سلوى زكزك
الكثيرات يحسدن أمل. فهي أرملة شابة, جميلة ورشيقة, تهتم بمظهرها العام وخاصة شعرها اللامع دوماً.
أنجبت أمل ابنتين وصبي, تزوجت الفتاتان بعمر مبكر لأنهما لم تكملا تعليمهما وباتتا عبئاً على أرملة شابة تعيش على الحسنات والأعطيات حتى تمكنت من إيجاد عمل كمستخدمة في شركة خاصة. أنجبت الفتاتان وصارت أمل جدة فتية, تتضرج وجنتاها باللون الأحمر عندما يقول الجميع لابنتيها (فكرناها أختكن)!
أما الصبي فقد ركب البحر وصار في ألمانيا, عبثاً يحاول جرجرتها شاكياً شح راتب السوشيال وقلة النظافة وانعدام الحنان الأمومي، علّها تقول له عد, أو توافق على بيع قطعة الأرض الوحيدة المتروكة عن الأب في تلك الضيعة البعيدة جدا وترسل له ثمنها تحت ذريعة فتح مشروع تجاري, لمن فطنتها تدلها لقول كلمة واحدة: “لا رجل لدي، أباك ميت وأنت بعيد، والأرض للآخرة, لتكاليف جنازتي”. ينتهي الحديث وتعاود أمل عيش دور الأرملة المتقن والمقبول والمرضي عنه، لا بل متعاطف معه بصورة كبيرة وعميقة.
ترملت أمل منذ ثماني سنوات وكانت في السابعة والثلاثين, منحها أخوها المهاجر إلى أمريكا بيته في جرمانا لأنها أرملة ولا تملك بيتاً لا في دمشق ولا في الضيعة البعيدة، ولا قدرة لها على تسديد إيجار منزلها الذي كانت تعيش فيه مع زوجها.
صندوق الإعانة تحصل عليه أمل بيسر وببساطة لأنها أرملة، بينما كثيرات أشد فقراً منها لا يتمكنّ من الحصول على كيس أرز لأن لديها زوج! زوج وليتلو اسمه ألف شارة تعجب أو ألف سؤال، فهو إما: عاطل عن العمل، أو مشلول, مصاب, مجنون، مخطوف, مغيب, معتقل, مجهول مكان الإقامة, عالق على الحدود، مطلوب للخدمة أو لصاحب البيت الذي لم يسدد إيجاره , أو لصاحب البقالية أو لصاحب الميكرو الذي عمل عليه بعدما استأجره وعجز عن السداد وعن الإصلاح وعن تسديد ثمن المازوت المستجر بأغلى الأثمان وهارب أو متوار.
تحتفل أمل بالأعياد. فالكل لا ينسى عيديتها ولا هدية العيد, تشتري الملابس الجديدة والكستنا والقلوبات الفخمة.
لا تتردد أمل في نطق العبارة المفتاحية: “أرملة منذ ثمانية أعوام”, أي أرملة طبيعية لرجل طبيعي في ظروف طبيعية.
الموت هنا لا يقبل أية تهمة ولا شبهة تخوين أو كذب أو مراوغة. الموت هنا موت رباني والترمل رباني لابل يبدو كهبة ربانية هونت ثقل السنين وعذاباتها على أمل.
حتى في سيارة الأجرة يتهم السائق الزوجة بأن زوجها الغائب هو مجرد إرهابي او مجرم متوار, أو أنها تتعمد الإعلان عن غياب زوجها أو موته لتراود السائق عن نفسه أو لتبرر له وللعامة امتهانها الدعارة .
في الموت قبل الحرب وبعدها دلالات لا حدود لها, إشارات استفهام وحزن وتعاطف مؤجل حتى التأكد من اسم الميت وخانته ومدينته.
شابات بعمر الورود ترملن وأنجبن, هن الآن مشاريع امتهان الدعارة المباشرة أو غير المباشرة، هن عناوين في حلقات المزايدة والإحصاء, هن مجرد رقم للمزاودة وادعاء أن هذا الطرف قد خسر أكثر.
هن الزوجات الثانيات والثالثات وربما الرابعات والخليلات والموعودات بورقة رسمية واسم زوج حي, حي في الأوراق والوثائق لكنه ميت في الروح وتائه في التعريف ومختل في حضور الجسد. وهن زوجات أخ الزوج المقرف والمقامر والتائه والطالب في عمر الثانوية، فقط لحفظ النسل واللقب واسم العائلة أو للاستيلاء على التعويض والإرث.
كثيرات يحسدن أمل وأولادها, لأنها أرملة ,لأنها ترملت صبية ياحرام, لأن أولادها يتامى, بلا أب.
وعشرات آلاف الأطفال يتامى الأب والأم, بلا سكن ولاجد أو جدة, بلا اسم أو وثيقة أو عنوان بيت ورقم خانة. بلا صورة في الذاكرة عن يد أمومية تهدهد الجسد الغض أو فم أبوي يلثم خدود أولاده.
أرملة؟ كيف ومتى ولماذا ومن؟ لم يعد الموت قابلاً للرثاء ولا لتدفق الدموع من المآقي. هو الآن واسطة تشفير ترميز وتنميط وأداة تقييم وتقويم وقياس.
بات الموت رقماً غير قابل للتفاوض بل مراد زيادته لاستثماره في حلبات الصراع المستعرة.
سوزان بالغة الجمال، زوجة لرجل هرم, تزوجته لأن أباها لا يملك قيمة سماعتين لأذني سوزان التي ولدت بعاهة خلقية, فقد ولدت ضعيفة السمع، وبسبب الفقر والجهل تأخر تشخيص إعاقتها، ولم يكن من خيار لها سوى الزواج برجل هرم لا يهمه سماعها أو أن تسمعه أصلاً, لأنه لا يكلمها، فهي مجرد صورة جميلة بين متاعه.
لا تملك سوزان مواصفات أمل, لأنها زوجة رجل حي رغم كل الموات في جسده وروحه, لا تمتلك التعاطف ولا الحق في صندوق الإعانة، أو مساعدات جمعيات أخرى. هي مجرد فرصة لتحرش ابن زوجها أو حفيده أو ابن أخيه وربما صاحب البقالية أو بائع الخبز.
هو الموت ينمّط الأحياء كما الأموات ويمنحهم شرفاً توافق الجميع على تعميمه بتناقض بهيمي ومرعب, ويحرمهم تعاطفاً وواجباً إلزامياً تفرضه الظروف والحاجات.
القهر والعجز هما الإطاران اللذان يغلفان توصيف النساء زوجات الرجال الأحياء اسماً والميتين روحاً وجسداً وفعلاً، أو الأموات بأسباب لا ترضي المنمطين و المغالطين في الفرز على أساس الاسم والعنوان ورقم الخانة.
أرملة منذ ثماني سنوات أي في وقت طبيعي لرجل طبيعي وبميتة طبيعية وحدها من تستحق لقب أرملة طبيعية فقط .
خاص “شبكة المرأة السورية”