سلوى زكزك
ترافقت دعوة القاضي الشرعي الأول محمود المعراوي للزواج مثنى وثلاث مع تأكيد من قبله بأن المحاكم الشرعية تتساهل بشأن تعدد الزوجات، وخاصة الثاني والثالث بنسبة أقل، وذلك وحسب قوله لحل مسألة العنوسة في البلاد، ترافقت هذه الدعوة بردود فعل صاخبة وغاضبة جداً، وصلت حد إعلان مجموعة من النساء غير المتزوجات جمعية (عوانس ومبسوطين بحالنا).
اجتماعياً، وخاصة من السيدات المبتليات بزواج ثان وثالث، وصلت ردود الفعل حد تسفيه تلك الدعوة وقائلها، وتجريمه فيما يخص النتائج الكارثية التي تنجم عن دعوته بحق الأسرة ككيان وبحق النساء والأطفال خصوصاً. أما الحد الأقصى نظرياً ودستورياً فكان توجيه اتهام مباشر للداعي ودعوته بأنهما يخالفان الادعاء بعلمانية الدولة لأنها صدرت أولاً من موظف رسمي بوظيفة دينية وثانياً لأنها تؤكد تسلط المحاكم الشرعية وتبني التشريع الديني مصدراً للقوانين، وهذا كله يخالف مبدأ العلمانية من حيث الجوهر ومن حيث الظاهر المعلن والمصرح به.
إن تعبير العنوسة بحد ذاته هو تعبير تمييزي، لأنه صفة أحادية تطلق فقط على النساء. لا يوجد رجل عانس لا في اللغة ولا في التعريف، لذلك دأبت المدافعات عن حقوق المرأة وخاصة المتصديات لضرورة إعادة الصياغة الجندرية للغة وللحوامل الاجتماعية لها على رفض هذا التعبير واستعملن تعبير العازبات، لأنه مقياس موحد للحالة الاجتماعية للجنسين ذكوراً وإناثاً، فثمة رجل عازب وامرأة عازبة. كما ارتبطت اجتماعياً عبارة ضرة بالزوجة الثانية فكيف بالثالثة، والضرة من جذر الضرر وهي بحد ذاتها ككلمة تفتح أبوابا واسعة لحجم كبير من أشكال وأنواع الضرر اللاحقة بالمرأة جراء الزواج الثاني. لا وجود لكلمة ضر لا في اللغة ولا في الحوامل الاجتماعية ولا حتى في الدين، لأن المرأة محرومة أصلاً وبصورة قطعية من تعداد الأزواج. وهذا هو الأمر الطبيعي أي أحادية الزواج كما في كل القوانين المدنية والدينية التي تمنح الذكر حقوقاً تمييزية عديدة.
تقول هناء، إنه من الأسهل عليها أن يرتبط زوجها بعلاقة عاطفية (مصاحبة)، حسب تعبيرها، وإن علمت بها على أن يتزوج مرة ثانية. وبعد استغرابي من تفضيلها المؤلم وقبولها المحيّر لفكرة (المصاحبة)، شرحت لي بأن قبولها فرضته الخسارات التي ستلحق بالأبناء جراء الزواج. فالمصاحبة حسب زعمها تضر بها وحدها، وبدموع نافرة في العينين وشفتين راجفتين قالت: (يروح يخبص وين مابدو، الله لايردو، ماني سائلة عنو، بس يرجع عبيتو كل يوم، يرجع عولادو ويحسسهم أنو أبوهن وحدهن).
تحكي هناء قصة قريبتها التي تزوج زوجها بامرأة ثانية، وجراء تعرضه لحادث مروّع لم يعد قادراً على العمل تاركاً لها أعباء المنزل والحياة وأولاداً تعيلهم تلك القريبة، تعيل أولادها وأولاد الضرة أو الزوجة الثانية، التي فرض عليها الزوج المعلول البقاء في البيت لخدمته والقيام بأعباء المنزل بحجة أنها صغيرة وجميلة، وبات على تلك القريبة أن تكون مصدر الدخل الوحيد للعائلة.
تشكو سيدات كثيرات من استئثار الزوجات الأخريات بدفتر العائلة وبمقتنيات الزوج الميت أو الغائب. كما تشكو بعضهن من استئثار الزوجة الأولى بالمنزل. تقول صبا إنها طردت الزوجة الثانية وولديها من بيت الزوجية فور علمها بوفاة زوجها. أما مريم فتحكي العكس تماماً، فبعد سفر زوجها إلى ألمانيا اتصل بأهله وطلب منهم إعادة الزوجة الأولى إلى بيت العائلة لتشارك مريم وابنتها كل شيء حتى سريرها الذي اشترته من مالها الخاص، لا بل قام الزوج بإجراء معاملة لم الشمل للزوجة الأولى المهجورة منذ خمس سنوات فقط لأنها أم الصبيان.
كثيرة هي القصص المؤلمة عن تعدد الزوجات. كثيرة هي الأسباب المزعومة التي قد تصل بامرأة ما لتعلن بالفم الملآن بأنها من اختارت لزوجها زوجته الثانية طاعة منها لتعاليم الدين، أو إكراماً له ليحظى بذرية من الصبيان والبنات. مما يدفعنا للتساؤل حول السبب الكامن وراء قبول أية امرأة العيش مع نصف رجل، نصف بالكاد لها ونصف لسواها. وما الأسباب التي تثمن التعايش القسري الممعن في قسوته مابين ضرتين وتكثر الأحاديث المؤيدة لهذه الحالة من أشباه العيش؟
في المقابل تغفل الأحاديث الشعبية حكايا نسوة لم تنجبن ولم يتزوج رجلها بأخرى، ونسوة طلبن الطلاق والفرقة فاسحات المجال لزوجة ثانية بعد إبداء الزوج رغبته بالزواج، وتزوجن مرة ثانية وباختيارهن وكن زوجات وحيدات، وربما أنجبن في بعض الأحيان. فلماذا يتغافل السيد القاضي وسواه عن أسباب قلة الرجال وأسباب غيابهم أو تغييبيهم؟
في بلد تعصف الحرب في يومياته وتفاصيله، تنهض النساء ليملأن كل الشواغر، حتى التي أقصين عنها تاريخياً ولأسباب عديدة ومقيتة ولا معنى لها أبدا ينهضن لا ليعوضن ثقل الغياب فحسب، بل ليكملن أطراف المعادلة الناقصة بسبب التشريع والعادات والأعراف والقوانين التمييزية. من عاشت وطأة الحرب ونجت واستنهضت قواها الحية وخرجت لتسأل عن الأبناء،عن الرجال. من غطت مصاريف وتكاليف العيش وذاقت الهوان واستشعرت قيم الاستقلالية لن تعود عبدة كما كانت، أو جارية في محراب زوج نهم للزواج مرات ومرات بحجة الرجولة والإنفاق والنسب وسد النقص الحاصل في تعداد الرجال جراء حرب ضروس لم تبق أحداً إلا ونالت من وجوده وقوته وكينونته، امرأة كانت أم رجل، وفي محراب قوانين غير عادلة وتشريعات يصوغها رجل بصلاحيات ماضاوية، وتغيبيية وتمييزية.
إن الإسهاب في عرض كل الواجبات المترتبة على كل الأطراف والخيارات المتاحة لبناء العائلة وتكوين أسرة سليمة معافاة، لا تأكل الحرب أبناءها ولا تتغول على تفاصيل عيشها. لا يردع المشرعين عن رمي تشريعاتهم الهدامة في وجه المجتمع وفي وجوه النساء اللواتي كن وما زلن الحلقة الأضعف فيه. مالم تُرفع يد المشرعين باسم الدين عن التحكم بمصائرهن وحيواتهن، فإن الصدام الحقيقي سيكون بين أبناء العائلة نفسها ذات استحقاق لميراث أو لمسكن أو حتى لرغيف خبز وضمة وقبلة، واسم لأب تعدى المنطق الإنساني واختار العيش مع سرب من الزوجات العاجزات والملزمات بإرضائه خشية الزواج من جديد.
إن قانون أسرة مدني وعصري، وإلغاء المواد المستندة للتشريع والنصوص الدينية والمذهبية التي تؤسس لظروف قاهرة وقهرية تراكم الويلات وتعمّق الشروخ مابين ركني الحياة الأساسيين وهما، امرأة ورجل، وتعديل القوانين هو الحل وهو الجواب الوحيد على دعوة تمييزية وقهرية كالتي دعا إليها القاضي المذكور، إن اختيار تغيير القوانين هو أكثر الحلول سلمية وهو بذرة التفاهم الأساسي على قوانين عادلة للجميع من كافة مكونات المجتمع بكل أطيافه.
خاص “شبكة المرأة السورية”