ضحى عاشور
يلومني صديق على اهتمامي بالموضوعات النسوية ممازحاً: “لن يفاجئني أنك ستكتبين عن دور النساء في حماية عصافير الدوري من الانقراض!”. حسناً، لا أستطيع أن أتذكر أني قابلت أو قرأت كائناً من كان، كاتباً أو عاملاً، كبيراً أم شاباً… إلا وتحدّث عن شيء ما زال يؤثر فيه من أقوال أو أفعال أمه أو جدته، والمثير في الموضوع أننا كلنا عندما نتأثر بأمهاتنا، لا يحدث ذلك نتيجة صوابية الأفكار ولا بسبب التجربة والحس السليم فحسب، وإنما بفعل ما يمكن تسميته الوجدان، أي الأحاسيس والانفعالات والقناعات الأولية (البكر) التي تولّدت لدينا ونشأنا عليها وساهمت في تكوين ميولنا النفسية وانحيازاتنا الفكرية تجاه مفاهيم الخير والشر والحب والكره والألم واللذة… ما يؤشر على الدور الحيوي الخطير الذي تلعبه النساء في نقل الخبرات والثقافة الاجتماعية، وتوليدهما بالقدر الضيئل المتاح لكل امرأة أن تساهم فيه عبر ترك لمستها الخاصة على عملها المجاني في “التنشئة والتعليم”.
يبدو عمل المرأة في التربية أمراً عفوياً وبديهياً، غير أنه لم يكن كذلك أبداً، ففي أزمان سابقة، كانت النساء غير مسؤولات حتى عن إرضاع أبنائهن، وجرى غالباً الاعتماد على ذوات الكفاءة الصحية، كما كان شائعاً أن يرسل الناس أولادهم إلى الحكماء والمدرسين وأصحاب المهن ليحصلوا على ما يلزمهم من معارف وأخلاقيات وتهذيب. خلاصة القول هنا إن إسناد دور التربية للمرأة جرى بدافع استغلال النساء وتوظيفهن (دون مقابل ولا تأهيل) في عمل هو أساساً من اختصاص المجتمع ونخبه. وفي مجتمعات مثل مجتمعاتنا المتفلّتة من معظم مسؤولياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والصحية، يُترك الناس لمصيرهم غير السعيد قطعاً. وتأتي الحرب التي هي نتيجة الخراب العام وسبباً لتفاقم التطرف والتدمير الفردي والاجتماعي، لتطرح السؤال مرة أخرى: ماذا الذي يمكن إنقاذه؟ ما هي الحلول الإسعافية والعلاجية لظاهرة التطرف بشقيه الديني والمسلح؟
المجتمعات المتقدمة تعوّض النقص في كفاءة التربية الأسرية عبر تفعيل أدوار مؤسساتها الرسمية والمدنية. كما تستفيد معظم الحركات المتطرفة وغيرها من الإمكانات والمعلومات المتاحة بفضل التطور العلمي والتقني لتحسين أدائها وتسخير المعرفة في خدمة أهدافها وتطلعاتها للسيطرة على وعي الناس وإراداتهم، فهناك الدعاة والداعيات والمرشدون والمرشدات والرهبان والراهبات، وهناك مدارس ودورات وإعلام وخدمات تمتد عبر العالم وتتغلغل عبر فجوات تراجع التعليم والفقر وتضاؤل فرص العمل وشتى صنوف الحرمانات. الأمر الذي ينبغي مواجهته دون الاستسلام لمغالطة مفادها أن الحركات الأصولية هي حركات من الماضي المتخلف وبالتالي ستزول وتنقرض تلقائياً. حيث أبدت حركات الماضي هذه قدراً رفيعاً من “الحداثة” بالاعتماد على نتائج الدراسات والبحوث والتقنيات للتأثير على الناس مادياً ومعنوياً. وبذلك استطاعت أن توّظف نساء (ورجالاً) من الشرق والغرب وتحشدهم وتجّيشهم كما في تنظيم “داعش” وغيره. وهذا يقودنا إلى ضرورة مواجهة مغالطة ثانية تتعلق بالمحفوظات الإنشائية المكررة عن اعتدال المرأة ورفضها الغريزي للتطرف والعنف، إلى آخر ما هناك من المسلمات التي تزيد الوضع غموضاً والتباساً. الأمر الذي تخالفه الوقائع، حيث كانت المرأة، ويمكن أن تكون (مثلها مثل الرجل) ضحية التطرف ومشاركة وصانعة له أيضاً، لسبب بسيط يعود لكونها تعيش الواقع نفسه الذي ينتج التطرف ويسوّقه. يكمن الاختلاف في نسبة مشاركة النساء وفي طبيعة أدوراهن التي تتمحور حول العمل المواظب في الظل. رغم أنها أخذت تعلن حضورها عبر “لواء الخنساء” الموجود في الرقة (مثلاً) والذي هو الجناح النسائي من “داعش” المكوّن من نساء سوريات وغير سوريات لهن تراتبية تنظيمية ويمارسن “التربية والتعليم والتقويم” جنباً إلى جنب مع القتال والتعذيب والخطف وسائر أشكال العنف.
تحفل القرارات الدولية بتوصيات ومقترحات وقرارات لمكافحة التطرف جذرياً عبر القضاء على أسبابه أو الحدّ منها، ولا داعي لتكرارها هنا لأن تطبيقها مرتبط بسياسات وتوازنات معقدّة، إن لم نقل مخادعة، فالعالم اليوم لا يتقن سوى لغة العنف والقتل تحت شعار “الحرب على الإرهاب”، ما يستلزم رؤية مختلفة لحل النزاعات أو نزع فتيلها والحيلولة دون تفجرها، هذه الرؤية النسوية، والتي هي رؤية إنسانية موجودة عند البشر من الجنسين لكنها مغيّبة وغير مكتملة، لا تدّعي حلولاً سحرية، إنما تحاول التأكيد على أن رؤية مختلفة للعالم وموجوداته ممكنة. ولعل في طليعة أولوياتها الانتباه ورصد المتغيرات وتقليب النظر في المسلّمات ورؤية الجزئيات في سياق الكل وتجريب بدائل ورعاية ممكنات هشّة وضعيفة، واختبار النظريات بالتفاعل مع واقعها المباشر أو ما يمكن اعتباره إعادة بناء السياسة والاجتماع من الأسفل.. إلخ.
إن تجنب الإنكار والمكابرة عند معاينة ظاهرة التطرف في سوريا ومعرفة حجمها وأساليبها والكشف عن أخطارها هي واحدة من أهم ما يمكن فعله لمعرفة طبيعة المشكلة وصولاً إلى مقاومتها بالاعتماد على النساء أساساً، حيث أن النساء هم أول ضحاياها سواء كنّ ممن ساهموا بالتطرف أو مارسنه على غيرهن، ففي أوقات الصراعات عادة ما تكون المرأة مستباحة جسداً وروحاً وعقلاً أمام وحش التطرف. وتشير الدراسات إلى أن نسبة من النساء في مختلف بقاع العالم يتطرّفن بسبب الوهم بإمكانية النجاة من الاغتصاب المحتمل أو بعد حدوثه خشية تكراره، وبعضهن سعياً وراء بعض الأمان المادي وتوفير حاجات العائلة، بالإضافة إلى الأسباب التقليدية المتعارف عليها للتطرف عند الجنسين. كما أن النساء هنّ الأقرب إلى الأبناء مكانياً ونفسياً ما يمكن أن يصنع فارقاً تراكمياً في حال تسويغ خيارات التطرف أو ترجيح كفة العقل والضمير.
إن كل أم ترسل أولادها (والبنات خاصة) إلى المدرسة أو الجامعة، وتعمل على تجميل وتحسين حياتها وتهدّد بالغضب على أولادها المنساقين إلى عوالم التطرف، تساهم عملياً في تعزيز إمكانية حياة أفضل، وكل امرأة تواظب على زراعة الأرض وتعمل وتضيف إلى خبراتها ومهاراتها شيئاً جديداً هي مثال لما يمكن أن يكون عليه الحل في سوريا المستقبل. وقبل ذلك، فالمرأة التي تحفظ نفسها من الاستسلام للتطرف ضعفاً أو طمعاً بحماية أو مكاسب أو انحيازاً للاستعلاء والتمييز، هي القادرة على نشر وتعميم عمل مدني وتنويري موجود لكنه متناثر ومتقطع ويحتاج إلى تأهيل ومعارف وشجاعة بمواجهة التصورات السائدة والافتراءات وتشويه السمعة والاعتداء المادي والرمزي، مدعومة بصبر ومواظبة وإرادة قادرة على تحويل التذمر والغيظ و(النّق) إلى عمل مدروس وهادف عبر مؤسسات وشبكات يفتقدها معظم السوريين الواقعين بين مطرقة السلطة المتغوّلة وسندان التطرف الديني والمسلح.
لدى النساء فرصة ومسؤولية توليد وجدان فردي وجمعي مضاد للتطرف بكل أشكاله ومفرزاته، وتنقصهن سبل التنظيم وتجميع القوى وتوفير الدعم والإيمان بخطورة وحساسية أدوراهن.
المصدر: مجلة “سيدة سوريا”