شام المصري
حفل الزفاف بعد أربعة أيام، والعروس بمكانة أختٍ صغيرة لي ومن المفروض أن أكون معها ومع عائلتها، التي تعتبرني فرداً منها، أشاركهم تحضيرات الزفاف مهما كانت الظروف. حاولت التهرّب بلا جدوى، لا أعذار مقبولة في مثل تلك الحالات.
جهّزت حقيبتي وغادرت المنزل باتجاه محطة الباص. أخذت التذكرة وجلست في الكرسيّ الأماميّ خلف السائق مباشرة، في مكاني المفضّل دائماً. لأنه يكشف الطريق والأفق أمامي.
منذ مدّة طويلة لم أسافر إلى هناك. انطلقت الحافلة الساعة الثانية والربع ظهراً. بعد ثلاث دقائق من انطلاق الرحلة توقفنا عند أول حاجز لتفييش الركاب. بقينا منتظرين حتى الثالثة تقريباً حتى انتهى التفييش بسلام. ثم انطلقنا، وبعد خمس دقائق توقفنا عند الحاجز الثاني، لكن هذه المرّة لم نتأخر، عشر دقائق فقط وتابعنا. وبعد عشرات الدقائق حاجز ثالث … وهكذا حتى اجتزنا أربعة عشر حاجزاً، قطعنا خلالها مسافة لا تتجاوز 90 كيلو متراً من دمشق إلى السويداء. وصلنا عند الساعة الخامسة مساء.
استقليت سيّارة أجرة إلى منزل العروس, وعند مرورنا بالقرب من ساحة المحافظة دار السائق من حولها حتى بتّ أرى بعض معالمها الممتلئة بالبشر الغاضب.
سألت السائق وانا أعلم الإجابة مسبقاً: لماذا غيّرت الطريق؟ أجاب: جميع الطرق مغلقة بالناس. سألته: لماذا؟ فروى لي قصة ذلك الشاب طالب الهندسة، الذي قتل طعناً بالسكين من قبل ثلّة من الشباب المعروفين بإجرامهم في تلك المحافظة، دون رادع أو قانون يحاسب ويعاقب، وهؤلاء الشباب من الذين يتمّ العفو عنهم وإخلاء سبيلهم بالمراسيم التي تصدر دائماً.
كان التجمهر والاعتصام للمطالبة بإعدام القاتل في الساحة العامة، ومحاسبة شركائه في الجريمة، لكن على ما يبدو، لا صدى لهذا المطلب ولا حتى لمحاكمة عادلة.
أهل المجرم سلّموا ابنهم للأمن خوفاً من ردّة فعل الحشود التي تطالب بدم المغدور, وللأسف لا إجراءات اتّخذت لتهدئة الشارع، ولا حتى أمل بمحاكمة تنصفهم، ما استدعى بقاء الاعتصامات مفتوحة أمام مبنى المحافظة لمدّة خمسة أيام! هكذا استقبلتني المدينة، وكان هذا العرس الأوّل الذي حظيت بمشاهدته.
وأخيراً وصلت إلى وجهتي ومقصدي, رحّب الجميع بقدومي، وكانت جلسةً للأحاديث والأسئلة المعتادة للاطمئنان عن حال الجميع وعن الأحوال والأحداث المستجدّة في كلّ مكان.
أمّا الحدث الأبرز فكان حول ما يجري في السويداء, نعرّج تارة على تحضيرات الزفاف وبشكلٍ لا إراديّ نعود إلى ما يجري في الشارع، لا أحد يستطيع التركيز في موضوع معيّن او فكرة بعينها.
تشتّت في كلّ شيء, والكلّ متوتر. كان هذا حال الجميع، نحقن أنفسنا بالأمل والتفاؤل أحياناً، لكن ما هو إلا تخدير موضعيّ لبعض آلامنا. وما أن ينتهي مفعول المخدر نصحو على واقع لا يوصف, نحاول أن نصنع الفرح بأيّ ثمن.. لكن الحاضر دائماً هو الحزن والخوف من القادم في أيّة لحظة.
عرس هنا وجنازة هناك. اشتباكات وإطلاق أعيرة نارية في مكان آخر. خطفٌ وتهريبٌ وقتل في كلّ مكان.
عملاء الأمن العسكريّ والجويّ والسياسيّ من ضعاف النفوس ومن المجرمين أصحاب السوابق، وممّن استغلّ النظام فقرهم وسوء أحوالهم وحاجتهم الملحّة للمال، جميعهم مجنّدون لصالحه ليعيثوا فساداً وإجراماً بين الناس.
حالة من الفلتان المتعمّد والمخطّط له من قبل القيادات الأمنية، هذا مع زخم التواجد الكبير لمقرّاتهم وأفرعها في المحافظة، الذي ينذر بحرب أهليّة في المحافظة نفسها، بعد أن فشلت كلّ محاولاتهم بإشعال فتيل الصراع مع الجارة درعا حيناً، ومع البدو تارة أخرى. كلّ ذلك على خلفية الاعتصامات التي نشطت منذ مدّة للمطالبة ببعض المستحقّات التي حرمت منها المدينة وسكانها, ولإعادة عدد كبير من الموظفين المفصولين من وظائفهم بسبب رفضهم الالتحاق بالخدمة العسكرية والاحتياط.
باتت اللغة المعمول بها هي المال مقابل أيّ شيء يريدونه. فأبواب المدينة مفتوحة على التهريب بكافة أشكاله وقذاراته، إضافة إلى الخطف والقتل. تهريب السلاح الى المناطق الحدوديّة في المحافظة، أي إلى تنظيم داعش مقابل المحروقات كمادة المازوت والبنزين وكافة انواع المخدّرات، وصولاً إلى مادة السكّر.
تتكرّر الأسئلة؛ من أين يأتي السلاح وباقي المهرّبات بهذه الكميّات الكبيرة مع وجود عشرات الحواجز التابعة للنظام والتفتيش الدقيق للسيّارات؟ تخرج السيّارات محمّلة من الأفرع الأمنية، ويحمل سائقها أو المسؤول عن الحمولة مهمّة أمنيّة يتخطّى بها كلّ تلك الحواجز، وعند وصولهم الى القرى الحدودية يتمّ بيع السلاح بمبالغ خيالية، بدءاً من السلاح الخفيف إلى المتوسط الى الثقيل نوعا ما.
وعند اكتشاف الحمولة من قبل أحد العناصر في بعض الأحيان، يكون الاشتباك بالأسلحة وإطلاق النار وقتل كلّ من يعترض الطريق هو سيد الموقف.
وكم من الأرواح البريئة سفكت دماؤهم بلا ذنب. إضافة إلى حالات الخطف وطلب الفدية، التي تصل إلى الملايين، ثم يكون القتل كي لا تكشف الجهة المختطفة. أساليب مبتدعة لسرقة السيّارات، حالات الثأر من بعضهم، والإخفاء القسريّ. الجثث مجهولة الهوية.
الكلّ يحمل السلاح. لصالح من كلّ هذا الكمّ من التسلّح؟ أسئلة تجد مبرّراتها لدى الجميع، وأهمها الدفاع عن النفس.
و الواضح الآن أنّ السلاح يستعمل في افشال حالة السلم الاهلي والتوازن الذي يحاول العقلاء الإبقاء عليه.
بعد كلّ حادثة يجتمع المشايخ والعقلاء دائماً من كل الاطياف في المحافظة، وتدور حوارات وتطرح حلول لا تطبّق، ولا أحد يلتزم بها، لأنّ المجتمعين بغالبيّتهم هم وكلاء النظام، ومنه يأخذون شرعيّتهم، وخاصةً أن المشايخ هم أزلام السلطة أكثر منهم رجال دين!
تهدأ الامور حيناً، وتعود للاحتدام مرّات ومرّات، ولا حلول جذرية.
انتهى حفل الزفاف، وحفلات أخرى كثيرة، ومن أنواع مختلفة. لكن تبقى الهواجس والأسئلة إلى أين؟ فالطريق كما رسمها النظام باتت واضحة المعالم، ولا يختلف في تفسيرها اثنان… والجميع تحت المقصلة؛ موالٍ ومعارض ورماديّ.
إمّا أن تقبلوا وتنصاعوا للنظام، وإمّا نفتح عليكم أبواب جهنّم وداعش لكم بالمرصاد.
خاص “شبكة المرأة السورية”