نبال زيتونة
في مجتمع يخالف قوانين الحياة، فلا يعترف بالطفولة مرحلة عمريّة لا بدّ منها، ومن أبسط حقوق الإنسان أن يعيشها.. ولا يرى في الطفلة إلا أمّ المستقبل، وفي الطفل رجل البيت.. هكذا كانت تقول جارتي لابنها الذي لم يتجاوز الأعوام السبعة..
من هذه الخلفيّة جاءت فداء، الرسّامة السوريّة، ذات التسعة والعشرين عاماً، لتقصّ علينا حكايتها:
نعم كان لي أحلام كبيرة، لكننّي كفّنتها بثوب الزفاف، حين تزوّجت وأنا في سنّ السابعة عشرة، وأنجبت طفلتين في ذلك الوقت المبكّر من عمري.. لم أدرك حجم الخطأ الذي ارتكبته بحقّ نفسي إلا عندما تجاوزت العشرين!.. تحت سمع وبصر الأهل ومباركتهم، دون أن ينصحني أحد بهول الجريمة التي أربكت حياتي فيما بعد، وها أنا أدفع ثمنها الآن مع طفلتين بعمر الورود. بل على العكس كانوا يقولون لي الجملة المعهودة دائماً: لم تعودي صغيرة.. نعم الجميع ساهم بقتل طفولتي، وأحلامي. أنا الطفلة التي لم ترَ من ذلك الضجيج كلّه سوى “العروس، والثوب الأبيض، وحفل الفرح البهيج”..
ولا أحد ينكر دور المجتمع وتأثيره على الأطفال، كما لا ننكر تبنّي الطفل لأفكار مجتمعه وأسرته في غالب الأحيان. ولا ننسى أنّ السلطة السياسيّة والدينيّة تكرّس هذه الأفكار، وفي كثير من الأحيان تشدّد عليها. وما ينجم عن ذلك بالتأكيد هو جريمة مركّبة كما تقول فداء:
أمّا عن تلك الجريمة؛ فليست جريمتي وحدي، بل هي جريمة مركّبة، تولد وتترعرع في مجتمع لامبالٍ بمصائر الأطفال. فرضت عليّ الإقامة في بيت زوجي، وتحت رحمته. كان المتسلّط الذي يعدّني ملك يمينه، فساءت حالتي النفسيّة، وظلمت ابنتيّ بسبب تلك الحالات التي كنت أمرّ بها.
وليس جديداً أن تتحمّل المرأة تبعات ذلك بمفردها، على الصعيدين الشخصيّ والمجتمعيّ. فهي التي خربت بيتها بيدها، ودمّرت أسرتها، إذا ما خرجت على السائد والمألوف، وأرادت أن تكون حرّة، حيث تقول:
وأخيراً، قرّرت الطلاق، وكنت في الحادية والعشرين من عمري، لكنّ الثمن كان باهظاً، وقد تحمّلته بمفردي، حين تحمّلت مسؤوليّة قراري؛ فلا معيل، ولا مدبّر، وطفلتان تعيشان الضياع مع أبٍ لا يكترث لمسؤوليّة الأبوّة، وزوجة أب لامبالية.. وهناك في المحاكم بقيت قصّتي معلّقة لثلاث سنوات متتالية إلى أن حصلت على الطلاق..
لم يرحمني المحيط لأننّي أنثى أولاً، ولأنّني مطلّقة ثانياً، فأنا المذنبة في نظر الجميع، وأنا وحدي من يجب أن تدفع ثمن ذلك.
وحين تشتدّ الأزمات، تستطيع المرأة السوريّة أن تتلقّف بصيص الضوء في آخر النفق، وتحثّ الخطى، يدعمها وعيها لمشكلتها، وإصرارها على المضيّ، وصولاً إلى أحلام نسجتها في غفلة من ذلك الوحش المتربّص بها، الذي يسمّونه الأعراف والتقاليد:
تابعت سيري بعكس الريح؛ الريح التي تقود إلى الهاوية. أردت أن أعيش، أن أجرّب حياة الاستقلال والاعتماد على النفس. عملت “كوافيرة” في البيت. وزادتني الأقاويل إصراراً على المضيّ في طريقي.. تتجاذبني الآن قوّتان؛ مجتمع يشدّني إلى الهاوية، وعلى الطرف الآخر أحلامي في حياة حرّة مستقلة، جذبتني بكلّ ما فيها من غموض وخوف!..
وضعت أحلامي نصب عينيّ، وسرت معتمدة على نفسي.. من غرفة صغيرة، لا شيء فيها سوى الجدران، بدأت أرسم وجعي، وبقلم رصاص وبضعة أوراق مبعثرة، رسمت وجعاً يلخّص أوجاع النساء، لتأتي الثورة، وتزيل الغبش عن عينيّ، وتعطيني زخماً ومعاني لم أعرفها من قبل، وتضخّ في عروقي دماً جديداً، وبدأت رسوماتي تنحاز لوجع الشعب المقهور في ظلّ الثورة اليتيمة، التي تنكّر لها الجميع. إنّها الثورة التي تشبهني، التي تركت وحيدة تتجاذبها الأرياح، كما كنت تماماً.. أمّا رسوماتي القديمة، فقد احترقت جميعها مع بيتنا الذي أحرقه النظام في حيّ الوعر بحمص..
وللنزوح قصّة أخرى، حاولت فداء ألا تخوض في تفاصيلها كثيراً، لترسم لنا إطارها العام:
انتقلت مع أهلي إلى لبنان، حين تكالبت على حمص جرائم النظام والعالم أجمع، ورسمت، لا أنتظر الشهرة، ولا المال، رسمت حرماني على الورق، حرماني من طفولتي في الصغر، وحرماني من بيتي ومدينتي، حرماني من الحريّة في ظلّ نظام القمع والاستبداد.
عملت مع الجمعيّات الإغاثيّة في مخيّمات اللاجئين في لبنان، بأجر زهيد يقيم الأود، أساعد أهلي كبار السنّ حيناً، وأنفق على معيشتي. ورسمت بشكل تطوّعي مع المنظّمات، وخضعت لورشات عمل تدريبيّة في التصوير والكمبيوتر، والدعم النفسي في مسرح الأطفال، وكان لابدّ من دورات الإسعافات الأوّلية في ظروف كالتي نعيشها..
عاد أهلي إلى المناطق المحرّرة في الداخل السوريّ، فوجدت نفسي وحيدة هنا في بيروت، وسط الضجيج والزحام الخانق من المعاناة الإنسانيّة. تبعثرت العائلة الكبيرة، وكلّ فرد منها وجد طريقاً؛ ثلاثة من إخوتي اختاروا طريق الدفاع عن البيت والحقّ والكرامة، فاستشهدوا هناك على ثرى حمص الطاهر..
وأنا اخترتُ بيروت مكرهة؛ فهنا بناتي مع والدهم وزوجة أبيهم، حيث لم أتركهم إلا مكرهة بسبب الأوضاع المعيشيّة الصعبة، وعدم وجود البيت الآمن الذي يمكن أن يلمّ شملي بهم..
اكمل مسيرتي في الرسم، وأصبحت سنة بعد أخرى أشارك في المعارض التي تقام هنا ببعض اللوحات والأعمال، وقد لاقت أعمالي استحساناً على عدّة مستويات..
وعن عملها مع الأطفال والنساء في لبنان توجز فداء سنواتها الخمس بقولها:
في عكّار كانت انطلاقتي وخضعت لدورات تدريبيّة للتعامل مع الأطفال والنساء والفتيات في المدارس والروضات، حيث عملت في عدّة جمعيّات ومنظّمات على تعليم الاكسسوار، واللعب الهادف الموجّه. أمّا في بيروت فقد كانت الفرص أكبر والتجارب أكثر، حيث عملت في تعليم الأطفال بالإضافة إلى الترفيه والمرح والتسلية. وكان لي أسلوبي الخاص في التعامل مع أطفال الحرب بقراءة القصص وتمثيلها، والتمثيل الصامت. ومع اليافعات عملت على تعليمهن الرسم والأشغال اليدويّة، وكيف يستطعن جمع أشياء لا قيمة لها لصنع شيء ذي قيمة. علّمتهن كيف نصنع من ظلام واقعنا بوادر ضوء لنثبت وجودنا في مجتمع يهمّش النساء ضعف تهميشه للرجال. وفي صيدا شاركتهن تجاربي لأتابع بالعمل نفسه مع وجوه جديدة وقصص جديدة وذاكرة ممتلئة..
وأخيراً.. تنسحب قصة فداء على نساء سوريّات كثيرات، كنّ ضحايا في مرحلة من المراحل، ثم انطلقن يتسلّحن بالوعي والإصرار إلى الضفة الأخرى، ضفّة المرأة الفاعلة، القادرة على رسم خطوط حياتها كما أحبتها، وحلمت بها، متجاوزة صفة الضحيّة التي لازمتها زمناً، لتترك بصمة تنضاف إلى إرث المرأة السوريّة المشرّف.
خاص “شبكة المرأة السورية”
One Response
ما أقسى الوجع وما أصعب السباحة في بطن الحوت شكرا فداء شكرا نبال