سلوى زكزك
على أوتوستراد العدوي تقف بنية في حوالي العاشرة من عمرها، قُصّ شعرها على عجل بنزق وعدم احترافية. أسألها “أنت بنت؟”، ترد بعصبية وخوف ما دخلك! وتشد طرفي جاكيتها العتيق إلى بعضهما. أحاول طمأنتها، لكنها تحاول التملص. بعد حصار تقول بأنها بنت وبأن أباها قص لها شعرها وأمرها بإحكام إغلاق جاكيتها والتصريح بأنها صبي. تطلب مبلغاً محدداً، خمسون ليرة، ولا تمانع بأكثر. قالت لي أن المارين بسياراتهم يمنحونها الطعام بشكل دائم، وشددت: “موز وأكلات طيبة وخبز وكلشي”. وفي المساء تمنح الغلة لأبيها. لم تسرّ لي قيامها بتوفير بعض الغلة لنفسها دون علم أبيها، لكن أخاها قال بأنه نادراً ما يتواجد طعام في البيت، وإن وجد فهو رز أو شوربة أو مجدرة، لذلك يلجأ هو واخوته لاقتناص ثمن سندويشات الشاورما أو الفطائر وأحياناً يعمرون وجباتهم الباذخة بعبوات الكولا.
في مشروع دمر تستوطن هالة زاوية المجمع ,تجيء قبل الموظفين وترحل بعدهم, تستقبل المتسوقين منذ لحظة ترجلهم من سياراتهم لتبيعهم سورة ياسين. أغلبهم ينقدها مبلغاً ما ويتركون لها السورة، أسالها “ماذا تبيعين؟”، تقول: “قرآن!”، أسالها: “هل تقرأين القرآن؟”، تقول بأن لا, فهي لاتعرف القراءة ولم تدخل المدرسة من أصله. تتكتم على باقي الأجوبة التي أحاصرها بالسؤال عنها. ويبدو جلياً أن التسرب من المدرسة ملازماً للتسول. يقول لي أسامة: “نحن لا نتعلم ونخاف من المدرسة”, أساله: “من أنتم؟”، فيقول: “نحن نشحد وبس”.
تطورت مهارات التسول بطريقة أكثر لباقة بحيث توحي بالكرامة والأنفة. تطرق يافعة على الباب, لا تقول لك معي بسكويت للبيع, بل تكرر اللازمة المحفوظة والمطلوب تردادها: “أسكن في مركز إيواء أبي ميت وعندي خمس أخوة وأمي مريضة”, تسألها عن عمر أصغر أخ فتقول سنتان, وعن تاريخ موت أبيها فتقول خمس سنوات, تختل الرواية, تكتشف اليافعة هول الفخ الذي استدرجتها إليه, بغضب ونفاذ صبر تسألني بدك تشتري أو لا؟ اسألها عن المدرسة تقول بأنها في الصف الثامن, تدرس صباحاً وتبيع البسكويت مساء. أشتري منها بسكويتاً تتردد في منحه لي. نفس الحكاية تتكرر, يحتفظون بالبضاعة ويريدون نقودا فقط ,إعادة تدوير لما يملكونه, أو لما يطلب إليهم شكلياً بيعه.
لكن بائعة البسكويت تخرج عن منحى المتسربين, أتأكد من اسم المدرسة, مقابل المركز تقول لي, فأجزم بصدق كلامها,غير متسربة , رائع, ولكن ماذا عن حصتها من الإنفاق على وسائل التعليم؟ ماذا عن مقعدها والاكتفاء العلمي؟ إذ وصل عدد الطلاب في الصف الواحد في بعض المناطق إلى سبعين طالباً, يجلسون خمسة طلاب في كل مقعد. هذا عدا عن غياب أية فرصة حقيقية في التحصيل والتركيز واكتساب المعلومات أو المعارف.
في الحديقة العامة تحجم فتاة عن الصعود إلى الزحليطة ,تقول لي كلن زعران! هم ثلاثة متسولين, قرروا الاسترخاء واللعب ,خلعوا أحذيتهم الضيقة وصاروا يتزحلقون وبالعكس لدرجة أن عنفهم وأصواتهم العالية أجفلت كل الأطفال في الحديقة. أحدهم ترك المدرسة من الصف الثالث وهو الآن لا يعرف كتابة حتى اسمه, يعمل كمرشد لأقرانه حين يتولى مهمة قراءة اسم الحافلة التي سيعودون بها إلى بيوتهم التي قد تكون مجرد ركن في العراء, وغالبا ما يعودون سيراً على الأقدام خاصة في حالة تصرفهم بجزء من الغلة لشراء طعام أو شراب أو سيكارة في أحيان أخرى.
في الحرب تتحول الشريحة الكبرى إلى التسول وإن بطريقة غير مباشرة ,على باب الفرن يقول الصبي ,خالة مشتهي رغيف خبز سخن ,وتقول المرأة معك تدفعي عني إيجار السرفيس ,وتقول الفتاة عندك زوج جوارب زائد عن حاجتك؟ كلهم يقولون والحرب هي التي تنطقهم ,تحكمهم وتتحكم بحاجاتهم فيدخلون جميعا في متاهة العوز الفائق واليومي والمتفاقم .خمسة فتية ,اثنان منهم بحقيبة مدرسية على الظهر يتوجهون نحو بناء قيد الإكساء ,يصرخ بهم رجل مسن ,إلى أين ذاهبون؟ يقولون له نحن عمال بناء, لكنه يمنع صاحبي الحقائب المدرسية من اللحاق بهم ,يدفعهم خلفا ويأمرهم بالتوجه إلى مدرستهم ,يبرورون بأن الأستاذ غائب ,وبأن المدير طلب ولي أمرهم وليس لهم أهل ,يزجرهم فيرحلون وينتظرون دقائق حتى يرحل ويلتحقون برفاقهم ليس لمشاركتهم العمل بل للتفرج على فيلم خلاعي على جوال أحدهم والتدخين بعد أن تشاركوا بشراء باكيت سجائر رخيصة الثمن.
على أبواب المدارس يتفرق الطلاب بعد أن توصلهم الحافلات الخاصة ,كانوا قد رتبوا لنزهة في الحديقة, لإفطار جماعي وربما لمعاكسة طالبات مدرسة أخرى,طلاب يدفع لهم أهاليهم كلفة الحافلات الخاصة والحقائب والدفاتر والأقلام ,لكنهم يتسربون بصورة غير معلنة.
أسال أولاد الشوارع عن رغبتهم بالتعلم ,يقولون لا ,لا قاطعة بذريعة أن كل الطلاب الآخرين يسخرون منهم ,من أشكالهم وثيابهم القذرة وملابسهم العتيقة ,يخافون من عصي المعلم والمدير ومن طلب أولياء أمورهم وهم لم يعودوا بقادرين حتى على تذكر كنياتهم وأسماء أمهاتهم.
في ساحة باب توما, يسقط طفل مغشياً عليه بعد تنشقه لمادة لاصقة ,يعمل بنقل الأغراض على عربة صغيرة ,يشتري بما يجنيه مادة لاصقة في كيس بلاستيكي صغير يتنشقها بشراهة حتى حدود الإغماء, لا يفكر بالمدرسة ولا بالتعليم ولا بمقاعد الدراسة أو الأساتذة والطلاب الأقران ,كل ما يحلم به أن ينتشي باللاصق فيدخل في سرداب اللذة القاتل ويغفو على حلم بالتحليق نحو عالم بلا تعب ولا خوف ولا حاجة أو جوع.
متسولون هم, برغبة ورثوها عن بيئتهم كعمل ومصدر عيش أو قسرا جراء الحرب والتشرد والتهجير وضياع الأهل والطريق ,تائهون ,وتكر سبحة الضياع ,تسول فتسرب ,فمستقبل غائم وحاضر قاتم ,والحياة سيّان ,تمضية وقت لم يختاروا بدايته وليس بوسعهم اختيار توقيتات تفاصيله ولا حتى نهاياتها أبداً.
خاص “شبكة المرأة السورية”