نبال زيتونة
لم ينتهِ سفر المعاناة بعد، ولم تكتمل فصوله… فمازالت المرأة السوريّة ومنذ أعوام خلت، تخطّ تفاصيله موشّاةً بغبار روحها وقلقها وفقدان الأمان.
هنا في لبنان، وبعيداً عن المخيّم، يدرج الوجع السوريّ في شوارع بيروت وأحيائها حاملاً هويّته السوريّة، يستجدي ملاذاً آمناً بغير ذي عنصريّة!
إنّهنّ فتياتٌ في مقتبل العمر؛ طالباتٌ جامعيّات، محامياتٌ، صحفيّات، مهندسات ومدرّسات، يبحثن عن ظلّ حياة في انتظار مجهولٍ طال انتظاره!
تقول “علا” ذات الأربعين عاماً:”لبنان بلدٌ غريب الأطوار، لا شيء منطقيّاً فيه. مذ جئت إلى هنا قبل ما يقارب السنة ونصف تقريباً، وأنا أبحث عن بيروت، عن عاصمة الثقافة العربيّة، أبحث عن قيمها التي مكّنتها من بلوغ عرش الثقافة ذاك، فلم أجد إلا عجوزاً شمطاء تكره الغرباء، وتستثمر في دم السوريين… الكثير من الأموال تصرف هنا في فنادقها ومطاعمها ومجمّعاتها السياحيّة، باسم ورشات العمل والمؤتمرات، وكلّها تحت عناوين تمكين السوريّات والسوريين، وصناعة السلام. فرص عمل كثيرة توفّرت للبنانيين وازدهرت الأعمال والتجارة والمواصلات والعقارات منذ بدأ السوريّون اللجوء إلى لبنان، في حين ترتفع وتيرة موت السوريين جوعاً وتشريداً وانتحاراً وعنصريّة.
“لقد جئت هاربةً من موتٍ محتّم، جئت طالبةً بعض الأمان. وفي نهاية المطاف نحن عالقات هنا على حدّ السيف، ننزف عمرنا قطرةً قطرة… وكلّ يومٍ يمرّ، ينغرس النصل في أجسادنا أكثر، تلك هي بيروت”.
نعم فالسوريّات يشعرن بالغبن والقهر، إذ لا يجدن سبباً لتلك الممارسات إلا الكراهية. وكثيراً ما يفكّرن بالعودة إمّا إلى زنازين النظام، وإمّا إلى تحت القصف والبراميل. فالموت واحد على كلّ حال.
“سما” ذات الاثنين والثلاثين عاماً، حاصلة على إجازة جامعيّة في الأدب الإنكليزي من جامعة دمشق، أنهت زيارتها لأهلها في سوريا بعد غياب عام ونصف في تركيا، وكانت قد عبرت مطار بيروت ثمّ إلى دمشق برّاً. وفي رحلة العودة إلى اسطنبول أوقفها أمن مطار بيروت بحجّة أنّ اللصاقة على جواز السفر مزوّرة.
تقول سما: “أوقفت هناك من تحقيق إلى تحقيق، ثم اقتادوني إلى الأمن العام في بيروت بعد تجريدي من كلّ أوراقي الرسميّة. أطلقوا سراحي بعد يوم واحد على توقيفي على أن أراجعهم بعد مدّة”.
تتابع سما: “قلت للمحقق (عبرت مطار بيروت قبل خمسة عشر يوماً ولم يكن الجواز مزوّراً، ودخلت سوريا وعدت من سوريا، كيف أصبح مزوّراً فجأة؟). أحسست بالدم يصعد إلى رأسي، خنقني القهر، ولم أستطع ابتلاع لعابي. أربعة أشهر مرّت وأنا أتردّد على الأمن العام، وفي كلّ مرّة أتلو عليهم حكايتي، ثم يضربون لي موعداً أخر. أحسست أنّني وحكايتي صرنا أضحوكة وموضوع تسلية بالنسبة لهم. ويسألون عن ديني ومعتقدي، وإلى أين أذهب، ولماذا أسافر ولماذا أعود؟!.. وكلّ غرفة من غرف الأمن العام هي دولة مستقلّة لا تعرف ماذا يدور في الغرفة الأخرى!
“حدثت المعجزة أخيراً، ولا أعتقد بأنّ جديداً حصل سوى أنّهم ملّوا من قصتي، وتمّ تحويلي للنيابة العامة لأحصل بعد طول معاناة على وثيقة تخوّلني استصدار جواز سفر جديد من السفارة السوريّة في بيروت … كثيرة هي المبالغ والغرامات التي دفعتها هنا وهناك. وأنا اليوم عالقة في لبنان، على حافّة الهاوية في مهبّ الريح، حيث فقدت عملي، ولم يعد بوسعي متابعة طريقي إلى تركيا بسبب فرض التأشيرات على السوريين وبشروط تعجيزيّة، كما لا يمكنني العودة إلى سوريا، حيث أصبحت مطلوبة لأكثر من فرع أمنيّ بتهمة التزوير والتعامل مع الائتلاف السوريّ المعارض!
“في لبنان لا يسمح للسوريّ بالعمل رغم غلاء المعيشة الفاحش.. لكنّي استطعت ان أحظى بعمل كمدرسة لدى منظمة سوريّة بدوام كامل، من الثامنة صباحاً وحتى الرابعة والنصف عصراً. عدا عن المهام التي ترافقني وعليّ إنجازها في البيت براتب لا يكفي حتى للأسبوع الأوّل من الشهر”.
لم تكن “سما” الأولى كما لم تكن الأخيرة، فكثيرات هنّ السوريّات اللواتي كنّ صيداً ثميناً لقوى الأمن العام في لبنان.
“أمل” واحدةٌ من كثيرات عملن في مدارس اللاجئين السوريين في المخيّمات وخارجها. تتقاضى على ساعة التدريس “ستين دقيقة”، ستة دولارات، في حين تتقاضى زميلاتها من اللبنانيّات في المكان نفسه عشرة دولارات!
أمّا فاطمة فيوقفها حاجز للجيش اللبنانيّ لمدّة ساعتين أو أكثر مع مجموعة من زميلاتها، أثناء عودتهن من بيروت إلى البقاع، ولا سبب يستدعي كلّ ذلك إلا لأنّهن محجّبات!..
و”سارة” ذات الثلاثين عاماً، مازالت تنفق أيامها في البحث عن عمل. تقول: “عملت في إحصائيّات لصالح شركة مسحوق غسيل لبضعة أشهر، كما عملت في التعليم لبضعة أشهر أخرى، كلّ ذلك براتب زهيد لا يكفي بدل إيجار الغرفة المتواضعة التي أعيش فيها بشروطٍ مهينة. جميع مقابلات العمل مع اللبنانيين كانت تحرّشاً واضحاً لا لبس فيه، وهناك طلبات مباشرة بإقامة علاقة جنسيّة مقابل الحصول على عمل. حتى أنّه تمّ نشر رقم جوّالي للتعرّف إليّ بحجّة العمل. ثابرت لفترة على حضور ورشات العمل، التي كانت تعطي بدلاً زهيداً، رغم ضآلتها وعدم فائدتها في كثير من الأحيان، لكن بعد مدّة لم نعد نتقاضى ذلك البدل. فالمنظّمات تتسابق هنا في صرف مبالغ طائلة على حجوزات الفنادق وأكداس الطعام والشراب، أمّا العمل الحقيقيّ على الأرض فيكون تطوّعيّاً، حتى أنّهم لا يصرفون بدل الطعام والمواصلات في كثير من الأحيان خلال فترة العمل”.
هذه القوانين سنّتها منظّمات دوليّة عريقة، حيث قالت إحدى السيّدات في منظمة الأمم المتحدة لشؤون المرأة مرّة؛ أنتن سوريات ويجب أن تعملن تطوعاً من أجل السوريات!
“راما” فنّانةٌ تشكيليّة لم تتجاوز الخامسة والعشرين. تخرّجت في كليّة الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وها هي اليوم تنزف أيّامها في محلّ لبيع الألبسة الجاهزة، من الساعة التاسعة صباحاً حتى السادسة مساءً وبمبلغ زهيد.
تقول راما؛ إنّها محظوظةٌ أكثر من غيرها، لأنّها جاءت مع عائلتها، وقدّم لهم أقاربهم بيتاً متواضعاً دون مقابل. تحدّثت راما عن استغلال أرباب العمل، وعنصريّة التعامل معها كسوريّة، وفي أحسن الأحوال كانوا يقولون لها: “مو مبيّن عليكِ سوريّة…”. تلك العبارة التي تفيض عنصريّة وكراهيّة يتداولها اللبنانيّون كثيراً حين يعجبهم شخصٌ سوريّ، أو يحقّق لهم أرباحاً ومبيعات!
“ملك” على أعتاب الثلاثين من عمرها، خرّيجة إعلام في سوريا، وتدرس اليوم “ماجستير إدارة أعمال”. أوقفت تسجيلها في الجامعة بسبب الوضع الماديّ وعدم توفّر العمل. وأكثر ما يرهقها غلاء البيوت.
تقول ملك: “البيوت كثيرة، لكنّ الخيارات قليلة، وخاصّة عندما يعرفون بأنّي سوريّة. كأنّهم يتنفّسون عنصريّة! قال لي أحدهم مرّةً حين سألته عن غرفةٍ للإيجار (تأخّرتِ … البارحة أخذها واحدٌ من هؤلاء السود، لو أخذتِها أنتِ كان أحسن…)”!
تعاني ملك كثيراً إذا حدث وأبدت رأيها فيما يحدث في سوريا، وأظهرت استياءها من ممارسات النظام، وخاصّةً أنّها تنتمي للطائفة العلويّة، حيث فاجأها أحدهم بما لم تتوقّعه؛ “قتلكِ حلال … لو كان معي مسدّس لقتلتكِ …”!
“رنا” في الخامسة والثلاثين من عمرها، وهي خرّيجة معهد علوم سياحيّة، إرشاد وإعلام سياحيّ من دمشق. مازالت تبحث عن عمل منذ خمسة أشهر تقريباً. تقول رنا بأنهم يتعاملون معها بعنصريّة واضحة. فالشركات الكبرى القابضة على معظم الماركات التجارية العالمية ترفض التعاطي معها بمجرد سماعهم لهجتها السورية. ويقولون صراحة لا يشغّلون السوريات بسبب التأمين الصحي وحالة البطالة في لبنان.. أمّا الشركات الخاصة، فهم لا يسألون عن السيرة الذاتية والخبرة العملية، بل يركّزون على الشكل والعمر وإن كانت عازبة أم لا. ودائماً يسألونها عن دينها وطائفتها. أمّا الأجر فبخس ولا يكفي أجور مواصلات بين حيّين من أحياء بيروت.
وإذا كانت الفتاة محظوظة وقُبلت في إحدى المدارس، فإنّها تجد صعوبات في التأقلم بسبب طغيان اللون الواحد على المدرسة، ولا يقع عليها الاختيار إلا إذا توافقت مع هذا اللون من حيث الطائفة والزيّ والمعتقَد.
“إيناس” أيضاً لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها، تخرّجت في جامعة دمشق في قسم اللغة الإنكليزيّة. سمعت الكثير عن معاناة السوريين هنا والاستغلال الذي يتعرّضون له، ناهيك عن التعامل غير اللائق. لهذا توجّهت للعمل مع المنظّمات التي تعمل مع اللاجئين السوريين.
تقول إيناس: “لم يختلف الوضع كثيراً فالاستغلال الماديّ موجود أيّنما توجّهت في لبنان، وظروف العمل صعبة، والراتب لا يكفي، وفي أحيان كثيرة لا يدفعون أجورنا، فنضطرّ إلى تغيير المنظمة … ورغم صعوبات العمل والمهام التي نكلّف بها خارج أوقات الدوام، إلا أنّني أفضّل العمل هنا كوني أعمل مع سوريين، فكلّنا في الهوى سوى، لا عنصريّة ولا استعلاء، أمّا بالنسبة للسكن الذي لا أستطيع تحمّل نفقاته وحدي، فأتشارك مع زميلاتٍ لي في مساكن تنعدم فيها الشروط الصحيّة”.
وكثيراً ما تضطرّ الفتيات السوريّات إلى استئجار سرير في “فوييه“، مقابل مئةٍ وخمسين دولاراً شهريّاً، في المناطق المصنّفة شعبيّة، حيث تنعدم فيها الشروط الصحيّة الضروريّة للحياة. أمّا في المناطق المصنّفة أفضل وبشروط أكثر إنسانيّة، فيصل سعر السرير إلى مئتين وخمسين دولاراً أو أكثر أحياناً، تبعاً لرقيّ المنطقة حسب تصنيفاتهم.
نظام “الفوييه“: هو سكن داخليّ مخصّص إمّا للفتيات وإمّا للذكور. يكون في غالب الأحيان على شكل شقّة سكنيّة هجرها أصحابها بعد أن أصبحت غير صالحة للسكن، وفي كثير من الأحيان تكون في مناطق تمنع فيها البلديّة إصلاح البيت أو إعادة تأهيله. تحتوي الشقّة على ثلاث غرف أو أكثر، وفي كلّ غرفة سريران، وهناك مطبخ مشترك وحمّام واحد للجميع.
تملك صاحبة أو صاحب “الفوييه” مفاتيح لكلّ الغرف، تخوّلهم الدخول إليها متى شاؤوا! شهدت ذلك بأمّ العين حين جلت في بيروت بحثاً عن “فوييه“.
وكثيراً ما تجد الفتاة نفسها أمام استجواب دقيق لمعرفة كلّ تفاصيل حياتها.
يبقى وضع المرأة السوريّة في لبنان هو الأسوأ بين جميع بلدان اللجوء، حيث تلعب العنصريّة دوراً في تردّي الأوضاع عموماً، إضافة إلى الوضع الماديّ المزري والغلاء الفاحش، وعدم الأمان. لكن إلى اليوم لم تسجّل أيّ حالة انتحار بين النساء، مقابل حالات الانتحار التي تحدث بين الشباب من الذكور..
وأخيراً؛ لم تستطع فضائح جرائم الإتجار بالسوريّات، والانتهاكات المجحفة المسجّلة بحقّهن في المخيّمات وخارجها، أن تجذب اهتمام المنظّمات الدوليّة المدافعة عن حقوق المرأة، حيث مازالت تتغاضى عن واقع السوريّات في لبنان مقابل رفاهيّة التمكين السياسيّ، ومؤتمرات صناعة السلام!
خاص “شبكة المرأة السورية”