شام المصري
في المناطق التي تسمّى آمنة، في مناطق النزوح حيث تقطن آلاف الأسر المهجّرة قسراً، وحيث تنتشر عشرات المراكز للهيئات والمنظمات الدوليّة التي تعمل على تلبية الحدّ الأدنى من حاجاتهم.
هناك في أحد هذه المراكز أعمل في مجال الدعم النفسي… وفي كلّ جلسة حوار يجتمع لدي ما يقارب الخمس عشرة عائلة، الأمّ ، وأحياناً قليلة يحضر الأب، نحاول أن نسترجع أحداث حياتهم اليوميّة، ماهي مأساتهم أو معاناتهم بعد تهجيرهم ونزوحهم إلى أماكن جديدة، وأوساط من خليط بشريّ جديد لم يحتكّوا معه بشكل مباشر هم وأبناؤهم من قبل في مناطقهم التي كانوا يعيشون فيها.
نتبيّن الإيجابيات في حياتهم والسلبيات، وما الجديد لديهم؟ ممّ يخافون، وما الذي تغيّر؟
تأتينا الإجابات من كلّ عائلة بشكل يختلف عن الأخرى, لكنّهم يشتركون بهمّ واحد هو الأبناء، وحالات عدم التأقلم مع الوسط الجديد، أو المسكن الذي غالباً ما يكون منزلاً على الهيكل، يفتقر لأبسط مستلزمات الحياة، أو يكون مشروع دكان أيضاً على الهيكل، وتحوّل بقدرة قادر إلى مسكن تقطنه عائلة أو أكثر.
أمّا نتائج هذا الوضع فتكون؛ إمّا حالات انطواء وانزواء وعدم مخالطة, والعيش في ذكريات الماضي, أو الانطلاق في هذا المجتمع بكلّ ما فيه… قلائل هم الذين حافظوا على قيمهم القديمة، وانتقوا من هذا الجديد ما يناسبهم، وتعايشوا معه.
وكثيرون هم الذين انجرفوا وراء كلّ ما هو جديد، في حين كان ممنوعاً عليهم بالأمس.
أسئلتي المباشرة لهم في كلّ جلسة بعد تجاذب أطراف الحديث تتمحور حول ثلاث نقاط أساسيّة:
- هل لديكم شخص في العائله يتعامل بعنف مع المحيط؟ ما الأسباب والنتائج برأيكم؟ وما الحلول أو الأساليب التي اتبعتموها لدرء تفاقم هذه ا لحاله؟
- هل يوجد أحد في العائلة يعيش حالة العزلة والانطواء والسكوت مطوّلاً تجاه أيّ حدث أو موقف يحصل أمامه؟
- هل أحد أفراد العائلة الشباب ذكراً كان أم أنثى، رفض الواقع الجديد، وكيف تعامل معه؟ وما الأسباب وما هو موقفكم حيال هذا التصرف؟
يبدؤون بالبوح والكلام تدريجيّاً، وأشاركهم الحديث بسلاسة وكأنّي فرد من كلّ عائلة منهم.
معظمهم لديهم كلّ الحالات التي ذكرت، وأكثر الحالات كانت موجودة ومكتسبه من البيئة التي كانوا يعيشون فيها، ومع مرور الوقت ولامبالاة الأهل تطوّرت، وخاصّة بعد التهجير وساءت الأمور أكثر. وحالات أخرى نشأت بسبب ظروف التهجير.
نبدأ النقاش بالحالة الأولى: “العنف لدى الأبناء”… معظم هذه الحالات كانت بين الذكور مقابل نسبة لا تذكر من الإناث في العائلة الواحدة. هؤلاء لجؤوا إلى العنف في تصرفاتهم والعنف المضاد، سواء بالكلام أم بالضرب، وأحياناً هو التسلّط الذكوريّ على الفتيات، حتى وإن كانت الفتاة أكبر سنّاً من هذا الأخ الذكر, حيث يحاول الأخير فرض رأيه بالقوة والصوت العالي، أو مدّ الأيدي بالضرب. حتى الأمّ كونها بمفهومهم أنثى يطالها شيء من هذا القبيل، في وسط تسمح تقاليده وعاداته بهذا التسلّط، وخاصّة في العائلات التي يغيب عنها الأب. هي حالة ناتجة عن غياب الوعي، والوعي الحقوقيّ لواجبات الأسرة وأفرادها تجاه بعضهم، إلى جانب بعض العادات والتقاليد البالية، التي يتوارثها الأهل. أضف إلى ذلك مشاهد العنف التي مرّت عليهم حتى أوصلتهم إلى التهجير لأماكن وبيئات بنظرهم ليست لهم ولا تشبههم في شيء.
والأسباب نفسها أيضاً، نجدها خلف الحالة الثانية، حالة العزلة والانطواء، والخوف من القادم، وانعدام الثقة بالنفس، والمقارنة بين الماضي الهادئ والحاضر الجديد، حيث ظهرت حالات كثيرة بين الأولاد، وحتى بين الآباء الذين عزلوا أنفسهم وأسرهم عن الواقع الجديد, رفضاً منهم للمجهول بالنسبة لهم، وخوفاً على أبنائهم من تقمّص هذا الجديد.
نتحدث معهم كثيراً… نحاول إقناعهم بكسر هذا الحاجز، والولوج في الواقع الجديد، والخروج من عزلتهم التي ليس لنهايتها وقت محدّد.
نحاول إقناعهم بالخروج من الماضي، والإبقاء عليه كذكرى بكل ما فيه.
فقط لنستمرّ بالحياة، علينا الانخراط فيها، ونأخذ ما هو مناسب لنا، ولتطوير ذاتنا، ونبذ ما هو غريب وشاذّ بالنسبة لبيئتنا.
أتفهّم خوفهم، لأنّنا بتنا في مجتمع مفتوح على كلّ الخيارات والاحتمالات.
لا نستطيع فرض الحلول عليهم، لكن نحاول تقريبها من مفاهيمهم!!..
نطرح وجهة نظرنا، ويبقى خيارهم وتجربتهم هي من ستصنع الحلول لديهم.
أمّا في الحالة الثالثة؛ حالة الذين يرفضون الواقع أو العكس تماماً ممّن تماهى مع الوضع الجديد إلى مالا نهاية, فهم في الحالتين ذهبوا للمدى الأقصى؛ إمّا عزلة شبه تامّة والعيش في الماضي، ومقارنة كلّ حدث صغير أو كبير مع ما كان في السابق، ما يجعلهم يعيشون أزمة كبيرة تمنعهم من ممارسة حياتهم بشكل طبيعيّ. وإمّا التماهي كليّاً مع كلّ ما هو جديد، وهذا هو الأخطر، لأنّ أغلب الأبناء إناثاً وذكوراً قد انجرفوا وبشدة وراء ما هو ممنوع ومحرّم، سواء كان ذلك سرّاً أم علانية، فهو بالنسبة للذكور ليس تجربة للجديد فقط، بل انغماس فيه إلى درجة الضياع.
وهنا يفقد الأهل دورهم الأساسيّ في رعاية أبنائهم أو متابعتهم. حيث يبدأ الأولاد بالتسرّب من المدرسة، أو عدم العودة إلى صفوف الدراسة التي كانوا يشغلونها قبل النزوح, فينجرفون إلى الشوارع ورفاق السوء ممّن سبقوهم إلى هذا الضياع، حيث يمارسون تجارة الممنوعات للكسب السريع، أو السرقة السهر وكلّ ما هو متاح في وسطهم الجديد.
لا نستطيع، ولسنا مخوّلين سوى بالنصح والاستماع وهو أضعف الإمكانات. ولا يمكننا تجاوز تلك الخطوط بدون إذن مسبق من الأهل، وأحياناً يجرفنا الحديث، وتجرفنا العاطفة والمسؤولية تجاه كلّ شخص تعرّض لمثل هذه الأزمات، وخصوصاً جيل الشباب والأطفال، فنتورّط ونتعمّق ببعض التفاصيل حتى نصل إلى نتيجة ربّما تغيّر شيئاً من هذا الواقع المؤلم، وأحياناً أخرى تضيع جهودنا سدىً!
خاص “شبكة المرأة السورية”