا الرجل الغامض منذ الصباح في سيارته، لينزل كل واحد منا بصحبة بضاعته في شارع، نبيع منذ الصباح حتى المساء، مقابل ألف ليرة لكل واحد منا”.
على بعد أمتار من محمد، جلست (نور) مع أختها تبيعان ربطات الخبز. تجلسان يومياً أمام نوافذ الفرن لساعاتٍ طويلة حتى يتسنى لهما شراء خمسة وعشرين ربطة على عدة مراحل، ثم تقومان بنقلها بمشقةٍ كبيرة إلى رصيفهما المعتاد ليبيعانها بسعرٍ يوفر لهما ربحاً قليلاً يساعدهما على اعانة العائلة التي فقدت المعيل.
على الرصيف المقابل، يقف (مؤيد) وأخته، يبيعان أشياء مختلفة، تتبدل كل يوم حسب الظرف والميزانية، فأحياناً يبيعان البسكويت والسكاكر ومراتٍ يبيعان الجوارب والقفازات، ومراتٍ أخرى يبيعان الورود التي يقطفانها من بعض الحدائق، لذا أصبح بعض المارة يلقبانهما بـ “التاجران الحاذقان”.
في مكانٍ آخر، تحول بعض الأطفال إلى أدواتٍ بيد مشغليهم الذين أفرزتهم الحرب، حيث يطلب هؤلاء الوحوش من الأطفال العاملين تحت امرتهم، أن يقوموا بأعمالٍ مشبوهة وحقيرة، كالقيام بسرقة بعض المحال أو البيوت أو الأشخاص العابرين، أو القيام بنقل بعض المواد الممنوعة كالحشيش والمخدرات وأشباهها، بالإضافة لتشغيلهم كمخبرين وجواسيس، ناهيك عن استغلالهم بغرض الإتجار بهم وتشغيلهم في مهنة الدعارة.
أمراض وأخطار كارثية
إن بيئة الشارع التي ينشط بها الأطفال هي مكانٌ يشبه الغابة ويسود فيه قانونها، حيث تفرض عليهم قانون البقاء للأقوى لتحولهم إلى وحوش، لذا تراهم يقتتلون دائماً على الزعامة ومناطق التسول، الأمر الذي يجعلهم يكتسبون لغة العنف والشغب والسلوك العدواني. يتعلمون فنون الكذب والحيلة والتمثيل كي ينجوا من مضايقات الناس ويستعطفونهم. يعانون من عدم التركيز واضطراب الهوية والفقر العقلي، يميلون إلى ايذء أنفسهم نتيجة صراعاتهم النفسية والتناقضات المؤلمة التي يعيشونها.
إن شم التنر والشعلة وتعاطي التدخين والحشيش، عادات تجعلهم يشعرون بنشوة ما؛ يفقدون معها القدرة على الإدراك أو الانتباه أو التفكير وتغدو حركتهم متكاسلة، فتلك العادات تلحق بهم أذى وتعرضهم لأخطار كبيرة لا يدركون حجم كوارثها.
إن غياب النظافة والسكن الصحي وظروف الحياة الصحية، سيجعل من الأطفال عرضة للأمراض الكثيرة كالأمراض الجلدية، خاصةً الجرب والقمل، وأمراض سوء التغذية وفقر الدم وفايروس التهاب الكبد الوبائي والتوفئيد وغيرها، بالإضافة للأمراض الهضمية كالتسمم الغذائي نتيجة تناول الأطعمة الفاسدة أو الملوثة التي يحصلون عليها بطرقٍ عديدة، كجمعها من أمام المطاعم أو من جانب حاويات القمامة.
أما الأمر الأكثر خطورة فيتمثل بانتشار حالات الشذوذ الجنسي بين الاطفال الذين ينامون في أماكن واحدة ويقضون معظم الوقت بصحبة بعضهم البعض، إضافة لاستغلالهم جنسياً من قبل بعض الشواذ والبشر غير الأسوياء.
إن العالم الذي عجز حتى اليوم عن وقف نزيف الدم السوري وقمع آلة الحرب التي أزهقت آلاف الأرواح البريئة، وقفت انسانيته عاجزة عن ترميم جراح أطفال سورية ووضع حد لتلك الأمراض والأوبئة والكوارث التي لحقت بهم وحولتهم إلى أشخاص منكوبين ومدمَّرين وغير أسوياء، انتهت حياتهم قبل أن تبدأ.
خاص “شبكة المرأة السورية”