مظاهر العنف الذي يمارس على النساء قديمة قِدَمَ الملكية الخاصة للأرض ووسائل الإنتاج، والتقسيم الجنسي للعمل، وأساطير الخلق والرؤى الكونية المؤسسة للعقائد الدينية، التي وضعت النساء في قاع الهرم الاجتماعي، مع الأطفال والعبيد، ومع الحيوانات أيضًا. لذلك؛ نفترض أن هذه المظاهر الناتجة من عملية/ عمليات التشكل أو التبنين الاجتماعي التاريخية، وعمليات التشكيل القسرية، ترجع إلى ثلاثة مصادر أساسية: أولها الاغتراب(Alienation)، بصفته علَّة التديُّن (التقديس والتأليه)، على نحو ما بسطه لودفيغ فويرباخ[1]، من جهة، وعلَّة الملكية الخاصة، على نحو ما بسطه كارل ماركس[2] من جهة ثانية، وعلة التعصب والعنف الناجمين عن التنكر لإنسانية المرأة، وإنسانية الآخر المختلف، وجدارتهما واستحقاقهما حرياتٍ متساويةً، وحقوقًا متساوية. والثاني هو تقسيم العمل الاجتماعي، على نحو ما بسطه إميل دركهايم، ولا سيما التقسيم الجنسي للعمل. والثالث هو قواعد تشكل السلطة، وآليات عملها، وأشكال ممارستها، بصفتها قيدًا على الحرية، ما لم تكن سلطة القانون العام، بصفته “حرية موضوعية”، بحسب هيغل. فالعادات والتقاليد والأعراف والعقائد والعصبيات، وأوهام المركزية الذكورية، وأشكال الاستعباد والظلم والقهر.. تأتي كلها من هذه المصادر.
لعل أول أشكال الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج كان تملك الأرض والأدوات، وكان حصرًا على الرجال دون النساء، وكان الدين تبريره الرئيس؛ ما يشير إلى التضامن التاريخي بين الدين والملكية الخاصة، على نحو ما نرى في الشرائع الدينية والأعراف الاجتماعية والقوانين الوضعية المحوَّلة عنها، ويشير -في الوقت نفسه- إلى حرمان النساء من التملك، أي حرمانهن من الحرية والاستقلال الكياني، لأن الإرادة لا تكون حرة (بل لا تكون سوى إمكان) إلا إذا تعيَّنت في فعل التملك، والتصرف في ما تملكه، والندية في التعاقد وسائر المعاملات والمبادلات. ولا يزال التملك ذا طابع ذكوري غالب إلى يومنا. ومن المسلم به أن تقسيم العمل الاجتماعي نتج نتوجًا ضروريًا من الملكية الخاصة للأرض، ثم لوسائل الإنتاج الأخرى، بعد أن اندرجت ملكية الأرض في النظام الرأسمالي، وتحولت إلى سلعة، زلزلت علاقة الكائن بالمكان والزمان. فلا نحسب العنف إلا ناتجًا من التنكر لإنسانية المرأة وحرمانها من التملك، أي من حرية الإرادة والاستقلال الكياني.
ولم يكن ممكنًا حرمان النساء من التملك إلا بالقسر والإكراه، وتخفيض مكانتهن، وتقليص خصائصهن الإنسانية إلى الحد الأدنى الكافي لكرامة الأم وحصانة الزوجة وعفة البنت والأخت، وعدّهن، تبعًا لذلك، ناقصات (ناقصات عقل ودين تبعًا لنقصهن البيولوجي) وضعيفات وعاجزات، محتاجات إلى الحماية والصون، على نحو ما تحمى الملكية الخاصة وتصان، مقابل تبعيتهن وخضوعهن وامتثالهن لسلطة الرجال. ولما كانت الملكية أساسًا لمكانة الرجل صار تملك جسد المرأة وروحها وذاكرتها ومقدراتها أساسًا لشرفه. والشرف الرفيع لا يسلم من الأذى حتى تراق على جوانبه الدماء. لذلك؛ نعتقد بأن إقرار حق المرأة في التملك وحرية التصرف بما تملكه، بما في ذلك حقها في ثررة الأسرة، في أثناء الزواج وبعده، وتحصين هذا الحق بالقوانين المدنية، من شأنه أن يغير من وضع المرأة في المجتمع، ويحد من العنف الذي يمكن أن يقع عليها. وهذا أحد المداخل إلى تمدين العلاقات الاجتماعية.
وإذ تعتد بعض الباحثات النسويات بألوهة بعض النساء، ندعي أن أفعال التقديس والتدنيس والتأليه والشيطنة أفعال ذكورية بامتياز، والعقائد التوحيدية وأساطيرها المؤسسة كلها ذكورية بامتياز. لا تغير من هذه الحقيقة بعض مظاهر تكريم المرأة أو تقديسها، التي يقابلها تدنيس الجنس، وتأثيمه وتحريمه، خارج نطاق الملكية الخاصة، وإلقاء جميع تبعاته على المرأة. يتضح لنا أن مؤسسة “العائلة” الطبيعية هي أولى مؤسسات الملكية الخاصة، التي وسمت الزواج بميسمها. ولا فكاك من شباكها إلا بالتربية الجنسية الحديثة، وإباحة العلاقات الجنسية بين الراشدات والراشدين، (بشرط التكافؤ والندية وحرية الإرادة)، والزواج المدني، وأولوية الأسرة النووية على العائلة الممتدة، واستقلالها. ولا يتأتى ذلك إلا بشبكات ومؤسسات فعالة للحماية القانونية والاجتماعية، والحيلولة دون تتجير الجنس وتعهيره.
لا تظهر آثار الملكية الخاصة وتسويغاتها الدينية والعرفية والقانونية، وآثار التقسيم الجنسي للعمل، إلا في العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الأفراد إناثًا وذكورًا، نساء ورجالًا، وفي المعاملات والمبادلات، كما في عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج، وما يبطنها جميعًا من أفكار وتصورات ومبادئ وقيم، تتجلى كلها في الأطر الاجتماعية للمعرفة والثقافة والعمل والمؤسسات، التقليدية منها والحديثة.
فإن كون العلاقات الاجتماعية مجنوسة أساسًا، لأن أول علاقة طبيعية تمأسست هي علاقة المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة، هو ما جعل القيم الاجتماعية تنصب على هذه العلاقة، تقييدًا وتحريمًا وتأثيمًا، في الجماعات والمجتمعات المختلفة والثقافات المختلفة. لذلك؛ تعد أنسنة هذه العلاقة وتضمينها قيمًا جمالية وأخلاقية، تنأى بها عن أصلها الطبيعي (الحيواني) من أهم معايير التمدن والتقدم.
العلاقات الاجتماعية في أي مجتمع لا تنفصل، لا عن بواعثها ودوافعها، الواعية وغير الواعية، ولا عن نماذج التفكير والإدراك والتمثل والتقدير والعمل، التي تبطنها، ولا عن غاياتها، ولا عن بيئتها، بالمعنى الواسع للبيئة أو منظومة “المنظومات الإيكولوجية”. فهي مصدر جميع القيم، التي لا تظهر على حقيقتها، ولا تنمو وتتطور إلا من خلال التبادل والتعامل. وهي التي تحمل جينات السلطة، إذا جاز التعبير، بصفتها علاقات قوة، بحسب تعبير ميشيل فوكو؛ إذ كل علاقة بين شخصين (الشخص أنثى وذكر) هي علاقة قوة، على اختلاف معاني القوة، بدءًا بقوة الشخصية، وقدرتها على التأثر والتأثير، إلى قوة المعرفة أو سلطة المعرفة، وقوة المال وقوة الجاه وغيرها من أشكال القوة، وصولًا إلى القوة العارية. لذلك؛ كان تفكيك البنى البطركية والرؤى الكونية التي تسندها شرطًا لازمًا لنشوء علاقات أفقية وشبكية قائمة على المساواة والندية بين النساء والرجال، وشرطًا لازمًا للحد من العنف؛ لأن السلطة التي تنتج من العلاقات البطركية العمودية، وتحرس قيمها، لا تستطيع فرض سيطرتها إلا بالقسر والإكراه والعنف المادي والرمزي.
وإذ أشرنا إلى البواعث اللاواعية للعلاقات الاجتماعية، التي يمكن أن تتسرَّب إلى ساحة الوعي، في أوضاع معينة، فتسمم الحياة الإنسانية، نشير -بوجه خاص- إلى الجنس الطبيعي أو الغريزي والنزعة العدوانية والقطيعية والنرجسية، أو التمركز على الذات (egocentric)، التي تتجلى في الاعتداء الجنسي والاغتصاب (ومنه اغتصاب الزوجات)، والسَّادية، كالتعذيب والقتل والتمثيل بجثث القتلى، كما تتجلى في التعصب العرقي والاثني والقومي والعنصرية والنزعات الاستعمارية والإمبريالية، وفي الجماهيرية، التي وسمت الأنظمة التوتاليتارية والتسلطية والحركات الشعبوية والأحزاب العقائدية. فإن من شأن الاندفاعات الغريزية، خاصة في أوقات النزاعات والحروب أن تبدِّد رأس المال الاجتماعي، وتفكِّك الروابط الإنسانية والاجتماعية، وتفضي إلى انحطاط أخلاقي مريع، كما هي حالنا اليوم.
يتفق معظم الباحثين، في هذا المجال، على أن العلاقات والبنى البطركية والبطركية المحدثة وعقائدها الدينية لا تزال تسيطر على الفضاء العام، وتقتسمه، على نحو يبدد عموميته، ويقيم الحواجز بين أفراده وفئاته المختلفة، تسندها في ذلك ثقافة وقيم بطركية ونماذج من التفكير والإدراك والتمثل والتقدير والعمل، تعيد إنتاجها، من خلال النظام التربوي – التعليمي، ومؤسسات التلقين الأيديولوجي، والممارسة الاجتماعية، والتنشئة السياسية. هذه العلاقات والبنى والنماذج هي العقبات الرئيسة، التي تحول دون تمكن المرأة من التمتع بالحريات والحقوق، التي أقرتها الدساتير المتعاقبة، والتي تحول، من ثم، دون مشاركتها في الشأن العام. وهي التي تحدد مكانة المرأة في المجتمع، كما تحدد تصور المرأة لنفسها وتصورها للرجل، على نحو يجعلها -هي نفسها- تضع العقبات في طريق حريتها.
وليس خافيًا أن هذه العلاقات والبنى والنماذج تقوم على الهيمنة الذكورية، وتبعية النساء للرجال، وفقًا للوظائف التي أناطها المجتمع بهن والأعباء التي ألقاها على عواتقهن، على اختلاف ملحوظ بين الأرياف والحواضر والمدن. كما تقوم على ادعاء التجانس، والنفور من الاختلاف، وتذويب الأفراد، نساء ورجالًا، وذوبانهم في سديم العائلة الممتدة والعشيرة والطائفة والجماعة الإثنية – اللغوية (والحزب العقائدي أيضًا) وهدر إنسانيتهم، أو عدم الاعتراف بها، إلا بقدر انضباطهم الاجتماعي والثقافي والأيديولوجي و”الأخلاقي” انضباطًا كليًا، أو قبولهم غير المشروط بالعادات والتقاليد والأعراف والعقائد، وامتثالهم للسلطات الشخصية المستبدة، المادية والمعنوية، التي تنتج منها.
غير أن العلاقات والبنى البطركية والعقائد الدينية أيضًا ليست عقبات في ذاتها، بل في كونها القواعد المادية والأخلاقية لتشكل السلطة الذكورية والهيمنة الذكورية، فهي حينما تكف عن كونها كذلك تكف عن كونها علاقات عصبوية وبنى عصبوية أو هووية، وتتفسخ من تلقاء ذاتها، بحكم تعمق العلاقات الرأسمالية والثقافة الليبرالية والحريات المدنية، الشخصية والخاصة والعامة، والحقوق المدنية والسياسية، ويكف الانتماء إليها عن كونه انتماء أيديولوجيًا وسياسيًا. وهذا ما دفعنا إلى وصف “المجتمع الأهلي” بأنه يحمل جنين المجتمع المدني، فهذا الأخير لا يتشكل في الفراغ، ولا يتشكل دفعة واحدة، بقدرة قادر أو سحر ساحر. هذا الافتراض يتصل أوثق اتصال بفكرة العلمانية، بما هي انتظام عقلاني للمجتمع، وفقًا لعمليات الإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي، لا هندسة اجتماعية، وفقًا لاستراتيجيات جنسية وفئوية أو طبقية أو حزبية ومصالح خاصة عمياء، انتظام يفضي إلى تشكل فضاء عام، لا ينفي الفضاءات الخاصة ولا يلغيها. فلا أمل في الحد من العنف الذي يمارس على النساء أو استئصاله إلا بتفكيك البنى البطركية، وبناء العلاقات الاجتماعية على مبادئ المساواة والحرية والعدالة.
[1] – لودفيغ فويرباخ، أصل الدين، دراسة وترجمة، أحمد عبد الحليم عطية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1991، ص 42 وما بعدها. (بتصرف)
[2] – كارل ماركس، المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، بلا تاريخ، ص 40 وما بعدها.