معتقلة سابقة تروي قصص معتقلات أعدمن في سجون الأسد ([1])
تستمر صور المعتقلين الذين لقوا حتفهم تحت التعذيب بالتدفق يوماً بعد يوم، لكن الحدث الأبرز في الأيام الأخيرة كان نشر صور لسيدة قضت تحت التعذيب، وهياكل عظمية لأطفال لقوا حتفهم أيضا. من يمعن النظر في هذه الصور يلاحظ أن الكثير منهم قُتلوا فوراً بعد اعتقالهم، ويتبيّن ذلك من وجوههم أو أجسادهم التي يبدو أنها حافظت بعض الشيء على أشكالها، دون أن يطرأ عليها التغيرات التي اعتدنا مشاهدتها على أجساد المعتقلين، في حين أن صور الأطفال كان غالباً يظهر عليها نحول شديد في الجسم نتيجة الجوع، أما السيدة التي كانت ملقاة جثة هامدة، فلها حكاية أخرى.
لم تتوان فروع التحقيق التابعة لنظام بشار الأسد عن ممارسة وحشيتها بحق النساء، كما مارستها بحق الرجال، وهذا ما روته السيدة هنادي.
هنادي معتقلة سابقة، اعتقلها النظام في أواخر 2012، عندما اختفت فجأة من حيها في دمشق، إذ تم اقتيادها من أحد الحواجز هناك، حتى ظنّ أهلها أن هنادي اختفت أو ماتت. لكنها خرجت منذ ثلاثة شهور، لتكون شاهدة على المجازر التي تتم بالخفاء في معتقلات النظام السوري.
تقول هنادي: “اعتقلت في أواخر 2012، وبعد خروجي من المعتقل، سافرت خلسة منذ ثلاثة شهور خارج سوريا”.
وتحكي هنادي قصة اعتقالها، وما رأته وعانته داخل سجون النظام، فتقول: “بعدما تحولتُ إلى المحاكمة في عدرا (قرب دمشق)، تم التحقيق معي أكثر من 19 مرة بتهم متنوعة، كان أبرزها تمويل الإرهاب، والتواصل مع قنوات مغرضة عميلة”. وتضيف: “هنا بدأت أذوق أشد أنواع التعذيب من الضرب إلى الإهانة، إلى الصعق بالكهرباء، إلى التحرش اللفظي”.
وتقول هنادي: “اعتقلت لمدة 49 يوماً في فرع المنطقة 227، وبعد التحقيق معي تم نقلي إلى الفرع 291، لأني كنت مطلوبة له أيضاً، لكن، لا أعرف لحسن أم لسوء حظي، لم يكن هناك منفردات، فتم اقتيادي إلى فرع الأمن العسكري 215 ذي الصيت الذائع في التعذيب والتهويل، ومن هنا بدأت الحكاية تتشعب أكثر”.
وتروي هنادي قائلة: “دخلت إلى الفرع وقام بتفتيشي رجل ستيني كانت المعتقلات قد أطلقن عليه لقب “شرشبيل”، لما له من وحشية في التعامل، حيث كان يقوم بخلع حجاب الفتيات والإمعان في إذلالهن أثناء التفتيش، ثم يتناوب مع الضابط الذي أمامه بلفظ العبارات البذيئة والسوقية ليقولها لنا. ومع أني كنت قد انتقلت من فرع إلى فرع إلا أن التفتيش لم يُقصد منه معرفة ما معي بمقدار ما قصد منه إذلالي، وهنا تكمن الحرقة، يفتشك رجل خرف أمامك، يقذفك بأشد الشتائم، وأنتِ صامتة لا تملكين إلا الصراخ داخلك دون أن يسمعك أحد”.
وتتابع هنادي: “بعد التفتيش دخلت إلى غرفة مكتظة بالفتيات، بعضهن صغار، وبعضهن قد تجاوزن الستين، تعرّفت على الكثير من الفتيات، كنت غارقة بدموعي، لكنهن أحببن أن يخففن عني فاستقبلنني قائلات: فتشك عمو شرشبيل؟”.
وتوضح هنادي أن الفتيات كن من كل عموم سوريا، وكان بينهن معتقلات مشهورات، مثل عالمة الفيزياء فاتن رجب، ودعاء محمد، ومعتقلة من الميدان اسمها “حفيظة” والكثيرات.
وتضيف: “كنا نتألم ونتوجع يومياً، ولم يكن لدينا إلا ظرف “سيتامول” عليه أن يدور على عشرين فتاة في المهجع! حتى لو كانت الواحدة منهن تموت لا يمكنها أن تخفف ألمها إلا بظرف مسكن “سيتامول”، في حين كانت فتيات المحافظات السورية كدير الزور ودرعا وحمص وغيرهم يتلقين من التعذيب ما لا يحتمله عقل كائن بشري”.
وتتذكر هنادي أنه “بعد أيام قليلة دخلت علينا فتاة بهيئة مزرية، يظهر عليها آثار الضرب والتعذيب، ما إن رأينا ذلك حتى بادرنا لنرسم ضحكة على وجهها ويعود لها نفس السؤال الذي وجه إليّ: استقبلك شرشبيل؟”.
وتقول هنادي: “كانت هذه الفتاة رحاب العلاوي، طالبة هندسة مدنية، اعتقلت وجيء بها إلينا.. فتاة لها من اسمها نصيب كبير، عليها من رحابة الصدر ما يكفي لأن تحكي كل معتقلة منا ألمها لها، ولها من الأمل ما يحكي عن وطن، ذات خلق رفيع وحضور جذاب، تحب الخير والمساعدة، كانت تجلس مع فاتن رجب في زاوية في السجن وتخططان كيف ستبنيان البلد، هنا سنقيم المشروع الفلاني، وهناك سنعمل على تأسيس مدرسة، كانت أحلامهن أكبر من هذا السجن الضيق الذي وضع فيه الشعب والذي يدعى وطنا”.
وتضيف هنادي: “عندما دخلت رحاب السجن أول مرة وهي باكية وتبدو عليها علامات الغضب، سألناها: ما اسمك؟ أجابتنا: أنا رحاب علاوي، من الموحسن بدير الزور، وطالبة هندسة كمان. ضحكنا وقتها على طريقة كلامها العفوية، ثم قلنا لها: بتعرفي إنتي وين هلأ؟، فقالت: إي أنا بفرع أمني مو بحديقة بتخيل”.
لقد داهمت قوات من الحرس الجمهوري المنزل الذي تقيم فيه رحاب في دمشق أثناء فترة امتحاناتها، وضربتها بشدة أمام أمها وأختها، ثم اقتيدت إلى الفرع 219، وهناك تم التحقيق معها لمدة 13 يوما، ثم نقلت إلى فرع الأمن العسكري في كفرسوسة (215)، بتهمة مساعدة جماعات مسلحة، وهنا بدأت التهديدات بالإعدام تطال رحاب إذا لم تعترف بأن لها علاقة مع مسلحين إرهابيين، وكان المشرف على التحقيق ضابط من الحرس الجمهوري، في حين أن من لفّق لها كل هذه التهم أناس كان النظام قد دسّهم في الثورة لينقلوا تحركات الناشطين، فتظاهروا في العلن بأنهم مع الثورة، لكنهم كانوا ينقلون كل حركة للثوار، حتى جيء برحاب في يوم من الأيام ومَثَلَت أمام الضابط، وكان من بين هؤلاء الناس فتاة لفّقت العديد من التهم لرحاب.
وُوجّهت إلى رحاب تهمة قتل شبيح تابع للحرس الجمهوري، ولُفّقت لها هذه التهمة بالتعاون مع المخبرين الذين جنّدهم النظام، وكان أحدهم حاضراً أثناء التحقيق، بدأ المحقق يضرب رحاب بعنف قائلاً: “شو رأيك يا رحاب أقتلك هلأ، وأرميكي مكان ما انرمى الشبيح؟”. أجابت رحاب: “لا إله إلا الله محمد رسول الله، سلمت نفسي لله”.
أغضبت هذه الكلمات المحقق كثيراً، فضربها على خدها بعنف حتى كاد رأسها ينفصل عن جسدها، وصار يهددها بأنه سيقتل أمها وأختها إذا لم تعترف، إلا أن رحاب انهارت وسقطت عند قدميه تقول: “أبوس صرمايتك يا سيدي لا تقرب على أمي وأختي، بحكي كلشي”.
وهنا راحت رحاب تعترف بكل ما ليس لها علاقة به، فدُوِنَتْ كل تلك الأقوال، ولُفِقَتْ التهمة إلى رحاب: “تعامل مع مسلحين من الإرهابيين وقتل شبيح”.
عادت رحاب إلى زنزانتها وحكت كل ما حصل معها، كان مصير الإعدام شنقاً ينتظر رحاب، حيث نُقلت من زنزانتنا بتاريخ 15/2/2013 “عرفنا بعدها أنها أُعدمت”، كما تقول هنادي.
وتؤكد هنادي أنها تعرِف الكثير من المعتقلات اللواتي تمت تصفيتهن، ومنهن أمل الصالح من إدلب، حيث نُسبت إليها تهمة حمل السلاح والقيام بالتفجيرات، ومعتقلة من حي الميدان اسمها نظيرة، نُسبت إليها تهمة خطف ضابط في فرع فلسطين، وقد حُكم أيضا على ابنتها تغريد 12 سنة. وثالثتهما فاتن رجب، “كلهن لًفق النظام لهن هذه التهم ليتخلص منهن”، وفق ما ترويه هنادي.
هنادي تتوقع أن هناك “قيصرا” ثانيأً سيخرج “ويفضح هذا النظام وسنرى مزيداً من الصور لشهداء قضوا تحت التعذيب بينهم الكثير من النساء”. وقيصر هو الاسم الرمزي لضابط انشق عن النظام السوري وكشف آلاف الصور لمعتقلين قُتلوا تحت التعذيب.
وكانت عالمة الفيزياء فاتن رجب، الحاصلة على شهادة الماجستير في علوم الذرة قد نُقلت من سجن عدرا قبل أسابيع إلى جهة مجهولة. وذُكر أن النظام السوري أخضعها لتعذيب مختلف، إذ يعتقد أنه جرى حقنها بمادة كيماوية مجهولة التركيب تؤدي إلى تشنجات وضعف في الذاكرة، فيما نسبت مصادر حقوقية إلى مدير المخابرات الجوية اللواء جميل حسن تهديده لها بأنه سيجعلها تعاني من الخرف خلال عامين إذا لم تتعاون معهم.
في سوريا هناك آلاف المعتقلات من النساء، يقبعن، إلى جانب عشرات الآلاف من المعتقلين، في سجون النظام، وتمارس عليهن كل وسائل الضغط والترهيب، لكن كيف لجدران السجن أن تسمع صرخاتهن؟ وكيف للأجساد النحيلة الممزقة أن تكون فوق قوة هذا السوط الموجه عليهن؟
السجن حياة موازية ([2])
في المهجع تقلّص حلمنا إلى مجرد فراش ورغيف وشيء ما يقينا صقيع الشتاء الذي لا يحتمل. باختصار كان الهمّ الوحيد هو التأقلم والبقاء، وعوننا في ذلك بعض من ذكرياتنا خارج أسوار المكان.
في أيامنا الأولى باب المهجع مغلق بشكل دائم، ممنوع علينا الزيارات، الاتصالات والخروج إلى باحة السجن. كل شيء هنا ممنوع، حتى بعض المواد الغذائية التي تُباع في الندوة. ولكي نستمر بالحياة كنا نتأقلم تارة ونتمرد أخرى ونحتال أحيانا على هذه الظروف الصعبة.
صورٌ من المهجع:
سيّدة وأمٌّ لخمسة أطفال من درعا، تهمتها التواصل مع الجيش الحر، وجميعهم أقرباؤها وجيرانها وأبناء قريتها، ضُربت وأهينت في أكثر من فرع أمنيّ إلى أن وصلت إلى هنا.
سيدة أخرى في العشرين من عمرها اعتقلت على حاجز لأن زوجها معتقل بتهمة قائد كتيبة.
سيّدةٌ ثالثة من درعا تهمتها استدراج شباب من الجيش الحرّ والجيش النظامي بقصد الخطف والتصفية.
صبيتان جامعيتان تهمتهما الإعجاب بأحد قادة الحرّ المشهورين وصوره على جواليهما.
صبيّة حمصيّة جميلة، تهمتها المساعدة والتبرع بالدم للجرحى.
سيدة وأم لأربعة شباب اعتقلوا معها، كانت مقيمة في مدرسة للنازحين في حلب تحت حماية اللجان الشعبية آنذاك، سرقوا حقيبتها وفيها كل ما تبقى لها من ممتلكات، قدمت شكوى لقائدهم فاعتقلها مع أبنائها الأربعة بتهمة الإرهاب.
سيدة تهمتها تهريب السلاح وتمويل الحر، وأخرى تهريب منشقين، وغيرها الطبخ للجيش الحر، وأخرى دعم معنوي، وأخرى استدراج واختطاف.
تهم واعتقالات بالمجان والكلّ تحت بند الإرهاب:
سيدة مسنّة في العقد الخامس من العمر، جريمتها صنع كمامات للجيش الحر ولا دليل ملموس على تهمتها. هذا هو المضحك المبكي .. كلهن بانتظار عرضهن على القضاء ..
أخيراً المحكمة
مرّ شهر كامل حين استُدعيت للقضاء أول مرّة أمام محكمة الإرهاب، وكان قد وصل عددنا إلى أربعين امرأة في مهجع واحد. بعد مدّة سُمح لنا بالخروج إلى باحة السجن. تحت البناء هناك قبو أيضاً وسجناء، لكنهم أطفال وأحداث دون الثامنة عشرة معظمهم من ضحايا هذه الحرب..
في السابعة من صباح أحد الأيام استيقظت على صوت الملازم يناديني باسمي: “خمس دقائق جهزي حالك عندك محكمة خمس دقائق وإلا تركناك” لا أدري كيف جهّزت نفسي ووقفت أمام الباب أنتظر! فُتح الباب وجمعونا في الممرّ، السياسيّات مع التهم الجنائيّة، ثم أُعطونا التعليمات وأُجبرنا على ارتداء ثوب الجنائيّات. كأنّني في غيبوبة، لم أستفق إلا بعد أن لفح وجهي الهواء البارد من نوافذ سيّارة السجن المهشّمة بسبب إطلاق الرصاص عليها من بعض الفصائل.
ها أنا أعدّ الدقائق … لقد أضحى الحلم قريباً، ما هي إلا ساعات وينتهي هذا الكابوس الرهيب.
وصلنا، هناك عند البوابة يتجمع الأهالي بحيث لا يُسمح لهم بالدخول. فُتحت البوابات ودخلت الحافلة، ترجلنا بالسلاسل والقيود حتى وصلنا إلى قبو البناء حيث السجن الذي سنودع فيه ريثما يأتي دورنا. تم تفتيشنا بدقة. لعلّ المحكمة غير الموقّرة تخاف الإرهابيّات أمثالنا.
مثلتُ أمام المحكمة أخيراً. اقتادوني عبر ممرّ طويل يغصّ بالشرطة وعناصر الأمن والمعتقلين. تعرّف المحامي إليّ، وحاول بالإيماء إعطائي بعض التعليمات، فهمت ما أراد. كانت القاعة عبارة عن مكتب فخم مليءٍ بكروزات الدخان والهدايا التي مازالت تُقدّم للقاضي ويتناولها بصدر رحب، ثم يضعها في أدراج مكتبه أو تحته. سألني عن اسمي وتلا علي بعض التهم التي أنكرتها، ثم قال انصرفي. أعادوني إلى سجن المحكمة. مرّ وقت قصير ثم اقتادونا الى الحافلة التي أقلتنا. صمت يُطبقُ على الجميع فسألت الملازم المرافق لنا ما الأخبار؟ فقال: تم توقيفك على ذمة المحاكمة، هنا توقف كلّ شيء. صُعقت، تجمد الدمع في عيوني، تحجرت، صراخي لا صوت له. الرأس مرفوع وما زلت متماسكة لأبعد الحدود. شيء ما بدأ يتخلخل من الداخل. سيل من الحمم تنجرف من أعلى هامتي لأخمص قدمي، لا يجد منفذاً فيعاود سيره، ولكنهم كانوا يقرؤون صراخي والشتائم في تعابير وجهي, لا أريد شفقة من أحد، أنا من اختارت الطريق، ولن أنهار أمام عهرهم سأنتظر. عندما ينكسر الماء أنكسر أنا. هذا ما أحسست به حينها.
سجن خمس نجوم
وضعوني في جناح التوقيف، هنا بدأت الترتيبات. سرير جديد وخزانة للثياب وأشيائي الخاصة، تلفاز، براد… المكان هنا خمس نجوم. حدسي يسرّ لي أنني سأخرج من هنا.
نستيقظ في الصباح نجتمع على القهوة والمتة والتنظيف والغسيل وتبادل الأحاديث إلى أن يحين موعد الغداء الموحد، فاصولياء ورز، أو مجدرة وأحياناً بطاطا مع المرق وبرغل. كنا نكتشف أحياناً بقايا فتافيت من عظام الدجاج في الطعام لندرك أنه كان بالفعل يوجد شيء منه، ولكن حتى يصل إلينا يتبخر أو يطير بقدرتهم. التلفاز كان أهم وسيلة تواصل مع الخارج مع أنهم لا يسمحون لنا إلا بمشاهدة إعلامهم الرسمي وبعض القنوات الموالية وقنوات الأغاني الهابطة. لكن لا مشكلة، أسمع وأستنتج وأحلل لأعرف القليل مما يدور في أروقة السياسة داخلياً وخارجياً. أما المقدس لدي فهو السابعة مساء عندما أعود لروتين ما قبل الاعتقال، فعلى إحدى قنواتهم فقرة للصوت الملائكي فيروز حيث يأخذني إلى خارج هذه الأسوار أحلق بعيداً عنهم.
أمضيت شهرين ونيف بالتوقيف، مثلت خلالهم أدواراً كثيرة، دور أمٍّ حنون ساعة، وأخت تارة، ورفيقة تارة أخرى، وطفلة وقاضية لفضّ نزاع أو شجار بين المعتقلات.
أسلي نفسي أحياناً بأشغال الصوف والهدايا التي سأرسلها لأحبتي وأهلي في موعد الزيارة يومي الأحد والثلاثاء صباحاً، الجميع يحضّر نفسه وكأننا مدعوّات لاحتفال.
يُنادى على من لديهن زيارات، نصف ساعة كانت بمثابة دنيا بكلّ ما فيها، وفي الثواني الأخيرة يكاد القلب يتوقف. أتمسك بالشبك الحديدي أمامي كطفلة تُنتزع عنوة من حضن أمها للمجهول، أحبس دموعي وأنفاسي وأصطنع ابتسامة عريضة أمام زائري والشرطة وكاميراتهم إلى أن تحين لحظة الوداع، عندها تنطفئ كل مصابيح الحياة أمامي وأعود إلى مهجعي أجترّ الذكريات لدقائق أعيدها وأفنّدها، ومقلتاي تتوهجان كنجم يأفل. وفي النهاية أستجمع بعضي وأعود للانخراط بالروتين, نتبادل الأخبار ومن لم تحظَ بلقاء نشغلها بأحاديثنا ونسليها. وبقدر ما كانت تعنينا هذه الدقائق من الزيارة بقدر ما كانت أحياناً تسبب لنا الألم ولزائرينا أيضاً.
بالون حراري
أذكر في إحدى الزيارات حضرت زوجة أخي وابنتها طفلة في السابعة من عمرها، أصرت أن تأتي وتعبر هذا الطريق المليء بالموت والخطر لتراني وتتأكد أنني بخير. حتى هذه الطفلة كانت تعي معنى الاعتقال، بكت كثيراً عندما رأتني من وراء الشبك المزدوج، لم تستطع أن تلمسني أو تعانقني، ولأول مرة أذهب للملازم المناوب لأطلب منه أن يسمح لها بالدخول لثوان. شاهدت وسمعت بكاءها، كانت تراقبنا وكأنها تنتظر مني هذا الطلب. لكنه لم يشفع لهذه الطفلة دموعها ولا بكاؤها، رفض وبوقاحة. لم أكرر طلبي وعدت أدراجي للطفلة محاولة توضيح المشهد وتلطيفه حتى هدأت قليلاً.
حادثة أخرى، أثناء الزيارة بدأت تعلو أصوات الاشتباكات والقذائف بين جيش النظام والجيش الحر بمحيط السجن، حيث يبعد الحرّ عن سجن النساء مسافة ثلاثمئة متر تقريباً، وبدأ تحليق طائرات النظام فوق المنطقة يقصف بصواريخه ويخترق جدار الصوت على علو منخفض. كان الطرف الآخر يردّ أيضا بقذائف ومضادات طيران، وكل هذه المعارك حولنا وفوق رؤوسنا، إلى أن أسقطت إحدى الطائرات بالوناً حراريّاً في الباحة الخلفية للسجن، خلف مهجعنا تماماً، فلحقت المضادات هذه البالونات وسقطت في الباحة. دوّى صوت الانفجار عالياً، كلّ من كان في المهجع أصبح خارجه، الخوف والهلع سيّد الموقف، ارتفع الصراخ افتحوا الأبواب، لكن ما من مجيب. تطاير زجاج النوافذ في كل مكان، أدخل بعض الزائرين المصابين بالشظايا الى داخل البناء، لا أعلم هل هو الخوف على حياتهم، أم لجعلهم دروعاً بشريّة كعادة هذا النظام.
بعد مدة نشأت علاقات وديّة بين المعتقلات والعناصر، نتبادل الأحاديث وبعض الطعام الذي نطهو من خلف الأبواب، وخلسة من كاميراتهم المزروعة في كل مكان. لم يرونا إرهابيات كما صورنا النظام، ولكن لاحول لهم ولا قوة. حتى نحن بتنا نتعاطف مع بعضهم ونتمنى لهم السلامة من أي مكروه، تغيرت معاملتهم قليلاً وأصبحوا متعاونين للحدّ الذي لا يصل لدرجة إيذائنا ..
دعم نفسي
في السجن ممرّض واحد هو الطبيب والشافي والمداوي، هو كل شيء. يأتي صباحاً نتجاذب أطراف الحديث من خلف الباب الحديدي، ويعطينا الدواء، إلا إذا استدعت بعض الحالات الذهاب إلى المستشفى، فالأمر يتطلب معاملة طويلة وموافقات أمنية وروتيناً بطيئاً. أذكر أنّ سيّدة أصيبت بأزمة قلبية ليلاً ولم يتمّ إسعافها خوفاً من القنص أو الاختطاف، توفيت السيّدة أو قتلوها، فصيدليّة السجن فارغة لا دواء فيها ولا حتى ضماد، ولا أي شكل من أشكال الإسعافات الأولية لأيٍّ منّا، حتى لعناصرهم. “الديكلوفيناك” تُباع داخل السجن بألفي ليرة سورية، نضطر لشرائها في حالات الإسعاف.
بعد تزايد الأعداد في جناح الإيداع طالبت مجموعة من السيدات المعتقلات بإنشاء صف لمحو الأمية وللدعم النفسي والتوعية. وافقت إدارة السجن هذه المرة وفتح أحد المهاجع المغلقة لهذا الغرض لفترة شهر، حيث سُمح لنا باستعارة الكتب من مكتبة السجن، أمّا مذكراتنا التي نكتبها ويومياتنا فكانت تُصادر عند خروجنا.
سمعنا بوجود هاتف حيث يسمح للسجينات الجنائيات بالتحدث متى أردن، طالبنا بأن يُسمح لنا باستخدامه، وتمّت الموافقة وسمح لنا كل أسبوع ساعة واحدة لكامل الجناح بمرافقة شرطيين، وإذا عوقبنا لأيّ سبب نحرم منه نحن الموقوفات، أما الإيداع فلم يسمح لهن أبداً استخدام الهاتف.
في المهجع تشاركنا كل شيء أحلامنا، أوجاعنا، طعامنا، آمالنا، صور أطفالنا، مضى الوقت والأمل لا يفارقني، إلى أن أخلي سبيلي بصفقة تبادل بين النظام والجيش الحرّ. حزمت أغراضي، لكن الذي فاجئني أنّني كنت مطلوبة لفرع أمنيّ آخر، أخذوني معصوبة العينين، وزجوا بي في معتقلٍ آخر، حيث وجدت كلّ المعتقلات اللواتي كنّ معي بسجن عدرا.
الموقع كفر سوسة المربع الأمني – أمن الدولة فرع 285. مكان جديد وأحداث جديدة. ماذا ينتظرني هنا؟
في غياهب العدم… هنا هن: الحرية ليست مطلبي ([3])
“تكلمي وإلا نشرت صورك على صفحتك الخاصة”.
بعد الضرب و الإهانات الشتّى و جميع الاعترافات على نفسي مما أذكره ولا أذكره، جاء تهديد المحقق لي بنشر صوري الخاصة مقيداً لخصوبة الخيال باختلاق اعتراف جديد.
كنتُ قد هيأت نفسي منذ لحظة الاعتقال لاحتمالات التعذيب لكثرة ما شهدناه في سني الثورة خاصة بعد اكتشافهم ملفاتٍ في حاسوبي الشخصي تتعلق بتوثيق جرائمهم، لكن اهتمامهم البالغ بصوري الخاصة أكثر من الأدلة المتوافرة لديهم كان مفاجأة صاعقة! أنوثتي تُغتصب الآن بينما يستعرض المحقق صوري ويفترسها بشهوانية ذكورية مُقززة.
“الجردون” هكذا يُلقّب ذاك المحقق في فرع الخطيب الذي اشتُهر بتحرشه بالفتيات أثناء التحقيق، سواء بالتحرش اللفظي أو لمس الجسد أحياناً لأن فروع أمن الدولة تُعتبر “الأنظف” إن صح التعبير من حيث التعامل مع المعتقلات. الأمر ذاته حدث في الفرع الأسبق “فرع الأربعين” حين تحرّش بي جسدياً سجان المنفردة ولم تأتِ شكواي للعميد في ذلك الفرع بأي نتيجة.
لم يلقِ “الجردون” بالاً لما أتلوه من اعترافاتٍ كاذبة، حتى أنه لم يفرغ اعترافاتي على الورق إلا في التحقيق العاشر والأخير لدرجة أنه نسي حتى أن يأخذ بصمتي على تلك الاعترافات وقد تدارك المحققون الأمر في الفرع “285” حيث أُخذت بصمتي هناك قبل أن يُعاد التحقيق معي للمرة الثالثة. كان كل ما يشغله استعراض الصور ومن ثم تكرار العبارة التي ما فتأت تُعاد على مسامعي طوال رحلتي في الأفرع “لستم سوى ثورة عر*** و شر****!”.
في ساعات الاعتقال الأولى سمعت هذه العبارة أول مرة، كل ما سعى ورائه المحقق حينها أن يرغمني على الاعتراف بأنني على علاقة غير شرعية بأولئك الذين أتعامل معهم من شباب الغوطة الشرقية، ويعيد تلك الجملة مراراً وتكراراً امام كل سؤال أعجز حتى عن كتابته لشدة امتهانه وبذائته ليُثبت اتهامه المذكور بأي طريقة كانت، ومع إنكاري المستمر لذلك امتد التحقيق الأول ستة عشرة ساعة متواصلة ولم ينتهِ إلا حين كدت أقع مغشيّاً عليّ من شدة التعب.
ارتفعت وتيرة الامتهان والبذاءة مع كل رحلة في باقي الفروع الأمنية ،ومع اصراري على نفي تهمة العلاقة غير الشرعية، ما كان من المحقق في آخر فرع زرته إلا أن قال لي: إما أن تؤكدي ما كتب أمامي في التحقيقين الأولين أو أعيدك للفرع الأول ليعاد التحقيق بالكامل! .. أؤكد ما شئت لكن أرجوك لا تعدني إلى هناك ! حسم جوابي هذا التحقيق لأحال بعدها لإيداع كفرسوسة ومن ثم لإيداع ركن الدين ثم إلى السجن المركزي في نهاية المطاف.
لم تكن موضوعات التحقيق الذي خضعت له في الفروع الأمنية حاضرة في ملفي لدى استجوابي أمام قضاء محكمة الإرهاب، بل استندت التهم على أدلة همّشها المحققون سابقاً لتوجَّه لي تهمتا الترويج الإعلامي وتمويل الثورة دون علمٍ مُسبق مني بذلك قبل وقوفي أمام القضاء لأدرك حينها أن التهم كانت مقررة منذ بداية الاعتقال لحظة عثورهم على الأدلة وأن كل ما حدث في التحقيق من انتهاك نفسي وجسدي لم يكن بقصد انتزاع الاعتراف على الإطلاق.
أُحضرت نغم، تلك الفتاة العشرينية ذات الوجه الجميل، إلى فرع الخطيب وهي فاقدة العقل، لا ندري متى حدث لها ذلك، ولم نتمكن من تبيّن صحة أقوالها حينما أخبرتنا عن تعذيبها واغتصابها، بيد أن علامات إطفاء السجائر على صدرها تُنبئ بالكثير. كانت نغم فتاة مثقفة تتكلم الإنكليزية بطلاقة فأدركت أنها حديثة عهد بالجنون، ولم يشفع لها جنونها أمام وحشية الضرب وعذاب المنفردة لأنها كانت تصرخ كثيراً وتشتم عناصر الأمن.
فاطمة فتاة في التاسعة عشر من العمر، اغتصبها اثنان من عناصر اللجان الشعبية، وحين هددت بفضحهم اعتقلوها بتهمة الإرهاب.
“يجب أن تشكري الله كثيراً أنكِ هنا” سمعتُ هذه العبارة كثيراً من بعض عناصر الأمن وبعض المعتقلات الموجودات في فروع أمن الدولة، في وقت لاحق وبعدما شهدته وسمعته من أهوال، أدركت المعنى الحقيقي لتلك العبارة “يجب أن تشكري الله كثيراً أنك في أفرع تكتفي بالتحرش ولا تصل للاغتصاب الكامل”.
مفهوم الاغتصاب العام، فقليلاتٌ هنّ الفتيات اللاتي استطعن الافصاح عما حدث لهنّ، لذلك ليس من الممكن توثيق وحصر حالات الاغتصاب في الفروع الأمنية، لكن بمفهوم الاغتصاب الحقيقي لا أعتقد أننا بحاجة للتوثيق، فجميعنا تعرضنَ بطريقة أو بأخرى للاغتصاب من مخصيين نفسياً هاجسهم هو هذا الأمر لذاته لا بغية انتزاع اعتراف ما، فحين ينعتنا الجلاّد بالـ”شر**** والعا***”، وحين يلمس أجسادنا أثناء التحقيق، أو يخلع عنا ملابسنا بحجة التفتيش.. كل ذلك اغتصاب, فانتهاك الشرف والكرامة لا يقل سوءاً عن انتهاك الجسد.
عام ونصف العام، هي الفاصل الزمني بين ما عشته وبين ما تجود به الذاكرة عن تفاصيل المعتقل، يُقيم في هذا الزمن الممتد ألم نازف أبكم الصرخات كأصوات من بقين في غياهب العدم حين تنسيهنّ عذابات المعتقل مطالبَ الحرية، ليكون مطلبهن الأول: الحياة؛ إن صحّ أن يكون في ذاك الجحيم… حياة.
سمحوا لي برؤية ابني لمدة ثلاث دقائق قبل إعدامه ميدانياً في سجن صيدنايا…[4]
عند حدود الساعة الثامنة مساءً داهم رجال الأمن بيتي وتم اعتقال ولدايّ فارس ومحمد، في حي برزة بدمشق، حتى الآن ما زلت أذكر ذاك المشهد، حيث قيد رجال الأمن يديهما إلى الخلف وساقوهما إلى السيارة، بينما التف الجيران حولي دون أن يحاول أحد منهم التدخل.
وقفت مدهوشة، شعرت بقبضة الأسى تحكم فكيها على صدري وتعتصره، ترجل فارس وأخيه عن فرسهما، لتبدأ رحلة صراعهما مع الجوع والذل والتعذيب في سجون الأسد. ولتبدأ روحي في رحلة شقائها هي الأخرى.
تم اعتقالهما في بادئ الأمر من قبل “فرع الجبة” في حي ركن الدين، أو على الأقل هكذا قالوا لي، استعنت أنا وزوجي بالأهل والأصدقاء لكي نتمكن من زيارة ولدايّ، وأثناء ذلك التقيت بأحد عناصر الأمن، دفعت له مبلغ من المال كي أتمكن من زيارة محمد فقط، بينما تم تحويل فارس لـ “فرع السياسية ” في حي المزة.
عندما رأيت محمد لم أصدق ما آل إليه مظهره، فقد بدى نحيفاً ضئيلاً، وآثار التعذيب على معصميه، مظهره كسر ظهري، كيف لا وهم يقومون بتعذيب أولادي.. !!
حاول محمد أن يتمسك أمامي بحبال كبريائه، كي لا يقع في منحرف الذل وهو بين جدران المعتقل، تكابد على نفسه، محاولاً تهدأت روحي، وإقناعي أنه بات بمنأى عن الخطر بعد أن نكر تهم القتل الموجهة إليه، ولكنه أثار حفيظتي حول فارس، وأخبرني أنه تعرض لجميع أنواع التعذيب بعدما وجهوا له تهمة قتل خمسة عشر عنصراً من عناصر النظام، فيما بعد تم ترحيله إلى مكان آخر، لتكون هذه آخر مرة يرى محمد أخيه فارس.
اعتقل فارس وهو طالب في كلية الإعلام، شغفه في العمل الصحفي، قاده للعمل مع عدد من القنوات الإعلامية لكي ينقل لهم حقيقة ممارسات النظام السوري بحق الشعب السوري. كما عمل مع بعض تنسيقيات الثورة، بالإضافة على أنه ساعد جندي منشق في الهرب خارج سوريا
استغربت من هول التهم التي وُجهت لفارس، وهو الذي لم يتجرأ يوماً على أذية مشاعر أحد، وعرف بمواقفه السلمية منذ لحظة اندلاع الثورة، فكيف لهم أن يتهموه أنه ارتكب جرائم قتل.. !!
استطاع زوجي بمساعدة أحد أصدقائه من الاطلاع على ملف فارس، وعرفنا أنه تم تحويله لفرع السياسية في حي المزة، ليتم فيما بعد ترحيله إلى سجن صيدنايا وينفذ حكم إعدامه ميدانياً بعد ثبوت تهم القتل الموجهة ضده.
هرعت لطرق أبواب المسؤولين وكل شخص يخطر في بالي، علي أتمكن من زيارة فارس في فرع السياسية قبل تحويله لسجن صيدنايا. دفعت مبلغ من المال لأحد عناصر الأمن لكي أتمكن من رؤية فارس. يومها بدا نحيفاً، وآثار التعذيب تركت شقوقاً واضحة على جسده، لم يسمحوا لي بالتفرد بولدي، بل كان معنا أحد عناصر الأمن، كمستمع أو ربما كمراقب.
لا أعلم حينذاك إن كان أحد ما أخبره أنه سينقل بعد فترة إلى سجن صيدنايا، فقد أفصح لي عن أمله بالحرية والعودة لمقاعد الدراسة في كلية الإعلام، ومن دون وعي لمت فارس على اعترفاته بتهم القتل الموجهة ضده، فاستخف بالأمر وأكد لي أنه سينكر جميع التهم عندما يُعرض على قاضي التحقيق !!
لحظتها لم أتمالك أعصابي وقلت له: “عن أي قاضي تتحدث ألا تعلم أنه سيتم تحويلك إلى سجن صيدنايا…؟”
انهار فارس ورأيت دموع القهر تنسحب خلسة على خده وبتباطؤ شديد حتى لا ألحظها، فجأة وجدت نفسي أصرخ في وجه العناصر على ما فعلوه بولدي، فطردوني ووجهوا لي شتائم تنم عن تشفيهم بي وبفارس.
توالت علي الأيام وشعرت كأنها برزخ من دهر، فقد بت أم لولدين أحدهما محكوم بالإعدام والآخر معتقل ولا أعلم متى سيتم الافراج عنه.
في تاريخ 25/4/2014 أخبرني “الواسطة” أنه تم تحويل فارس لسجن صيدنايا عندها طرقت أبواب المسؤولين، ورجيت الكبير منهم قبل الصغير علي أستطيع تخفيف القرار القاضي بإعدام فارس، ولكن جميع محاولاتي فشلت.
فارقني النوم، وأصبحت مجرد خيال لأم تهذي كلما فكرت للحظة أنه سيتم إعدام ابنها، وهو البريء من جميع التهم، أسمع صوته في داخلي يخبرنه أنه يتم تعذيبه في المعتقل، وكلما حاولت تقبل فكرة أن ابني فارس سيختفي عن هذ الوجود، أعود لنقطة الصفر وللدوامة نفسها.
أردت توديعه وفي سبيل هذا استدنت مبلغ من المال ودفعته لأحد المسؤولين مقابل السماح لي بزيارة فارس في سجن صيدنايا، وعندها أعطوني ثلاث دقائق فقط لرؤية فارس…
من خلق السياج المعدني أطل فارس، وهو شبه عاري، حافي القدمين، وجهه أصفر، وشاحب، نحيف لدرجة بدت نتوء عظامه من تحت الجلد.
لم يتكلم كثيراً بل لازم الصمت وكأنه يودعني للمرة الأخيرة، وسألني عن أحوال أخوه محمد الذي تم تحويله إلى فرع 223 وعن أخته، ووالده، ووصاني بالاعتناء بنفسي وبأخته، ورجاني ألا أحزن عليه وأن أرضخ لإرادة القدر.
أيقنت أنها ستكون المرة الأخيرة التي أرى بها وجه ابني، فبعد ذلك حاولت مرات عدة أن أزوره فنصحني “الواسطة” بعدم رؤيته، فمن عادات السجانين في صيدنايا أن يقوموا بتعذيب المعتقل بعد كل زيارة له من قبل أحد أقربائه.
وجدت نفسي بين نارين، نار تحرقني وتدفعني لرؤية ابني مرة أخرى، ونار تحذرني ألا أعرض ابني للتعذيب بسببي. اتخذت القرار بعدم زيارته، وتحملت ثقل عدم رؤيته على أن يقوموا سجانوه بضربه وتعذيبه.
في تاريخ 22/ 7/ 2014 تم إعدام فارس ميدانياً في سجن صيدنايا، عبر رصاصة استقرت في رأسه. علمت في الأمر بعد شهر من إعدامه، وذلك في تاريخ 21/8/2014 أحسست بأن تلك الرصاصة استقرت في رأسي وليس في رأسه، لم يكن من أمري إلا أن خرجت إلى الشارع وصرخت بأعلى صوتي “قتلوا ابني.. قتلوا ابني…”
الهتك[5]
الخميس، الثاني عشر من كانون الثاني عام 2012، اعتقلت مريم (اسم مستعار) أثناء مرورها في سوق شعبي يدعى «سوق المناطي» في حي جوبر بدمشق، واقتيدت إلى فرع المخابرات الجوية في منطقة المزة حيث بقيت هناك لأربعة أشهر، عُذبت واغتصبت، وحملت بجنين نتيجة الاغتصاب وفقدته نتيجة التعذيب الوحشي، قبل أن يُطلق سراحها بعد أن أجبرت على الاعتراف بقتل ضابط. مرت أشهر بعد ذلك، لتُعتقل مريم للمرة الثانية، وتُمضي في الاعتقال الثاني أكثر من عام وثمانية أشهر، من جديد عُذبت وأوذيت واغتصبت، قبل أن يُطلق سراحها وهي تحمل في أحشائها جنينًا لا تعرف من أباه ولا ما تصنع به، وضعت مريم طفلها في مشفى ميداني في النبك بريف دمشق وأسمته محمد، بعد حوالي العام على إطلاق سراحها، تروي مريم تفاصيل أكثر من عامين أمضتها في المخابرات الجوية، ومريم ليست الوحيدة.
اقتيدت مريم إلى فرع المخابرات الجوية في منطقة المزة، وبدأ التحقيق معها بعرض صور لرجال ونساء من ذات الحي الذي تسكنه، وتقول إنها كانت تعرف البعض من تلك الوجوه، لكنها أنكرت تلك المعرفة، فبدأ تعذيبها وضربها، تستمر جلسة التعذيب، من نصف ساعة حتى ساعتين، تتعرض فيها المعتقلة لشتى أنواع الضرب والتعذيب، وقالت إنها كانت تقسم بالمقدسات الدينية الإسلامية بأنها لا تملك أي معلومات، لكن ذلك كان يجعل المحققين يعذبونها أكثر.
وبعد أسبوع من التعذيب المتواصل، الذي كان من ضمنه الحرق والتعرية والإهانة، شتمت مريم بشار الأسد أمام المحقق، راجية من ذلك التصرف الموت «دعوت الله أن يصيب بشار الأسد بالمرض والموت بوجه المحقق مباشرة كي يقتلني، قلت: (الله يشلو ويزلو لبشار الأسد متل ما زلنا) كنت أعلم أن جملة مماثلة لها جواب واحد بالنسبة لهم وهو قتلي، فاقتادوني إلى زنزانة منفردة، وجردت من ملابسي بشكل كامل، في درجة حرارة منخفضة جدًا، رُبطت قدماي وعُلقت من السقف بشكل مقلوب وتعرضت خلال هذه الفترة لحرقٍ بأعقاب السجائر واعتداء جنسي، فضلًا عن الضرب المتواصل». بقيت مريم في المنفردة لمدة 48 ساعة وتصف المكان الذي احتجزت فيه بالمخيف.
وتصفُ مريم آلية عمليات الاغتصاب بالتالي «يتم النداء على اسم المعتقلة وتُقاد إلى غرفة أخرى وتُغتصب فيها، كانت عمليات الاغتصاب مستمرة طوال فترة اعتقالي لمدة أربعة أشهر، وتكون مترافقة مع إهانات وإذلال شديدين، هدف المُغتصبين هو إذلال المعتقلة وليس المتعة الجنسية». تقول الشاهدة إنها تعرضت للاغتصاب بمعدل مرة واحدة في اليوم، واستمر ذلك حتى ما قبل إطلاق سراحها، فيما حملت بجنين في المعتقل وفقدته نتيجة الضرب المستمر، وتذكرُ أن أخريات حملن بأجنة نتيجة ذلك، وأجهضن نتيجة الضرب أيضًا على الصدر والظهر والبطن، فيما لا تستطيع أن تؤكد ما إذا كان المحققون والعناصر يقصدون ضربهن بغرض إجهاض الأجنة أم لا.
تعرضت مريم لاغتصاب خلفي وأمامي، وزاد من حدة وتكرار اغتصابها الحادثة التي شتمت فيها بشار الأسد، وتقول إنها شاهدت وجوه بعض عناصر الفرع المُغتصبين، فيما أخفى آخرون وجوههم، هؤلاء كانوا يختارون المعتقلات لاغتصابهن وفق جدول عبثي، فيما سجل الاغتصاب بحق نساء وفتيات من عمر السابعة عشرة وحتى الخمسين عامًا، قام به ضباط وعناصر على حد سواء.
يبلغ عدد المعتقلات اللواتي كن مع مريم في المخابرات الجوية في اعتقالها الأول أكثر من 150 معتقلة، تتراوح أعمارهن بين 17 و 60 عامًا، وتذكر أنها شاهدت أطفالًا معتقلين منهم دون الثانية عشرة، تعرضوا للضرب كذلك من قبل المحققين، لكنها تصفه بالعذاب الأقل، وكانت شاهدة على حالات قُتلت فيها المعتقلات من شدة التعذيب والاغتصاب ولا تعلم ماذا فُعل بجثثهن.
هناك حيث يموتون بصمت[6]
غرفة بطول 4 أمتار وعرض 3 أمتار و70 روحًا تنازع بين أربعة جدران، البعض ينامون وهم واقفون وبعضهم ينام وهم على رؤوس آخرين، لا نوافذ ولا منافذ لهواء سوى أنفاس الموجودين، يتناقص الأوكسجين شيئًا فشيئًا وتتساقط الأجساد المنهكة تعذيبًا وجوعًا وقهرًا الواحد تلو الآخر كأحجار الدومينو.
جرح بسبب ضربة سوط يتفاقم ليصبح إنتانًا، ترتفع درجة حرارة الجسد المنهك وتبدأ حالة الهذيان، لا أحد من السجانين مكترث لحاله، أنين المريض يستحيل ضجيجًا يصيب باقي المعتقلين بالصمم، فأنفاسهم لوحدها كفيلة بإحداث ضجيج يرهق النفس ويضنيها، تستمر الروح في نزاعها وأرواح أخرى تنتظر موتها ببطء شديد.
قصعات الطعام التي تصل للغرفة، أو ما يمكن تسميتها بقصعات طعام، تحوي أسوأ وأفسد أنواع الطعام ورغم ذلك لا تكفي الموجودين، ويتهافت المعتقلون لسد رمقهم، فالحياة داخل الجدران باتت كحياة الغاب، لا شيء يُؤلم أكثر من الكفاح للبقاء حيًا مع شبح الموت الذي يُخيم فوق الرؤوس كل لحظة، فالبقاء لصاحب النفس الأطول والأقوى، البقاء لمن يسبق في تناول لقمة الطعام الأخيرة.
أما الأمراض الجلدية فحدث ولا حرج، لا ماء للاستحمام ولا مكان للتبول سوى على نفسك وعلى من هم حولك، لا شمس تقتل البكتريا ولا هواء، والرطوبة العالية بسبب ضيق المكان وازدحامه تساعد على انتشار الكثير من الآفات الجلدية، ولحوم المعتقلين تنهشها سياط السجانين والحشرات السامة والقاتلة أيضًا، ينزف الجلد، يُصاب بالإنتان ويظهر العظم تحته، وما من أحد يسأل عن حاله، فيموت بصمت ولكن بعد أن يشهد تآكل جسده على قيد الحياة.
وفي غرف التحقيق، صنوف من العذاب النفسي قبل الجسدي، حبائل معلقة في سقف الغرفة، يُعلق عليها المُعتقل ويُرفع ويتلقى الضرب بالسياط، وكلما صرخ من الألم كلما ازداد تعذيبه أكثر، وكثيرون منهم يتعرضون لصعق كهربائي من كاحل القدم، فتتفتح أقدامهم من شدة الكهرباء لتبتر بعد عدة أيام من شدة التقيح.
هناك في أقبية فروع الأمن الأسدي، أرواح تُزهق كل دقيقة، تموت بصمت، ربما موتها أرحم من بقائها، وقليلون من ينجون من تلك الأقبية، يخرجون ليرووا لنا الحكاية، وتبقى «من سمع ليس كمن رأى» جملة ترتعد لها الأوصال، فلن يشعر بألم من احتجزوا هناك سوى من عايش الألم.
طفل سوري يروي قصة تعذيبه في سجون مخابرات النظام السوري[7]
في قصة تتكرر في كل يوم في سوريا بعضها يخرج للعلن والآخر يبقى أسير القضبان، معاذ عبدالرحمن طفل من مواليد 1999 من سكان مدينة حماة لم يشفع له صغر سنه وطفولته من التعرض لأقسى أنواع التعذيب والانتهاكات والمحاكمة.
ووفق ما ذكره مركز توثيق الانتهاكات في سوريا اعتقلت عناصر أمنية الطفل معاذ عندما كان مع صديق له في سوق المدينة عندما شاهد سيارة مليئة بعناصر أمنية ليصاب بالتوتر ويقوم بتغيير طريقه ليكون مصيره الاقتياد وتباعاً الاعتقال والنقل الى فرع الأمن العسكري في مدينة حماة بعدما اكتشفوا أن له اسما في قائمة المطلوبين.
وتحدث معاذ قائلاً : “تم اقتيادي بعدها الى زنزانة منفردة طولها متران وعرضها متر يوجد فيها 4 معتقلين وأنا الخامس، كنا نضطر الى إغلاق فتحة المرحاض الموجودة داخل الزنزانة لكي ننام فوقها بسبب ضيق المكان الشديد”.
وأضاف “في أول يوم لوصولي للفرع استدعيت مساء إلى جلسة التحقيق الأولى وتم تعذيبي بطريقة الدولاب والضرب بعصا خشبية غليظة على كافة أنحاء جسمي، وجه لي المحقق تهمة حمل السلاح وضربت لمدة ما يقرب الثلاث ساعات كي أعترف بهذه التهمة الموجهة لي لكنني لم أعترف، حيث أني لم أحمل السلاح أبداً”.
وتوالت جلسات استدعاء معاذ التي لم تخل من فنون التعذيب بأقسى الطرق لإجباره على الاعتراف بأنه مسلح وعن قائد الكتيبة التي يعمل بها لكنه اعترف فقط بمشاركته بمظاهرات سلمية ضد النظام.
بدأ معاذ يعاني من مشاكل صحية وجسدية بسبب سوء المعاملة والتعذيب وقذارة الزنزانة لكن لا حياة لمن ينادي حيث كانت تُرفض في كل مرة طلباته بالحصول على علاج بسيط له.
وبدأت سلسلة اعترافات الطالب في أولى ثانوي معاذ عند مواجهته بمقاطع الفيديو التي صورها أثناء المظاهرات بعدما قامت قوات أمنية بمداهمة منزله والحصول على كومبيوتره الشخصي.
وتعرض مرارا وتكرارا للضرب بشكل مبرح والإهانة بشتى الألفاظ حتى إنه كان يُستدعى للتحقيق بهدف تعذيبه دون توجيه سؤال واحد له.
ويقول معاذ “بعد مرور شهر وأربعة أيام في فرع الأمن العسكري تم نقلي الى الشرطة العسكرية في محافظة حماة كأول محطة إيداع لي، حيث علمت لاحقاً أن فرع الأمن العسكري في محافظة دمشق 600 قد قام بطلب نقلي إليه”.
وأضاف “وصلت الى فرع الـ 600، وعند دخولي للفرع تفاجأت بكمية الأوساخ والروائح الكريهة الموجودة فيه وانتشار الأمراض بشكل كبير بين المعتقلين، دخلت إلى زنزانة ضيقة يوجد فيها من 27 إلى 97 شخصا، وكان لي “بلاطة” واحدة أنام جالسا فيها حيث مكثت هناك 67 يوما، استدعيت في اليوم السابع الى التحقيق وحاول المحقق أن يجبرني على الاعتراف أني عضو في جبهة النصرة”.
محكمة الإرهاب
وبعد مضي 67 يوما في فرع 600 تم تحويل معاذ الى النيابة العامة بدمشق ثم الى محكمة الإرهاب بدمشق ليتم نقله الى الشرطة العسكرية في القابون كمحطة إيداع قبل نقله الى سجن عدار حيث يحاكم أمام محكمة الإرهاب.
لكن مسؤولي السجن رفضوا استقبال معاذ بحكم أنه لم يبلغ الثامنة عشرة من العمر.
وتابع “تم تحويلي الى النيابة العامة ثم الى القصر العدلي في دمشق فأعادوني مرة أخرى الى الشرطة العسكرية في القابون، لأنتظر محاكمتي التي طالت في خضم التنقلات والانتظار”.
وأضاف أن قاضي التحقيق الثامن، أفرج عنه لعدم ثبوت أي جرم بحقه.
ليخرج معاذ من القصر العدلي بدمشق ويتفاجأ بكم كبير من الناس يسألونه عن أقربائهم من المعتقلين.
عابرون في سبيل عابر[8]
اسمي نور وأبلغ من العمر 32 سنة، أقيم في مدينة دير الزور التي بدأت تئن على وقع سيطرة تنظيم “داعش” منذ 14/7/2014.
“أنت طالق…!
قالها لي زوجي بدون أن ينظر في عيني. كان حزيناً ومكسوراً كما لم أره من قبل. هو زوجي وحبيبي وصديقي في هذه الدنيا، وبكلمة منه بت وحيدة … وحيدة جداً.
في البداية لم ندرك خطورة هذا التنظيم، لم نكن قد احترقنا بناره بعد، حيث بدا للوهلة الأولى مجرد جمرة صغيرة ما لبثت أن تحولت لكرة نار ملتهبة تحرق كل من حولها.
منذ لحظة دخول عناصر التنظيم للمدينة، فرضوا على النساء ارتداء النقاب، وقاموا بمخالفة كل امرأة ترفض الانصياع لأوامرهم وذلك من خلال جلدها وجلد ولي أمرها .
أنا امرأة محجبة، مسلمة مؤمنة ومتدينة، لكني أرفض ارتداء النقاب لأنه لا يوجد في ديننا ما يُسمى فرض ارتداء النقاب. لكن زوجي في ذلك اليوم رجاني بأن ألبسه، لا بل توسل إليّ، لكني لم أرضخ لتوسلاته وحاججته بوجهة نظري حول الشريعة وبطلان فرض النقاب. يومها رضخ لإرادتي ومضينا معاً في زيارة لبيت أهله.
في أحد شوارع المدينة، ترجلت أمامنا فجأة سيارة لعناصر “داعش” تابعة لجهاز ما يسمى بالحسبة. كانت تقوم بمهمتها الدورية في التجول في طرقات المدينه ومحاسبة الناس في حال ارتكابهم أي فعل قد يعتبر مشيناً من وجهة نظر “داعش”.
كانوا ثلاثة رجال مدججين بأسلحتهم. قام أحدهم بتوبيخ زوجي على سماحه لي بالخروج أمام العامة دون ارتداء النقاب؛ ومن ثم قاموا باعتقالنا على الفور دون أن يفسحوا لنا المجال في الدفاع عن أنفسنا. أجبرونا على ركوب السيارة وتوجهوا بنا إلى مركز “الحسبة” في شارع “ستة إلا ربع” حيث تم تجهيز المركز بالعديد من غرف التوقيف.
تم احتجازي في إحدى الغرف المنفردة بعيداً عن زوجي بعدما جردوني من حقيبة يدي وجميع أشيائي. بدأت الشكوك تراودني حول مصير زوجي، وماذا سيحل به. وبعد برهة من الزمن سمعت صوت قفل الزنزانة يُفتح، ليدخل أحد العناصر الذين قاموا باعتقالي, أخذني العنصر إلى غرفة كان بها مكتب أحد عناصر التنظيم، والذي بدا فيها الآمر والناهي في مكتب “الحسبة”، عندما دخلت وجدت زوجي يقف هناك، مكبّل اليدين. بعد لحظات، طلب أحد العناصر من زوجي أن يقوم بجلدي بنفسه، وذلك بمثابة عقوبة لي وله على عدم ارتدائي النقاب.
مازلت أذكر وجه زوجي وعلامات الحزن التي بدت عليه عندما طلبوا منه أن يقوم بجلدي، بدت نظرات عينيه حائرة، فهو لم يسبق له أن ضربني ولا مرة، ولكنه عوضاً عن قيامه بجلدي صمت لبرهة ثم قال:
” سأطلقها ذلك أفضل من جلدها”.
عندما سمعته يلفظ كلماته تلك “أنت طالق!”، تجمدت الدماء في عروقي، ولم أستطع أن أنطق بأي حرف، شعرت وكأن لساني قد تم ربطه. نظرت في عيني زوجي المكسورتين، لكنه ابتعد بنظره عني وكأنه لا يريد في هذه اللحظة بالذات أن تلتقي عيوننا.
فيما بعد أعادني أحد العناصر إلى غرفة الزنزانة. “هذا جزاؤك على عدم ارتدائك النقاب”
بقيت في الزنزانة وحدي، وطوال الليل لم يهدأ لي جفن، حيث وجدت نفسي وحيدة وسجينة ومتهمة لمجرد أنني رفضت ارتداء النقاب. كل ما كنت أفكر به هو أني خسرت زوجي وحبيبي. كانت تلك الليلة الجهنمية في زنزانة الحسبة باردة وحزينة. قضيت الليل وأنا ألوم نفسي على تعنتي وعدم الاستماع لنصيحة زوجي. فكرت فيه، كيف استطاع تطليقي وهو الذي يحبني جداً ؟ كيف سمح لهم بأن يقرروا مصير زواجنا؟ كانت كل الأسئلة تتلاشى، عند تفكيري به وعند استرجاع منظره وهو مكبل اليدين ومكسور. بات بعدها كل ما يهمني هو أن يكون بخير.
في ساعات الصباح الباكر سمعت صوت قفل الزنزانة مجدداً، ليُفتح الباب ويدخل أحد العناصر ويخبرني أنه تم الافراج عني.
أوصلني أحد العناصر لبيت والدي، والذي كان عوناً لي في محنتي، وسنداً يشد أزري، بينما لم تهدأ نفسي، ولم تخف وتيرة قلقي إلا عندما سمعت خبر الإفراج عن زوجي. عندها شعرت وكأن جبلاً انزاح عن كاهلي.
اسبوع كامل مضى دون أن أراه. أخيراً اتصلت والدته لتخبرني ما كنت متيقنه منه في داخلي … زوجي طلقني لأنه لا يستطيع جلدي ولم يتحمل رؤيتي أتألم. زوجي، حبيبي … سنعود قريباً ونلتقي وسننسى كل شيء عنهم. هم عابرون في حياتنا. هم لا شيء … الحب هو الأبقى، ونحن من سيبقى.
لن أصدق أنه رحل حتى أرى جثته[9]
اسمي ليلى وأبلغ من العمر 54 عاماً، أعيش بمدينة اللاذقية. في يوم صيفي من شهر أب عام 2013 أردت محادثة ابني فؤاد عبر هاتفه المحمول فوجدته مغلقاً، وظننت أن الأمر طبيعي، فأحياناً يُغلق فؤاد هاتفه، لاسيما أثناء تواجده في المحاضرة، فهو طالب جامعي، يبلغ من العمر 19 عاماً، ويدرس الموسيقى في جامعة البعث بمدينة حمص.
توالت محاولاتي وفي كل مرة أجد هاتفه مغلقاً، وبعد مضي ما يقارب الخمس ساعات شعرت وكأن هناك خطراً يحدق بولدي، ويعصر قلبي خوفاً عليه.
تماثلت عقارب الساعة معلنةً حلول منتصف الليل وهاتفه مازال مغلقاً، لينذرني أن ابني بات في خطر لا محال، ومن دون تفكير تواصلت مع أصدقائه عبر الهاتف فقال لي أحدهم: ” قام الأمن العسكري باعتقال فؤاد في الجامعة.”
شعرت بألم يمخر صدري ويحرقني، وتراءت لي ظلال السجن وابني حبيس داخل جدرانه، بينما ينهال سجانوه عليه ضرباً ولكماً وهو يصرخ ليصم آذان السماء.
تواصلت مع أصدقائي وأقاربي علهم يساعدوني في إخراج ابني من المعتقل، ولكن محاولاتي لم تفلح، كما عينت له محامياً فتحجج أنه لا يستطيع الدفاع عن ابني طالما لم يتم تحويله للجهات القضائية من أجل محاكمته.
في إحدى المرات رن هاتفي وجاءني صوت غريب يُخبرني أنه صديق فؤاد وقد التقى به في السجن، وأكد لي أنه تم تحويله إلى فرع فسلطين في دمشق، يومها نصحني المحامي بأن أسافر إلى دمشق وأقدم له طلب استعجال لعرضه على “محكمة الإرهاب” والبدء بإجراءات محاكمته.
وجدت نفسي في دوامة، وبين الحين والآخر أحزم حقائبي وأتوجه إلى دمشق وأقصد وزارة العدل، بهدف تقديم طلبات رسمية ما بين “استعجال قضاء” تارة، وطلب “مفقود” تارة أخرى، علي أستطيع التأكد من مكان فؤاد، غير أنني كنت دائما أعود بخفي حنين إلى اللاذقية. وانتهى بي المطاف في مبنى “الشرطة العسكرية” حيث يتم تدوين أسماء الذين لاقوا حتفهم في السجون والمعتقلات، للتأكد في حال كان فؤاد ما يزال على قيد الحياة واسمه ليس مدوناً في سجلاتهم.
على هذا المنوال بقيت ما يقارب السنة والنصف، بين الفينة والأخرى أسافر إلى دمشق وأقصد مبنى “الشرطة العسكرية” لأسأل عن ولدي إن كان في عداد الوفيات.
في شهر نيسان 2015 اتصل أحد الأصدقاء النافذين في النظام السوري وأخبرني أن ولدي قد توفي بتاريخ 22/6/2014. يومها عدت للدوامة نفسها، شعرت أن جزء مني قد رحل إلى الأبد، وكأنني جبل تفتت إلى حصى صغيرة.
في تاريخ 15/10/2015 سمعت صوت فؤاد يناديني، ومن دون تردد سافرت إلى دمشق في اليوم التالي، وطرقت أبوب “الشرطة العسكرية” على أمل الحصول على ورقة كتب عليها اسم ابني ضمن سجل الوفيات.
وما زلت مصممة على طرق أبواب الشرطة العسكرية، علي أحصل على ورقة تم تدوين اسم فؤاد فيها، وهكذا دواليك…
شهادات معتقلين تروي قصة “تابوت الموت” الموجود في “سجن أبو غريب” في كوباني..[10]
هناك القليل حتى الآن الذي يمكنه أن ينقل معاناة المعتقلين الكُرد في سجون “الآسايش” التابعين لحزب الاتحاد الديمقراطي والأساليب القاسية في التعذيب التي تُمارس ضدهم، و خاصةً في مدينة كوباني.
لكن مع تكرار حوادث موت المعتقلين تحت التعذيب لا سيما في قامشلو و عفرين، بات اسم سجن “أبو غريب” الواقع في كوباني يتردد مؤخراً ليشكل رعباً لكل من سمع به .
سجن “أبو غريب كوباني” يقع على بعد 30 كم غربي المدينة في مكانٍ خالٍ كان إرشادية زراعية سابقاً، و يجري نقل المعتقلين إليه لتلقي وجبات من التعذيب الجسدي و النفسي من ضربٍ و تعذيبٍ و اهانات حتى الاعتراف أو تبني التهمة التي يقوم القائمون على السجن بحبكتها و رسم خيوطها.
“تابوت الموت”
يروي “أمين/خ” قصة “تابوت الموت” وهو عبارة عن تابوت عادي تم تدعيمه بخشب و مساميرة قوية و يجري وضع المعتقل فيه بحيث يصبح من المستحيل عليه التحرك او التلفت ليصبح و كأنهُ في القبر، إذ لا تستطيع تحريك أي شئ، لا يديه و لا رجليه، فقط يستطيع تحريك عينيه، و بعدها يوضع المعتقل في غرفة مغلقة تماماً و مظلمة مهما صرخ فها لا أحد يرد عليه، وقد بقيت لحوالي 19 ساعة في ذلك التابوت، فيما قال آخرون بأنهم بقوا فيه لمدة عشرين يوماً بمعدل 20 ساعة يومياً.
معتقل خارج من سجون «جيش الإسلام» في غوطة دمشق يروي تفاصيل خاصة عن التهم التي ألحقت به[11]
يروي أبو عمر المسرابي قصة اعتقاله من قبل جيش الإسلام، وهو ناشط إعلامي في مدينة مسرابا
قائلا: « داهمو منزلي في 30/6/2015 في الساعة الخامسة فجراً، وقبل زفافي بـ17 يوماً، كانت المداهمة أشبه بمداهمات النظام، واقتدت يومها مع أبي، كورقة ضغط علي لأعترف بتهم لم أرتكبها ولم تثبت علي أصلأً، صُودِر جهازي المحمول والإنترنت الفضائي وهاتفي وساقوني مع الضرب والإهانة إلى مزرعة، وباتوا يضغطون علي لأعطيهم كلمات السر الخاصة بي وبأجهزتي، لكني لم أستطع مقاومتهم فأعطيتهم كلمات خاطئة، وبعد يومين من المحاولات استسلمت وأعطيتهم إياها، وباتوا يتواصلون مع أصدقائي على لساني، ويطلبون التواصل مع أعضاء من تنظيم الدولة، لكن أصدقائي فهموا اللعبة جيدا ولم يعطوهم أية معلومة».
يتابع: «انتقلت بعد ذلك إلى مرحلة التحقيق والمفاجأة كانت باتهامي باغتيال أحد أبرز قادة «جيش الإسلام»، لكني أنكرت ذلك، وتواصلت المحاولات لإجباري على الاعتراف باغتيال هذا القائد وتواصل إنكاري لذلك معها، وضعوني حينها في غرفة مع تسعة أشخاص أكبرهم كان في الستين من عمره وكان قد تعرض لضرب وإهانة شديدين من دون الأخذ بعين الاعتبار كبر سنه، كان ذلك في سجن التوبة، انتقلت بعدها إلى سجن الكهف حيث وضعت في منفردة، خُيل إليْ يومها أني في أحد أفرع النظام الأمنية، غرفة بمترين، لها باب حديد سميك بالكاد تستطيع سماع وقع خطوات من خلفه، لا أرى فيها الضوء ولا النور، فالثقب الصغير الموجود في الأعلى يكاد يعمي عني رؤية أي شيء، كنت أتناول الطعام ولا أدري ماذا آكل وما كان يزيد في مأساتي أني كنت صائما في رمضان، كنت أنتظر التحقيق بفارغ الصبر لأتنفس قليلاً وأخرج من هذه الغرفة، فسجن الكهف كان من السجون ذي السمعة السيئة عند جيش الإسلام حيث يُودع فيه من يُحكم عليهم من خمسة أشهر حتى المؤبد، وكنت أتخيل أن أبقى فيه طوال عمري».
ويُكمل سرد حديثه بالقول: أبرز التهم التي ألحقت بي اغتيال قيادي في جيش الإسلام والانتماء إلى «تنظيم الدولة»، ثم التعاون مع جبهة النصرة لاستعطاف المدنيين، وتشكيل جيش الفتح، عندما سرد عليْ المحقق هذه التهمة ضحكت وقلت له: هل هذه تهمة؟ أجاب: نعم، عندما ترى فصيلاً عسكرياً له قوته ونفوذه في الغوطة الشرقية لماذا تتعاون مع غيره؟ وانتقل للملف الذي بعده وقال: تهمتك أيضا أنك تصور أعراض النساء في المظاهرات وترسل الصور للقنوات الأجنبية، أجبته: لكنهن محجبات وبالنقاب، وأيام الثورة كلها صورت فيها النساء، فقال بحزم: (هديك الأيام انتهت)، واستشهدوا على كل التهم بأنني وعائلتي كنا أول من حاك أعلام الثورة، خرجت يومها من عند المحقق واقتادوني إلى غرفة كان فيها زهران علوش، وأخبرني أنه سيفرج عني، لكنه حذرني من المساس بأي شيء يخص «جيش الإسلام»، وأنني إن فعلت ذلك لن يعتقلني بل سيعدمني فورا، بعدما كان قد وجه ملاحظات عديدة إلي بحزم مشدداً أن عليْ تهمة واحدة كفيلة بأن تضعني على حبل المشنقة، ألا وهي تصوير أعراض المسلمات «المتظاهرات».
يضحك أبو عمر قائلاً: عندما أفرج عني وقعت وبصمت على ما يزيد عن 20 ورقة لم أفهم كل ورقة لماذا، للحظات شككت أن أحد تلك الأوراق كانت التخلي عن الثورة.
ويروي أحمد تفاصيل اعتقاله، ويقول إنه تعرض لضرب قاس. أما التهمة التي وجهت له فهي أنه إعلامي وكان يحرض ضد التنظيم.[12]
53 يوما قضاها أحمد في سجون داعش فقد خلالها ثلاثين كيلوغراماً. وهو يصف ظروف سجنه ويقول إن مساحة الغرفة أربعة أمتار بثلاثة أمتار، وكانت تحوي 40 معتقلا، بلا تدفئة أو بطانيات، وكان النوم على الأرض، ولم تكن هناك مراحيض، وكان يسمح للمعتقل بقضاء الحاجة مرة أو مرتين في اليوم لمدة خمسة عشرة ثانية.
كنا حفاة القدمين والمراحيض لا تصلح للاستعمال. أما الطعام فقد كنا نتناول كل يوم رغيف خبز واحد وعدد من حبات الزيتون والقليل من الجبن. أما الغرفة فكانت تحوي على فتحة صغيرة للتهوية مما أثر على صحة المعتقلين، وخصوصا مرضى الربو الذين يعانون من مشاكل في التنفس.
أما بالنسبة للتعذيب، فقد كان أقسى وأشد من تعذيب النظام على حد وصفه، فقد مر أحمد بتجربة اعتقال مع النظام ثلاث مرات يقول، “داعش يستخدم نفس طرق التعذيب، مثل الشبح وهو تعليق المعتقل من اليدين من الأعلى، واستخدام الكهرباء وربطها بأماكن حساسة من الجسد، عدا عن التهديد بالقتل، ويضيف أحمد “كان النظام يقوم بالشبح لمدة تتراوح الى عشرين دقيقة ولكن تنظيم داعش يُبقي الأشخاص مشبوحين لأيام وليالٍ الى درجة أن البعض فقد القدرة على استخدام أذرعه وأدى إلى الشلل أو الوفاة، أما التعذيب بالكهرباء فمن المفروض أن يكون حسب معايير لا تُؤدي الى الجلطة الدماغية أو القلبية. التعذيب عند داعش كان يمرر من القابس الى الجسم وفي أماكن حساسة مما أدى إلى موت عدد كبير”.
الذين كانوا يقومون بالتعذيب هم سوريون، لكن القضاة كانوا أجانب أو ما يطلق عليهم التنظيم باسم المهاجرون. كان هناك قاض مغربي والآخر سعودي حسب ما يذكر أحمد. كل السجناء كانوا يُعذبون دون استثناء وبغض النظر عن التهم الموجهة لهم. ففي غرف التنظيم، فإن الاعتراف مُهم حتى يستطيعوا تطبيق الحد على السجناء و من ثم يتم إعدامهم، وحسب شهادات بعض السجناء فقد أجبروا على الاعتراف بالسرقة أو الاغتصاب أو العمالة للنظام تحت وطأة التعذيب.
وذكر أحمد أن السوريين الذين كانوا يقومون بالتعذيب كان لبعضهم سوابق إجرامية ووجدوا في داعش وسيلة لممارسة التسلط أو الأخذ بالثأر لتحقيق مطامع شخصية تحت غطاء ما يُسمى بالجهاد .
أما عن التعذيب النفسي، فيقول أحمد كنت أسمع أصوات السجناء وهم يستغيثون من وطأة التعذيب، كثيرون لم يعرفوا حتى التهم الموجهة لهم. وكان المُعتقل الوحيد بين المجموعة الذي تم تعصيب عينيه والإبقاء عليه مقيداً بأمر من ما يُسمى بوالي حلب، عمر العبيسي، المُلقب أبو الأثير.
أحداث دراماتيكية يرويها أحمد قبل يوم من موت محقق، ففي الثالث من يناير عام ٢٠١٤ ، كان قادة التنظيم يقرأون أسماء لائحة السجناء, ثم يُقتادون الى خارج الزنازين حيث يتم إعدامهم، لكن وبتدخل من العناية الإلهية، كما يقول أحمد، تمت مهاجمة المقر من قبل كتائب تابعة للجيش الحر في الرابع من يناير. كانت هناك أصوات اشتباكات، وقذائف سقطت في محيط السجن، الأمر الذي أدى الى مقتل قائد مهم في داعش انسحب على إثرها التنظيم كما يذكر أحمد من الموقع. بعد فترة هدوء غير معتاد، قام السجناء بكسر أبواب الزنزانات وإطلاق سراح كل السجناء الذين فروا إلى مقبرة قريبة و منهم أحمد الى أن وصولوا الى أماكن تحت سيطرة الجيش الحر.
الآن ومثل كثيرين من الناشطين السوريين يعيش أحمد في تركيا بسبب داعش والنظام باحثاً عن الأمان المؤقت، لكن كابوس الاعتقال لا يزال يُلاحقه.
** شهادة من (أحمد المحمد) معتقل سابق في معسكر دير شميل [13]
طريقة الإعتقال تقوم حصراً من خلال الخطف عن طريق دوريات خاصة، إلى جانب وجود حواجز خاصة تابعة له يُعد أهمها حاجز الطلائع شرق مدينة مصياف، وحاجز نهر البارد بالريف الغربي لحماه، وحاجز آخر بالريف الشرقي بمحيط مدينة السلمية، يضافوا إلى بعض حواجز مليشيات الدفاع الوطني بمحيط مدينة اللطامنة وبلدة قمحانة.
وعن تجربته يقول : إنه تم خطفه بالقرب من منزله في نهاية عام 2011، حيث وجهت له تهمتان دعم المسلحين والتخابر مع محطات معادية، مشيراً إلى إنه كان مشرف حملة جمع تبرعات لأهالي بابا عمر وإرسالها إلى مدينة حمص وتم خطفه لهذا السبب آنذاك.
وأكد أنه لا يُعترف بوجود أي سجين لديهم متحججين بأنه مقر عسكري، في حين يتعرض المُعتقل للضرب من قبل جميع الحواجز التي يمر بها لحين الوصول إلى دير شميل، وهناك يبدأ التعذيب قبل التحقيق بالضرب بالعصي والسوط وغيرها من الأساليب.
يتم تقديم وجبة طعام واحدة للمعتقل وهي رغيف خبز واحد دون أية أطعمة آخرى، بحيث يكون الرغيف مرّ على خبزه أسبوع واحد مما يسبب تعفنه الأمر الذي يؤدي إلى إصابة المعتقلين بعدة أمراض، تُضاف إلى أمراض ضيق التنفس بسبب الضرب المباشر على الصدر، وتقرح الجروح وانتشار القمل والروائح الكريهة في المُعتقل، حتى أن السجان يقوم بوضع كمامة ويقود السجين عن طريق عصا لتجنب لمسه.
هناك معتقل تعرض لكسر في الرقبة بسبب الضرب والنزيف من الفم، تمكن من التواصل مع عائلته ، وبعد الإعتماد على عدة وساطات ودفع مبالغ مادية كبيرة تم نقله إلى فرع الأمن العسكري ومن ثم إلى فرع الأمن السياسي، ليتم إطلاق سراحه بعد 8 أشهر من الإعتقال تم توقيفه خلالها 6 أشهر في دير شميل، وذكر أنه شهد وفاة عدة معتقلين حيث كانت تتم تصفيتهم بعد الساعة 12 عشر ليلاً بالمعتقل.
شهادات من نقطة الحرش في بلدة بلودان التابعة لمنطقة الزبداني مشهورد بجلاد فيها اسمه “جابر”
ملاحظة ان المذكورين فيها هم أشخاص من منطقة الزبداني:[14]
ملاحظة شهادة الفتى (أمجد.ح) هذا طالب عندي كان في صف التاسع يوم تم اعتقاله:
**نقطة الحرش هذه محطة مؤقتة للمعتقلين قبل وصولهم إلى أحد فروع الأمن في دمشق. ينتظرون بفارغ الصبر ترحيلهم ولو إلى سجن آخر من هول وفظاعة ما يقاسون هنا. زنزانة الاعتقال التي لا تتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة هي مكان كل شيء، بدءاً من النوم والطعام وحتى قضاء الحاجات، حيث تمتلئ الأرض بالشحم والقاذورات التي تختلط بالبول وبدماء الجرحى المعتقلين. يُحتجز العشرات ممنوعين حتى من أبسط الحقوق الإنسانية مثل الماء الذي يُقدم لهم بنفس الإناء الذي يبولون به…! تقديم الماء يكون مرتين في اليوم فقط، حيث يقوم المساعد المسؤول عن السقاية بسكبه على وجه المعتقل مقيد اليدين إلى الوراء، إن حالفه الحظ سيأتي الماء في فمه، ولكن الويل له إن دخل في أنفه واختنق أو سعل إذ سيكون مصيره التعذيب والضرب. أما إن نسي أحدهم إفراغ بوله من الإناء فسيشرب كل من في المهجع هذا البول بدل الماء…، لذلك تتردد دائماً عبارة “دخيلكم يا شباب… يلي بيبول يفرغ الإبريق فوراً”… مرضى السكر هناك اضطروا إلى مصّ بعض حصى الأرض المالحة كي ينخفض مستوى السكر لديهم.
أحد الفتيان (أمجد. ح) الذين تم اعتقالهم قضى في ضيافة جابر ستة أيام كانت من أفظع ما رأى، رغم أنه عاش تجربة الموت سابقاً تحت القصف والرصاص. يروي كيف بقي لمدة يومين دون طعام أو شراب قبل أن يُقتاد ومن معه إلى التحقيق، هناك يسقون بضع قطرات من الماء لتبدأ عملية التعذيب بالجلد والكهرباء ومنهم من ظل معلقاً على الشجرة عدة أيام، بينما أصيب آخرون بالتهاب غريب وتآكل في اللحم نتيجة حقنهم بإبر غريبة في اليد أو القدم. يقول “خالد” بأنهم أخذوه إلى نقطة أخرى في الجبل، وبعد أن فشلوا في سحب أي اعتراف منه ربطوه بسبطانة الدبابة وهو يتلقى الصفعات والشتائم. أما “أبو يوسف. ح” فقد كان له الحصة الأكبر من التعذيب والتنكيل فقط لأنه طلب الماء النظيف من أحد العساكر بعبارة: “لك خافوا الله”… “محمد” القابع في زاوية الزنزانة ظلّ صامتاً بلا حراك، وحين اقترب أحدهم منه ولمسه سقط ميتاً ليبقى على الأرض على حاله أربعة أيام ورائحته تملئ المكان قبل أن يتم إخراجه. “ياسر” الذي أمضى ليلتين متواصلتين معلقاً من قدميه توفي بسبب ضغط الدم المتدفق إلى رأسه. أما “فادي” الذي يعاني من الرُعاف فقد ظل واقفاً ساعتين متواصلتين وهو مُقيد اليدين مُطأطئ الرأس والدم ينزف من أنفه، ولم تساعده بركة الدم أمامه من كسب تعاطف أي من العساكر المتواجدين على باب الزنزانة. نساءٌ كثيرات ذهبن إلى الحرش بحثاً عن أزواج لهنّ أو أبناء، إلا أنهن وفور ذكر اسم “جابر” ارتبك المجند ونصحهن بالمغادرة فوراً خوفاً على حياتهن.
اغتصاب الياسمين (العار المستدام) ([15])
السيدة (ماريا.خ) مواليد حماة/ 1986
وهي أم لثلاثة أطفال، زوجها معتقل وناشط محلي. في يوم الجمعة 3 آب 2012قرابة الساعة التاسعة صباحا كانت السيدة (ماريا.خ) مع أبنائها الثلاثة في منزل والدتها الواقع في حي القصور بمدينة حماة، داهمت قوة من فرع أمن الدولة قوامها 30 عنصرا وما يقارب 7 سيارات المنزل، اقتحموا المنزل، دون مذكرة اعتقال ودون بيان السبب. اقتادوها إلى السيارة وسط صراخ والدتها وأطفالها، قامت هذه العناصر باعتقال عدة نساء أخريات من الحي نفسه، وتم اقتيادهم جميعا إلى فرع أمن الدولة.
تقول السيدة ماريا بإفادتها للشبكة السورية لحقوق الانسان:
“بعد نحو أربع ساعات من وصولي للفرع قاموا باستدعائي إلى غرفة التحقيق، قام عنصر أمن يدعى «أبو علي» علمنا لاحقا أنه من طرطوس، باقتيادي إلى غرفة التحقيق في الطابق العلوي، وفي أثناء ذلك كان أبو علي يقوم بشتمي ثم ضربني على فمي، ما أدى إلى كسر اثنين من أسنان فكي العلوي، وحصل معي نزيف حاد، وصلت إلى غرفة التحقيق، كان فيها محقق اسمه «سليمان جمعة» وشخص آخر يدعى «ملهم» برتبة مساعد، سألني المحقق بضعة أسئلة حول نشاطي الثوري، أما معظم الأسئلة فكانت تتركز حول معلومات عن قادة وأفراد الجيش الحر الموجودين في الحي. استمر تعذيبي لثلاثة أيام، بشكل متواصل وعنيف، حيث يبدأ التحقيق من الساعة 8 مساء وحتى الثانية . وبعد ذلك وفي كل يوم يتم اقتياد اثنتين من المعتقلات إلى مكتب المقدم سليمان جمعة، كان المكتب مزودأً بغرفة نوم تحتوي على سريرين للنوم، وحمام، وبراد مليء بالمشروبات الكحولية.
في اليوم الرابع من الاعتقال، وبعد إنتهاء التحقيق المترافق مع الضرب والشتم وقرابة الساعة التاسعة مساء تم اقتيادي إلى مكتب المقدم سليمان جمعة ومعي إحدى الفتيات المعتقلات اللواتي اعتقلن معي، وفور دخولي إلى المكتب، لاحظنا وجود اثنين من الأشخاص يضحكون، تبين لنا لاحقا أنهم أصدقاء المقدم سليمان. أمر المقدم إحدى عناصره النسائية أن تقوم بخلع ملابسنا، حاولنا المقاومة، لكن دون جدوى، وبدأ المجرمون بعدها بالضحك وهم يشربون. ثم بدأ مسلسل الاغتصاب الجماعي، وتناوب الُمقدم سليمان جمعة مع اثنين من أصدقائه على اغتصابي، وأعتقد أنهما لم يكونا من الضباط العاملين في الفرع. كان الُمقدم سليمان جمعة يرفع صوته متوجهاً إلى الشبان المحتجزين في الزنزانات الملاصقة لمكتبه بالشتائم والعبارات البذيئة والطائفية، ويقول لهم متهكماً: «هي هي الحرية اللي بدنا نعطيكم ياها يا كلاب» ويعود بعدها إلى مزاولة فعلته الدنيئة.
بعد ذلك اليوم تكرر اغتصابي بالتناوب مع الفتيات الستة عدة مرات طيلة مدة اعتقالي في الفرع التي استمرت 24 يوما. تم إطلاق سراحي من خلال صفقة مبادلة بين ضباط الفرع وبين أحد كتائب الجيش الحر في حماة، لا يمكنني أن أنسى ما حصل معي مدى عمري، ومهما حصل لهم فلن أسترد حقي منهم أبدا.”
الإفادة الثانية:([16])
السيدة ف.ك، مواليد حماة1981 وهي متزوجة وأم لخمسة أولاد، لم يكن لديها أي اشتراك في الحراك الشعبي، أخوها ينتمي لأحد فصائل المُعارضة المسلحة في مدينة حماه منذ 2012 ، اعتقلت السيدة ف.ك من منزلها في حي القصور بمدينة حماة يوم الجمعة الموافق3 آب 2012 ، بعد مرور ثلاثة أيام على وقوع اشتباكات حصلت بين مجموعات في المعارضة المسلحة وبين القوات الحكومية – في حي القصور- بشكل خاص عناصر فرع أمن الدولة، الذين خسروا عددأ من عناصرهم، فيبدو أنهم قاموا برد فعل انتقامي طال عدداً واسعاً من أبناء الحي.
تقول السيدة ف.ك في شهادتها للشبكة السورية لحقوق الإنسان:
بعد أن اقتادوني من منزلي إلى السيارة العسكرية وجدت فتاة «ماريا.خ» في السيارة كانوا قد اعتقلوها قبلي، وبعد جلوسي في السيارة بدأ عنصران بركلي بالحذاء العسكري، ووصلت إلى الفرع بحالة إغماء، أذكر أنني قد رميت على أرض زنزانة وكان الحجاب قد نزع عن رأسي، وتسببت الرمية القوية التي رميتها باستعادة وعيي،عندها بدأت أنظر إلى ما حولي وكانت الرؤية غير واضحة كما أصبت بنزيف حاد في الأنف نتيجة الضرب في السيارة، بقيت على هذه الحالة مدة تقارب أربع إلى خمس ساعات كانت فيها إنارة الزنزانة الصفراء الخافتة مزعجة، كان معي في الزنزانة ست نساء أخريات يعانون حالتي نفسها أيضا وآثار الضرب والبكاء الشديد ظاهرة عليهن، بعد مضي نحو خمس ساعات جاء عنصر يُدعى أبو علي وقام بأخذ فتاة من الزنزانة ومضى بها نحو التحقيق وهي تترجى وتستغيث لتُقابل بضرب دون رحمة مع الشتائم البذيئة وعبارات طائفية، بعد مدة بدأنا نسمع صوت صراخها وبكائها وهم يقومون بتعذيبها، هنا بدأت كل منا تنتظر دورها، لم يتأخر العنصر أبو علي حتى استدعى فتاة أخرى وكان المشهد يُعاد مع باقي الفتيات إلى أن قدم أبو علي ونادى اسمي واقتادني إلى غرفة تحقيق فيها ضابط برتبة مقدم وآخر يُدعى المساعد ملهم. كانت الأسئلة التي وجهت إلي تتعلق بأخي ومكان تواجده وعندما أجبت بعدم معرفتي مكان وجود أخي أشار الضابط إلى أبو علي قائلا:
“شوف اللازم” ولم تنفع عبارات الترجي التي كنُت أناشدهم بها فتم اقتيادي إلى غرفة التعذيب، فقدت الوعي عندما شاهدت إحدى الفتيات معلقة من يديها، ولم أعد أدرك ما يجري من حولي حتى استفقت لأجد نفسي في الزنزانة ممزقة الثياب وعلى جسدي آثار ركلات ووجهي مليئ بآثار الصفعات، وبعد مدة عاد العنصر أبو علي وأخذ فتاتين، غابت الفتاتان نحو خمس ساعات، كنا نظن أنهن في غرفة التحقيق أو في غرفة التعذيب، بعذ ذلك سمعنا صوت عناصر يقولون كلمات بذيئة بحق الفتاتين وسمعنا أن المقدم سليمان جمعة مع أصحابه قاما باغتصابهن. لدى سماعنا ما جرى مع الفتاتين في مكتب المقدم سليمان أدركنا أن المصير واحد وبالفعل في اليوم التالي تكرر السيناريو نفسه، التحقيق القصير مع الكل تباعأ ومن ثم يأتي الاختيار على فتاتين ليتم اقتيادهن إلى مكتب المقدم واغتصابهن بشكل جماعي ووحشي.
بالنسبة لي كان اليوم الثالث هو دوري، حيث قدم العنصر أبو علي بعد الانتهاء من التحقيق واقتادني مع فتاة أخرى إلى مكتب المقدم ومن شدة خوفي أغمي علي لينهال عليْ ضربأ،و في المكتب شاركه المقدم أيضا بضربي وأجبرني على ابتلاع حبوب شعرت بعد تناولها بالهذيان وفقدان التركيز وكأنها مادة مخدرة تفقد الإنسان الشعور بما هو حوله وتبقيه يقظأ وبدؤوا التحرش بنا وكانت توجد فتاة مهمتها تجريدنا من ملابسنا ليبدأ المقدم حفلته باغتصاب الفتاة الأخرى التي انهارت من شدت بكائها وألمها، ورغم ذلك حاولت منعه فقوبلت بصفعات متتالية وعنيفة ورمى بها إلى السرير وبدأ باغتصابها. بالنسبة لي هذا آخر مشهد أذكره لأنني بدأت أفقد الشعور تدريجياً، كان من المشاهد التي لا تُنسى رؤية شبان مكبلي الأيدي يبكون لرؤيتهم حالنا، كانوا موجودين بالقوة معنا في مكتب المقدم.
أخبرت السيدة ف.ك الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن عمليات التحقيق كانت تتم بشكل يومي لجميع الفتيات، أما فعل الاغتصاب فكان يوميأ لفتاتين يتم اختيارهنْ بعد نحو 4 ساعات من الانتهاء من التحقيق. خرجت السيدة ف.ك بعد 24 يوما من اعتقالها عبر المُبادلة التي أجرتها إحدى فصائل الجيش الحر.
عصافير الدوري: سنتان في المعتقلات ([17])
اسمي محمد منير الفقير، ولدت لعائلة دمشقية في دمشق عام 1979، وحصلت على شهادة هندسة معلوماتية من جامعة دمشق. ابتدأت علاقتي مع الجمعية السورية لحقوق الإنسان في 2004،حيث كنت أساعد في الدعم التقني وفي رصد الأخبار.
اعتُقلت للمرة الأولى في 16 آذار 2011، من اعتصام أمام القصر العدلي، عن طريق ضابط الأمن الذي كان متواجد في المكان مع عناصره، والذي أخذني إلى محل تجاري مجاور، حيث كانوا يُودعون كل المعتقلين في المحلات المجاورة، ومن هناك اقتادني إلى الفرع.
خرجتُ بعد شهر تماماً، لأتابع نشاطاتي بهمة أعلى. الاعتقال الثاني كان على الحدود السورية اللبنانية، في 2/3/2012، حيث كنت متوجهاً إلى بيروت في زيارة عادية. كان سبب الاعتقال هو أن أحد المعتقلين قد ذكر اسمي تحت التعذيب. لم يكونوا على علم بكافة نشاطاتي حقيقةً. أمضيت هذه المرة سنةً وأحد عشر شهراً في سجون النظام. خرجت في 22/1/2014 بوزن 50 كغ بعد أن كان وزني 150 كغ قبل الاعتقال.
مجموع ما قضيته في المعتقلات يُعادل السنتين. في الاعتقال الأول سُجنت في الأمن السياسي ثم حُوّلت إلى أمن الدولة. في الاعتقال الثاني سُجنت في المخابرات العسكرية (فرع 215) ثم نُقلت إلى فرع الإدارة (فرع 291) ثم إلى فرع الإيداع (فرع 216)، بعد ذلك إلى المحكمة الميدانية في القابون ومنها إلى سجن صيدنايا ثم إلى فرع المخابرات الجوية؛ بعدها ساءت حالتي الصحية ونُقلت إلى مشفى المزة العسكري، ولكنهم أعادوني إلى المخابرات الجوية، ثم إلى المشفى العسكري ثانيةً لأسباب صحية ثم إلى المخابرات الجوية مرةً ثالثة، ومنه إلى سجن صيدنايا. أطلق سراحي من صيدنايا في نهاية الأمر. غادرت دمشق بعد أيام إلى الأردن، ومنها إلى تركيا.
في بدايات اعتقالي في صيدنايا، لم يكن السجانون يدققون عندما نُصلي. لاحقاً أصبح الأمر يعتمد على العنصر المسؤول. في صيدنايا كانت الصلاة جريمة قد تُؤدي إلى الموت. كنا نصلي أحياناً بالهمس، جالسين كالعجائز دون أي حركات أو إشارات. الصيام كان مسموحاً في الأفرع بشكل عام وممنوع في صيدنايا بالطبع. ولكننا كنا نصوم، أي أننا نصوم دون أن نخبر أحداً أو نظهر صيامنا. هناك تشعر كأنك تمسك كأس الذل وتتجرعها حقيقةً لا مجازاً. أذكر أحد معتقلي الثورة الذي تحول إلى رئيس للمهجع. نجح الذل في تحويله إلى عميل للنظام يعيش بيننا. كان الشاب يأكل أكثر منا؛ ويلبس ملابس رثة، في حين أننا كنا جميعاً عراة إلا من «السليب». كان الشاب يتعرض للتعنيف والضرب، بالطبع، لكن بدرجة أقل مما نتعرض له نحن. كان هذا الشاب يذلنا داخل المهجع بدرجة لا تقل عن ذل السجان أيضاً، كان بيننا مُعتقلون من الدفاع الوطني والمخابرات الجوية، عُوقبوا لأسباب مختلفة. كان هؤلاء يعذبوننا ويذلوننا باستمرار. ينامون بيننا في أفضل الأماكن، في حين أن معظمنا ينام واقفاً بالتناوب بسبب زحمة المكان؛ ويأكلون وجبات حقيقة كاملة, ويتناقشون ويتكلمون ويمرحون بيننا, ويتحممون كل يوم بالصابون، في حين أننا لا نحصل على ربع صابونة واحدة إلا كل شهر أو شهرين . وعندهم أدوية في حين أننا لم نجرؤ يوماً على طلب خافض حرارة. كان رئيس المهجع يقف معهم حين نُعاقب، ويدلهم على من خالف أبسط التعليمات بيننا. كان يُجبرنا على أن «نفلّي» ثيابه من القمل، و أن نغسلها وننشرها. أحيانا كانوا يأتون برئيس مهجع ممن كان تاجر سلاح، كان السجّانون يهددون المعتقلين به. كانوا ينقلونه من مهجع إلى آخر ليتسلم رئاسته كعقوبة. كان يستيقظ ليلاً ليجبرنا على الزحف عُراة على الأرض، وعلى شطف المهجع.
من أساليب التعذيب كان إجبار المعتقلين على الكلام بشكل مسيء عن أهاليهم، وعلى الركوع على أربع وإصدار أصوات حيوانية، كالكلاب والقطط. تشعر أنك مغمّس في الذل أمام كل هؤلاء المعتقلين بعد هذه العقوبات.
كان السجان يُعاقب أحد السجناء بأن يضعه في وسط القاعة، ثم يطلب من كل سجين أن يصفعه بقوة. السجين الذي يتردد أو يرفض يُعاقب بشدة أكبر. من هنا تنمو الأحقاد داخل السجن بين المسجونين أنفسهم.
أيضاً كانوا دائماً يسعون إلى زعزعة ثقتك بأقرب الناس إليك. فلان اعترف على أفعالك، وفلان حكى عليك، وهكذا.. كانوا يجلبون المعتقلين ليواجهوا معتقلين آخرين. هكذا تجد نفسك فجأة في مواجهة أحد أصدقائك بعد حفلة تعذيب.
أذكر مرة أن بعض الأصدقاء نجحوا في إقناع رئيس المهجع وشبيحته بإعطائي رغيف كامل من الخبز في المخابرات الجوية. أعطيت بعض القطع الصغيرة لبعض معارفي، ثم لآخرين كادوا أن يبكوا وهم يطلبون قطعة. بعد فترة وجدت أن نصف الرغيف قد طار. فزعتُ وما زالت الأعين تراقبني والعشرات يستجدون. فجأة شعرت بضيق شديد و بأسى غير محدود، ورميت الرغيف لهم على الأرض يائساً. هجموا عليه و تقاسموه بشراهة وسعادة. عندما رأى مساعد رئيس المهجع ذلك، عاقب من حصل على قطع الخبز وضربهم ثم ضربني بشدة.
في سجن صيدنايا كانت عصافير الدوري تدخل مبنى السجن، وتأكل بقايا الخبز والطعام المتناثر في باحاته. نحن أيضاً كنا نفعل ما تفعله هذه العصافير, كنا نجمع بقايا الخبز المتناثر والطعام من على الأرض ونأكلها بنهم. كان لنا وجبة طعام صغيرة واحدة يومياً، وأحياناً كنا نُعاقب فلا نحصل عليها؛ كنا جوعى طيلة اليوم. حتى أننا كنا نأكل قشور البيض ، و«نمصمص» العظم إن وجد ونأكله، وكل ما يبقى على الأرض من أوساخ الطعام نلتهمه بنهم.
تتضارب مشاعرنا تجاه عصافير الدوري. عندما تكون جائعاً جداً جداً جداً، وتسمع صوت العصفور، تتمنى لو أنه يدخل المهجع كي تقبض عليه وتأكل لحمه حياً.ولكن أيضاً ينتابك شعور ممتعض بأن هذا العصفور هو صديقك الوحيد في هذا العالم.
تطير عصافير الدوري عندما يقترب السجْان، لتخبرنا بأن نستعد، حتى قبل أن نسمع صوت «البسطار».
ما زلتُ أنام مكبّل اليدين والقدمين ([18])
حازم الحسين
عامان وأنا أنام مكبل اليدين والقدمين، يحرسني أحدهم خلف الأبواب، يتلصص النظر بين حينٍ وآخر من ثقبٍ لا يتجاوز قطره بؤبؤَ العين.
فوهة المسدس الحلزونية، وصديقي حسان الذي كان ينتظر محبوبته في زاوية الحي، آخر مشهدٍ التقطته عيني قبل استسلامي دون مقاومة لأربعة مقنّعين مسلحين. لليوم السابع على التوالي، رُبِطت قدماي بأربعة سلاسل حديدية بطول ٣٠ سم مثبتة على الحائط، وأربعةِ أقفالٍ حديدية، ويداي بكلبشات، وثلاث بطانيات، ومصحف، وصندوق لانتخابات مجلس المحافظة مليءٍ بالماء، إضافةً إلى علبةٍ فارغة للتبول فيها. ممنوعٌ علي كل شيء، وجبة طعامٍ يومية فقط، كانت غالباً علبة حمص ورغيف خبز وبعض التمر. يُسمحُ لي بالذهاب إلى الحمام مرةً واحدة يومياً.
بعدها نقلت معصوب العينين إلى غرفةً بطول ثمانية أمتار وعرض أربعة، يتوسطها لوحة تحكمٍ الكترونية لمضخة نفط بئر «العكيرشي»، وممرٌ بمسافة متر يحيطها، وأنا مثبتٌ على أحد كابلات التوتر العالي. انتابني شعورٌ بالفرح قليلاً، مكانٌ جديد ومعالم جديدة غير الجدران الأربعة، إضافةً إلى شبّاك في أعلى الغرفة أرى منه نور الشمس.
أجلسُ أكثر من عشرين ساعةً أراقبُ ما حولي، لا أتكلم، لا أتحرك، لا أفعل شيئاً، ليس هناك شيءٌ أكثر من أن أحاول تحريك فكيّ بين الحين والآخر، أو أسمعَ أزيز الهدوء، أو عويلَ ومناجاة المعتقلين في حلقات التعذيب التي تأتي أصواتها من بعيد. لم أعد أشعر بشيء إطلاقاً، أنتظر اللاشيء. أتقلب يميناً ويساراً بحركة محدودة لا تشمل القدمين في عدة محاولاتٍ بائسةٍ للنوم في ساعات الفجر المتأخرة، لا أكادُ أغفو قليلاً حتى استيقظَ على دغدغة فأرٍ دَخَلَ تحت ثيابي وتجوَّلَ في صدري، ليخرجَ بسرعةٍ من عنقي مروراً على وجهي، كنت أرتعش قرفاً في بداية الأمر، ثم أصبح الأمر مسلياً عندي، حتى أنني كنتُ أحياناً أنتظر قدومه!
كان التحقيق يدور في كل شيء حول القضية الأساسية، لكن المحقق لا يتطرق إلى ما يريد، يتركُ السجين يسترسل في كلامه، حتى يصطاده بكلمةٍ عاثرة لا يعرفها المحقق، ليبحث عن تُهَمٍ جديدة ومعلوماتٍ يجهلها عن السجين، أو عن فريسةٍ أخرى. كنتُ حذراً جداً، أنتظرُ اللكمةَ على وجهي قبل الإجابة على شيء. عَجِزَ أبو لقمان وحاشيته عن اصطيادِ شيءٍ مني، حتى من حسابي الفيس بوك والسكايب، بعد تأميني للحسابات في وقتٍ سابق، حيث أنها تُغلَق لمجرد تغيير الموقع، ولا يمكن استردادها إلا من الموقع المحدد الذي هو منزلي.
آخر يوم لي عندهم، استيقظتُ في الثانية بعد منتصف الليل على أصوات أقفال الأبواب التي فُتِحَت، أبو حمزة السجّان: «أمشي على التحقيق»!
دخلت بهدوء، أجلسوني، وبدأ أبو لقمان قائلاً: «راح نطالعك، بعد ما توقع على هالورقة»، وأمر بإزالة العصبة عن عيني، وبدأتُ اقرأ:
لا أتفوه بحرفٍ واحد عن مكان اعتقالي، ولا عن الجهة التي اعتقلتني.
لا أتصل بذوي أيٍّ من المعتقلين.
لا أستقبلُ في منزلي أيّ أحد.
وأيّ إخلالٍ بأحد هذه الشروط، سيُباحُ دمي.
بعد خروجي علمت من أخي عن مفاوضات بين أهلي وعناصر الدولة على فدية قدرها مئتي ألف ليرة سورية قبل قطع عنقي… عامان بعدها، وما زلتُ أنام مكبّل اليدين والقدمين دون قيودٍ أو سلاسل حديدية، ما زالت عيون السجّان تراقبني بين الحين والآخر، القلقُ والأرقُ والليل الطويل، الوحدة، وفأرٌ تسلّل بين ضلوعي وهَنِئَ بنومٍ عميقٍ يخنقني. أنا لستُ بخير، ولم أغادر زنزانتي منذ غادرتُ مدينتي وتركتُ أهلها.
([1]) يمنى الدمشقي، معتقلة سابقة تروي قصص معتقلات أعدمن في سجون الأسد، عربي21، 22/3/2015.
([2]) شام المصري، السجن حياة موازية، شبكة المرأة السورية، 6/12/2915
([3]) لونا وطفة، في غياهب العدم هنا هن: الحرية ليست مطلبي، أبعاد للإعلام، نشرت على موقع شبكة المرأة السورية، 29/10/2015
([4]) لمى راجح، سمحوا لي برؤية ابني لمدة ثلاث دقائق قبل إعدامه ميدانياً في سجن صيدنايا، موقع أنا قصة إنسان، 23/11/2015
[5]) محمد عامر، الهتك، عنب بلدي، العدد 149، 28/12/2014
http://www.enabbaladi.org/archives/24331
[6]) لمى ديراني، هناك حيث يموتون بصمت، عنب بلدي، 29/9/2013
http://www.enabbaladi.org/archives/12634
[7] طفل سوري يروي قصة تعذيبه في سجون مخابرات النظام، موقع العربية نت، 7/10/2013.
[8]) شبكة المراة السورية، منصة نساء شوريا، عابرون في سبيل عابر، 22/12/2015
[9] شبكة المرأة السورية، منصة نساء سوريا، لن أصدق أنه رحل حتى أرى جثته، 19/12/2015
[10] موقع نيروز، شهادات معتقلين تروي قصة “تابوت الموت” الموجود في “سجن أبو غريب” في كوباني، 14/3/2014
[11] يمنى الدمشقي، معتقل خارج من سجون «جيش الإسلام» في غوطة دمشق يروي تفاصيل خاصة عن التهم التي ألحقت به، القدس العربي،30/11/2015
http://www.alquds.co.uk/?p=443372
[12] العربية نت، معتقل هارب من داعش: الجيش الحر أنقذني من كابوس، 19/12/2014
[13])) تم إجراء مقابلة مع المعتقل في تاريخ
[14])) تم إجراء مقابلة معه في تاريخ
[15])) الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الاغتصاب في أفرع الأمن السورية، توثيق اغتصاب سبعة نساء في فرع أمن الدولة بمدنية حماة (العار المستدام)، 2015
[16])) الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الاغتصاب في أفرع الأمن السورية، توثيق اغتصاب سبعة نساء في فرع أمن الدولة بمدنية حماة (العار المستدام)، 2015
[17])) عدي الزعبي، عصافير الدوري: سنتان في المعتقلات، موقع الجمهورية، 11/11/2015
[18])) حازم الحسين، ما زلت أنا مكبل اليدين والقدمين، موقع الجمهورية، 22/10/2015
الفصل الثالث من كتاب “سوريا وطن لا سجن”