منار تيزيني*
حالة الغليان والحروب التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط تُعرّض الناس يوميّاً لأحداث صادمة تتّسم بالعنف والدمويّة، بشكل مباشر أو غير مباشر، ما يضعهم في مواجهة الكثير من المشكلات والاضطرابات النفسيّة والجسديّة، التي تظهر كردّ فعل على تلك الأحداث.
ويحتل السوريون اليوم المرتبة الأولى في مواجهة أحداث كهذه بشكل يوميّ، سواء في الداخل أو خلال رحلات لجوئهم إلى الخارج. وأكثر الاضطرابات شيوعاً في يومنا هذا هو العُصاب الصدْميّ، الذي اكتسب صورة جماعيّة أكثر منها فرديّة؛ فهو اضطراب عصبيّ وظيفيّ غير مصحوب بتغير بنيويّ في الجهاز العصبي. وهو أحد أنواع الخوف الذي يعقب الصدمة، يؤدي إلى اضطراب في الشخصية وفي توازنها النفسيّ عموماً. كما أنه يأخذ أشكالاً عديدة للتعبير عن نفسه. فقد يظهر في صورة انفعالية وحادّة، أو بصيغة الشعور بحالة التأهب الدائم خوفاً من وقوع حدث ما. كما يظهر من خلال الكوابيس والأحلام المزعجة والأرق والقلق والوساوس.
العصاب المذكور، الصدْمي، يظهر مصحوباً بأعراض جسديّة لا سبب فيزيولوجيّاً لها، كالشعور بألم في المعدة أو صداع في الرأس، أو حدوث شلل وتيبّس في أحد أجزاء الجسم. وإذا ما تناولنا الواقع السوري، على وجه الخصوص، فإننا نلاحظ أن جميع السوريين قد تعرّضوا، بدرجة أو بأخرى، إلى نوع من الصدمات النفسيّة التي قد تكون مباشرة، عبر مواجهة الشخص ذاته لحدث صادم، أو غير مباشرة من خلال ما تعرضه وسائل الإعلام المختلفة من مشاهد للقتل بأشكاله المتعدّدة، مع العنف والدمويّة، اللذين أصبحا في متناول الجميع.
الفئة العمريّة الأكثر تضرراً وتأثراً في مثل هذه الحالات هي فئة الأطفال. فالطفل لا يملك القدرات الكافية لاستيعاب الخبرات الصادمة التي تواجهه، وغير قادر على التعبير عنها إلا بما يتناسب مع قدراته المحدودة. وبالتالي فهو معرّض للإصابة بالكثير من الاضطرابات النفسيّة والمشكلات السلوكية. إضافة إلى أن الطفل يختزن تلك الخبرات والذكريات والمشاهد الصادمة في اللاشعور، لتظهر في أيّ وقت مستقبلاً وبصورة قد تؤذيه وتؤذي من حوله؛ فيصبح والحال كذلك، أكثر عدوانيّة وعدائيّة، أو منعزلاً عن المجتمع يبحث عن بدائل أخرى غير سويّة.
أما الكبار فلديهم القدرة على تفهّم الحدث الصادم وإعطائه معنى ما. بيد أن هذا لا يعني بالضرورة أن المعنى المذكور يكتسب معنى إيجابيّاً دائماً. فتتالي الصدمات والضغوطات النفسيّة وغياب مساحات ملائمة للتعبير عنها، تجعل الشخص في حالة من الغضب والانفعال، بل وكذلك عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسيّة والسلوكيّة. فحالات الإدمان والتطرف والانتحار والاستغلال الجنسي وغيرها، ما هي إلا تعبير عن تشوّه نفسيّ نتيجة لصدمات نفسيّة متتالية، وفقدان القدرة على تخطّي المشكلات التي يواجهها يوميّاً في حياته، والبحث عن بدائل غير سوية. ومن هنا نلاحظ الضرورة الملحّة لمواجهة جماعيّة لتلك الحالات. فالحديث فقط عن علاج فرديّ في واقع عربي لم يصل بعد إلى اعتبار الرعاية النفسيّة، لا تقلّ أهمية عن أيّ نوع آخر من الرعاية أمر صعب وغير واقعي، وبالتالي فالعلاج الجماعي يأخذ دوراً مهماً وفاعلاً ويستهدف أعداداً أكبر من البشر، كالعلاج بالفن وبشكل خاص (السيكودراما)، وهي نوع من أنواع العلاج النفسيّ بالمسرح الذي يتّخذ فيه التمثيل وسيلة لمساعدة الأشخاص على تفريغ مشاعرهم وانفعالاتهم المرتبطة بأحداث صادمة في حياتهم. وهنا تحضرني تجربة مهمة وشجاعة لمجموعة من النساء السوريات في بيروت، عندما وقفن على المسرح، (مسرح المدينة) في السادس عشر من كانون الأول عام ألفين وأربعة عشر، ولأوّل مرّة في حياتهن، وقدّمن عرضاً مسرحيّاً مستوحىً من المسرحيّة التراجيدية “أنتيغون”، للكاتب الإغريقيّ “سوفوكليس” التي تعالج مسألة التمرّد على نظام الحكم المستبد. وأنتيغون امرأة وقفت في وجه الملك وأحكامه الجائرة، ورفضت طاعته والخضوع لمشيئته. تطرح هذه المسرحيّة قضيّة من أهمّ القضايا في تاريخ الإنسان ألا وهي: أين ينتهي حقّ الحاكم، ومن أين يبدأ حقّ الشعب؟ وهنا الحاكم ليس فقط (حاكم الدولة)، وإنما حكم المجتمع ككل وسلطته الذكورية. أُسقطت أحداث المسرحية على الواقع السوريّ، وخاصة واقع النساء في مواجهة شجاعة لكلّ أشكال الاضطهاد والحرمان والتهميش، على المستويات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، التي تعرّضت، ومازالت تتعرّض له المرأة السورية. يسعى العرض إلى تغيير صورة المرأة السوريّة النمطيّة البسيطة، وجعلهن جميعاً أنتيغونات هذا العصر. العرض كان على المستوى النفسيّ نوعاً من أنواع العلاج النفسيّ بالفن، فمواجهة المخاوف والصدمات التي تعرّضت لها تلك النساء على المسرح أمام حشد من الجمهور، كان تحدياً كبيراً لهن، أخرجهن من مرحلة الإنكار (إنكار الصدمة) إلى مرحلة المواجهة، وهو أمر في غاية الأهمية عند الحديث عن العُصاب الصدْمي.
وهناك أنواع أخرى للعلاج الجماعي كالعلاج بالموسيقى واللعب عند الأطفال وجلسات الدعم النفسيّ والتوعية الجماعيّة التي تستهدف فئات مختلفة، وتقدّم لهم المساحة الكافية لفهم أنفسهم والتعبير عنها.
الوصول بالأشخاص إلى القدرة على الدعم الذاتي، ودعم من حولهم أمر هام جداً في ظلّ الأحداث غير الاعتياديّة من الحروب والكوارث التي تتعرّض لها أعداد هائلة من البشر .
- أخصائية نفسية
خاص “شبكة المرأة السورية”
One Response
شكراً منار , جهد رائع ان من حيث اسلوب الطرح أو من خلال المحتوى , على ما أظن علينا تسليط الضوء بشكل أكبر على كيفية الوصول إلى مستوى نكون من خلاله قادرين على الدعم الذاتي , واحثك هنا على تسليط مزيد من الضوء على تجارب الشعوب الاخرى في هذا المضمار من أجل تمكين المجتمع السوري للوصول إلى هذا الهدف