سلمى الدمشقي
عانى السوريون والسوريات في السنوات الست الماضية شتى أنواع العذاب والقهر من تشرد وجوع ونفي وقتل واستشهاد وخطف وموت تحت التعذيب وبالانفجارات والقذائف وقصف الطائرات …
ويأتي الاقتلاع من الجذور عبر نفي سكان قرى بأكملها من مناطقها إلى مناطق جديدة هو الأحدث في مسيرة الجلجلة السورية وما تفاصيل ما اصطُلح على تسميته باتفاقية المناطق الاربعة إلا تعبير صارخ عن عبارة الاقتلاع من الجذور.
ماذا يعني أن يترك إنسانٌ بالقوة بيته وذكرياته، أرضه ومكان لعب اطفاله، وأشجاره وتفاصيله الصغيرة، إلى مكان جديد لا يمت له بصلة، حتى لو كان على نفس الأرض؟ كل منا يعشق حارته وشارعه، وأول حب لابن الجيران، ومدرسة الطفولة وأصدقاء اللعب، والشجرة التي حفرنا عليها أسماءنا، والزوايا التي اختبأنا بها في اللعب واللهو، وحكايات الجدات والجارات ، وسهرات الصيف أمام البيوت، ورائحة المنزل، وخربشات الأطفال على الحيطان، والأدراج المليئة بذكريات الطفولة، وأشياءنا المبعثرة في الغرف والمطبخ. كل هذا يجب ان ينساه سكان هذه المناطق. عليهم حمل بعض متاعهم القليل وركوب الباصات دون الالتفات الى الوراء.
وما يحز في النفس أكثر أن سكان هذه المناطق فلاحون، ولم يكن عبثاً قول أجدادنا الارض أغلى من العرض، فالفلاح يمضي حياته وهو يراقب أشجاره وهي تكبر لا يبعده عن أرضه مطر الشتاء أو حرارة الصيف. وهو يفتخر بأرضه الخصبة وأشجاره المثمرة كما يفتخر بأبنائه حين حصولهم على الشهادات العالية. من أصعب الأمور على الفلاح أن يبيع أرضه في حال حاجته الماسة إلى المال، يبكي أرضه المفقودة كما يبكي أمواته.
تروي لنا نساء مراكز الايواء تفاصيل كثيرة وموجعة عن تركهن لبيوتهن بسبب الاشتباكات والقصف. احدى النساء واظبت على الذهاب إلى أماكن بيع الأشياء المستعملة علها ترى صحناً من صحونها، أو طنجرة من طناجرها. وأخرى كانت تذهب إلى بسطات البالة علها تجد ثياب اطفالها. وأخرى امتنعت عن أكل الكوسا لانها كانت تزرع الكوسا في أرضها ولا تتخيل أن يأتي يوم وتشتريها والبقدونس والحشائش الأخرى لها رائحة مختلفة في أرضها، أحد الرجال أغمى عليه حين شاهد براده وعليه صورة ابنه محمولا ومعفشا في إحدى الشاحنات. وما يعزيهم جميعهم أنهم هربوا لينقذوا أطفالهم من الموت المجاني، ويعيشوا على حلم العودة حين تهدأ الأوضاع.
أيضا الكثيرون سافروا إلى الخارج هرباً من الموت تحت القصف وركبوا البالمات وتعرضوا لخطر الموت غرقاً وقد شبع البحر من أجساد السوريين.
كثيرون أغلقوا بيوتهم على أمل العودة يوماً ما عندما تهدأ الأوضاع.
أما في حالة التهجير القسري، وبعد خمس سنوات من الصبر ومن تحمل الحصار والجوع والقصف والإذلال اليومي على أمل البقاء، فأنت تترك بيتك مرغماً لآخر ليسكنه وأنت ستسكن بيتاً جديداً ولا يمكنك حمل أثاثك ومفروشاتك معك فقط أشياءك الصغيرة التي لا تتعدى شنطة واحدة مسموح بها.
لا يمكن اختصار تراكم سنوات طويلة من العمر والذكريات في شنطة. روائح البيوت لا تُنقل. الأشجار التي بعمر الأبناء لا تُنقل. أسرّة الاطفال وألعابهم لا تُنقل، صندوق العرس لا يُنقل، رفوف الصحون والكاسات لا تُنقل.
ثم ماذا يعني أن يأتي غريب ليسكن بيتي، وينام على فراشي، ويختلس النظر إلى أغراضي، يلعب أبناؤه بألعاب اطفالي، وتستخدم زوجته طناجر زوجتي . ويأكل من رزق أرضي وتعب عمري؟
في طفولتي تعرض بيتنا للسرقة، كان ما يشغل تفكيري في تلك الفترة ليس حجم المسروقات، بل أن هناك إنساناً غريباً تسلل الى بيتنا، وتلصص على أشيائنا. كنت أشعر أن بيتنا فقد حميميته، لأن هناك غريباً شاركنا به ولو لحظات دون إرادتنا وفي خلسة منا.
فكيف يمكن أن يفرض أحدٌ ما على سكان مناطق بأكملها أن يتركوا بيوتهم للآخرين، وليس أن يشاركوهم بها.
الكثيرون ممن فُرض عليهم هذا التهجير حرقوا بيوتهم قبل أن يغادروها. بيوت كثيرة حُرقت في مضايا وفي داريا وفي الزبداني. كان أسهل على أصحابها أن يحرقوا رزقهم بأيديهم ولا يأتي شبيحة التعفيش ويعفشوه. كم هو صعب على أي انسان أن يحرق ما تعب سنوات عمره كله في تحصيله، أن يحرقه في لحظة غضب ويأس فهناك قرار قد اتُخذ بالمغادرة ولا يستطيع البقاء.
التهجير القسري هو خطوة باتجاه تغيير ديموغرافي لمناطق بأكملها ضمن الخطة الموضوعة من النظام وإيران.
لا أحد يعرف الآن الى متى ستسوء الأمور، وأي بشاعات جديدة سنعيشها، ومع كثرة اللاعبين الدوليين والإقليميين على الأرض السورية تعقد الوضع أكثر، ولكن في يوم من الأيام ومهما بعد هذا اليوم، سينتهي هذا الكابوس وسيرحل هذا النظام.
ولكن لا أحد يعرف هل سيصبح هذا التهجير أمراً واقعاً لا عودة عنه، أم يحق لأهالي المناطق المهجرة أن يحلموا بالعودة يوماً ما إلى بيوتهم وأراضيهم ليرمّموا الخراب ويزيلوا آثار الغرباء وينبشوا في ذكرياتهم ليعيدوا ملامح بيوتهم إلى سابق عهدها.
هل يمكن للجميع ممن فُرض عليهم هذا التهجير أن يتعاملوا مع المناطق الجديدة والبيوت التي سيسكنوها. إنهم ضيوف مؤقتون، يراعون حرمة البيوت وخصوصية الأشياء، ولا يزيلون ذكريات الغير. هم جميعا تجرعوا نفس الكأس، ولم يكن أحدٌ منهم راغباً في هذا، وكلهم على ما أظن وأحلم، يرغب في العودة إلى بيته وأرضه، طال الزمان أم قصر. أم ستطول هذه الحرب المجنونة لتمحو كل شيء في طريقها، وتؤسس لخراب في النفوس قبل أن يكون في البيوت والأماكن. وسيكون على الأجيال القادمة أن تعيش بلا جذور ولا هوية أو انتماء في غير أرضها.
خاص “شبكة المرأة السورية”