د. صباح ضميراوي
حزمت حقائبي، ودعت أهلي وأصدقائي، عتبة الدار والشباك الخشبي والباب العتيق، أصيص الزهور والياسمينة البيضاء، العريشة وشجرة البرتقال، ضجيج الباعة الجوالين، صخب الأطفال يتقاذفون الكرة المتعبة، صبحيات الجارات، رائحة الخبز الطازج في الصباح، وعمادة الشمس عند الغروب وحزن البحر لحظة الفراق، اخضرار الربيع وتلألؤ حبات الندى مع قبلات الشمس الأولى.
توجهت إلى قرية نائية بحثاً عن الأمان، وأقمت قرب مزرعة لفلاح زرع في أرضه، التي ورثها عن أبيه وأجداده، البطاطا بكميات كبيرة. فقد أصبح الطلب عليها كبيراً في هذا الزمن الصعب لأنها خبز الفقير، حيث يمكنه أن يصنع منها المقلية غذاء لذيذاً لأولاده، ومسلوقة لمن يمرض منهم وتلتهب أمعاؤه ويصيبه الإسهال، عدا عن شيها على النار بعد إشعال كومة من الأغصان دون أن تكلف شيئاً، وطبعاً هناك الكثير من الطبخات البسيطة التي تدخل فيها البطاطا.
اهتم جاري الفلاح بالأرض ورواها وسمدها ليكون الموسم وفيراً، ولما حان القطاف كان بحاجة لِيَد عاملة كي تقطف المحصول الوفير، وبدأ يبحث عن اليد العاملة الرخيصة. ولما كان عدد فتيات القرية لا يكفي، لجأ الى مخيمات النزوح عله يجد هناك يداً عاملة وبأجور أرخص لحاجتهم الماسة للعمل. وفعلاً حضرت بعض الفتيات للعمل عنده، ولما قابلهم ليتفق معهم على عدد ساعات العمل في اليوم وعلى الأجر وعلى كيفية التنقل تفاجأ بالسواد الكامل الذي يرتدينه، وتفاجأ أكثر بالخمار الذي يضعنه على وجوههن والكفوف السوداء التي يلبسنها. كان عددهن يزيد عن العشرة، قال لهن: “إن هذا اللباس يعيقكن في العمل فمع وضع الكفوف كيف سيتم العمل؟ وهل من قيمة للعمل ان لم يلامس تراب هذه الارض الطيبة. ومع الخمار كيف ستتمكن من رؤية المحصول وجنيه وتصفيفه، ومع هذه العباءة السوداء كيف يمكن أن تتحركن بحرية لترتيب شنط البطاطا؟”، وأردف قائلاً: “لن أقبل بعملكن عندي إلا إذا لبستن مثل لباس بنات قريتنا، فهو لباس بلدنا منذ القديم لبسته أمهاتنا وجداتنا، وهن اللواتي ربونا على الحشمة في اللباس وعلى الصلاة والصيام وكن يذهبن للحج من استطاع اليه سبيلاً، إن لباس فتيات القرية زي جميل يساعدهن على التحرك في العمل وبالتالي وفرة بالانتاج بنفس ساعات العمل”.
رفضت العاملات ذوات الملابس السوداء طلبه وبدأت الأعذار تتوارد على مسامعه، بعضهن، وهن قلة، قلن إن طلبه حرام وإنهن مسلمات وشعارهن يقول “خمارك عفافك” وان هذا ما يرضي الله ورسوله، والبعض الآخر قال: “صحيح أننا لا نحبه ولا نرتاح فيه ولكنه مفروض علينا ولايمكن ان نتخلى عنه”. لكن الأكثرية قلن له إنه: “من شروط بقائنا في المخيم ولن يسمحوا لنا بعدم ارتدائه، لأن الكويتي الذي يدعمه شيخ ومتدين ويريد أن يكسب ثوابنا، ويحضر لنا مشايخ من مدينة بعيدة وداعيات، وهم علمونا أن أهم شيء في ديننا هو السترة للمرأة، فهم يحضرون كل أسبوع داعية في يوم العطلة ويعلموننا كيفية أداء الفروض وكيفية طاعة الأب والأخ والزوج والخضوع له، وكل ذلك ضمن دورات شرعية نخضع لها باستمرار. اما بالنسبة لأولادنا ولأطفال المخيم فأهم عمل يقومون به هو تحفيظ القرآن لهم مع شرح البعض منه, ومنذ شهرين تخرج أكثر من ثلاثين طفل قام هؤلاء المشايخ بتحفيظهم القرآن، وطبعاً كل طفل يحصل على شهادة تحفيظ القرآن يحصل على مبلغ مالي شهري من الشيخ الكويتي المحسن، واللي قلبه لله”. لم يناقشهم زارع البطاطا وهو يقول في نفسه ماقاله أحد الأطفال الذين يدرسونهم القرآن فقط في جامع القرية: “سنصبح كلنا مشايخ في المستقبل”، لكن أين الطبيب والمهندس والصيدلاني والمعلم؟ فقد كان همه أن يجد عاملات يقدمن إنتاجاً وفيراً وفقط. ولما رفض أن يعملن بلباسهن الأسود، بدأن يرجونه بقبولهن للعمل، والأكثرية بدأن بالاعتراف بأنه مفروض عليهن منذ دخلن المخيم، وبأنهن قد يطردن من خيامهن إن انصعن لطلبه، وتوسلن إليه مراراً أن يقبلهن. رفض بقوة، وهن ايضاً رفضن طلبه لأنهن سيخسرن مكان إقامتهن. صحيح أنهن لا يحسدن عليه لكنهن لايستطعن تأمين بديل أفضل حالياً. عدن والخيبة تجر أذيالهن، وبدأن يتذكرن الأيام الأولى في المخيم حيث كانت إحداهن تعمل في بيت طبيبة لتساعدها في تنظيف البيت والبقاء عند اولادها، وكيف بدؤوا بجبرونها على وضع الخمار وإلا ستمنع من الخروج حتى لو داومت على الدورات الشرعية. أما الأخرى والتي كانت تذهب لسيدة مريضة، صحيح أنها كانت فقيرة، ولكن بناتها كن يدفعن الأجر لها، فقد منعوها لان زوج المريضة متقاعد وقد يتواجد في البيت بشكل دائم. أما منال ذات الصبا والجمال فكان خروجها بمزاج مدير المخيم، فقد يسمح لها وقد لا يسمح لأنه يخاف ان يحيدها عن دينها أحد. كم من مرة لبست وهمت بالخروج لأنها قد وعدت زوجة أحد الأطباء والتي تساعدها باستمرار، ولكن المدير كان يمنعها من المضي إلى عملها لأنها صبية جميلة وقد تفتن من ينظر إلى عينيها، والتي لايظهر غيرهما من الخمار.
كان الشعار الذي يملأ شوارع البلدة “حجابك عفافك”، ولكن كيف اصبح الشعار بليلة وضحاها “خمارك عفافك”؟ لم يعرفن، كل مايتذكرنه كان كيف جمعهن مدير المخيم وقال لهن: “من الآن وصاعداً يمنع الخروج من المخيم بدون اللباس الشرعي، وأي واحدة لديها عمل عليها أن تخبرنا عن مكانه فقد نوافق وقد لا نوافق. ولأن هذا العمل جماعي وفي الحقول وليس في البيوت المغلقة، سمح لنا المدير وهذه فرصتنا لنعمل ونساعد عائلاتنا”.
ولكن صاحب البطاطا رفضهن ورفض خمارهن وذهب يبحث عن عاملات غيرهن، فهو كرب عمل لايهمه إلا نتائج عمله. وقال في نفسه: “يبدو أن الحلال والحرام لم يوجدا إلا للفقراء والمساكين والضعفاء فقط”، فمنذ أيام كان المزارع يبيع إنتاج البطاطا لتاجر كبير يضعها في برادات ضخمة ويحتفظ بها لعدة أشهر ويبيعها بغير موسمها بأضعاف مضاعفة. وهذا ينطبق على أغلب عمل التجار، ولكن يبدو أن النساء في زمن الجهل والتخلف يصبحن الحلقة الأضعف والتي يسهل السيطرة عليها، وخاصة إذا لم تكن قد تمكنت علمياً أو مهنياً.
خاص “شبكة المرأة السورية”
المقالة تعبر عن رأي كاتبتها