بعلبك، لبنان – هذا الأسبوع، بينما يحتفي المجتمع الدوليّ باليوم العالميّ للاجئين، تدخل الأزمة السوريّة عامها السادس. وفي ظلّ هذه الأزمة، يلجأ نحو 5 ملايين سوريّ إلى مناطق مختلفة من الشرق الأوسط فيما يستمرّ آخرون، بمن فيهم أطفال سوريّون كثيرون، في المجازفة بحياتهم على أمل الوصول إلى أوروبا.
وفي العام 2014، بعد ثلاث سنوات فقط من اندلاع النزاع، أشارت منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة “يونيسف” إلى أنّ “سوريا باتت من الأماكن الأكثر خطورة على وجه الأرض بالنسبة إلى الأطفال”. لقد نزح نحو نصف سكّان هذا البلد الذي مزّقته الحرب. وبحسب الأمم المتّحدة، يمثّل الأطفال نصف اللاجئين والنازحين الداخليّين تقريباً. وانخفض متوسّط العمر المتوقّع 20 سنة.
واليوم، تؤدّي الهجرة الجماعيّة للاجئين السوريّين إلى حاجة ملحّة إلى المساعدات الانسانيّة والإغاثة المتعلّقة بالصحّة النفسيّة والعقليّة – خصوصاً في صفوف ضحايا الأزمة الأكثر براءة، أي الأطفال. فقد تمكّن الأطفال السوريّون من تخطّي ستّ سنوات من الحرب، لكنّ الكثيرين منهم يعانون جراحاً عقليّة ناجمة عن النزاع.
وقال أحمد الذي يقيم في لبنان مع لاجئين سوريّين وفلسطينيّين آخرين: “تعرّض صديقي للطعن على يد فتى آخر. لا أريد أن أكون مثلهم”.
مشى أحمد البالغ من العمر 14 عاماً في شوارع صبرا وشاتيلا وهو منخفض الرأس، محاولاً تفادي النظر مباشرة إلى أعين السكّان الآخرين في هذين المخيّمين المكتظّين باللاجئين الفلسطينيّين في بيروت. لم يبدُ خائفاً، لكنّ خطوات هذا المراهق شبه الأعمى الحذرة كانت دليلاً على عدم شعوره بالراحة.
وأشارت المفوضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين إلى أنّ “المشاكل السريريّة الأكثر شيوعاً وشدّة في أوساط السوريّين هي الاضطرابات العاطفيّة، كالاكتئاب واضطراب الحزن المطوّل، واضطراب الإجهاد ما بعد الصدمة، وأشكال مختلفة من اضطرابات القلق”.
وقال أحمد: “من الصعب جداً العيش هنا. ليس لديّ أصدقاء كثر، ربّما صديق واحد أو اثنان فقط”. وأشار إلى انتشار ظاهرة التنمّر في أوساط الأطفال السوريّين والفلسطينيّين واللبنانيّين الذين يحاولون جميعهم التعايش والاندماج في بلد يضمّ 4,4 ملايين نسمة فقط ويستقبل عدد لاجئين بالنسبة إلى الفرد الواحد أكثر من أيّ بلد آخر في العالم.
وأشار تقرير أعدّه فريق لدعم الصحّة العقليّة والنفسيّة يعمل مع السوريّين المتأثّرين بالنزاع المسلّح، بطلب من المفوضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين: “ذكرت الفتيات أنّهنّ عانين من عزلة جسديّة واجتماعيّة كبيرة، بالإضافة إلى تمييز وتحرّش إلى حدّ كبير”. وأضاف: “عانى المراهقون السوريّون الذكور أيضاً من التمييز وتعرّضوا للتنمّر ولأشكال أخرى من العنف الجسديّ”.
وقالت الدكتورة إيمكا ويسبيكر، وهي مستشارة اجتماعيّة نفسيّة ومستشارة في الصحّة العقليّة لدى الهيئة الطبيّة الدوليّة، لـ “المونيتور”: “تعطّل مشاكل الصحّة العقليّة كلّ الوظائف الحياتيّة، وكلّما تأخّر علاجها تفاقمت تأثيراتها”.
وأضافت أنّ “التعرّض لهكذا بيئات صعبة وعدائيّة يزيد خطر مشاكل الصحّة العقليّة والعنف”. وأشارت إلى أنّ الأبحاث أظهرت أنّ بيئات التعافي يمكن أن تبيّن مشاكل الصحّة العقليّة أكثر من الأحداث السابقة المثيرة للصدمة، ما يعني أنّ البيئة الحاليّة التي يعيش فيها الكثير من الشباب السوريّين الذين اختبروا ويلات الحرب مهمّة بالقدر نفسه بالنسبة إلى صحّتهم العقليّة، إن لم تكن أكثر أهميّة.
وأشارت والدة أحمد، دلال، إلى ابنتها رولا البالغة من العمر 10 سنوات، وقالت: “لا تزال ترتعش وتخاف من القنابل. لقد رأوا أموراً كثيرة أعجز حتّى عن تفسيرها”.
وقالت دلال إنّ أولادها الأربعة تعرّضوا جميعهم لخطر الاختطاف في مسقط رأسها مدينة درعا، التي تُعتبر مركز النزاع الذي تحوّل إلى الحرب الأهليّة السوريّة. وشرحت قائلة: “كان الجنود يأتون ويأخذون الأولاد في الصباح قبل صعودهم إلى حافلة المدرسة – بعضهم ثوّار وبعضهم الآخر لصوص. كانوا معرّضين إمّا لخطر الوفاة بسبب القنابل وإمّا لخطر الاختطاف. لذلك اضطررنا إلى الهرب”.
وقالت ويسبيكر لـ “المونيتور” إنّه من الطبيعيّ أن يعاني الكثير من اللاجئين “من شكل من أشكال الاضطرابات العاطفيّة والنفسيّة” نظراً إلى ما شهدوه من عنف ومآسٍ.
وقال عدد من العمّال الاجتماعيّين اللبنانيّين وأعضاء منظّمات غير حكوميّة إنّ أحمد وأفراد عائلته هم من العائلات اللاجئة المحظوظة التي تستطيع الإقامة في مناطق مدينيّة. وخلافاً لأحمد، يسكن خليل وعائلته في خيمة غير رسميّة في مخيّم للاجئين في بعلبك في لبنان التي تبعد 20 دقيقة بالسيّارة عن الحدود السوريّة الغربيّة.
ويتحدّر خليل (13 عاماً) وإخوته الخمسة من حمص، التي تُعتبر ثالث أكبر مدينة في سوريا والتي سادها الدمار والخراب. وقال ياسر زغيب الذي يعمل مع منظّمة شبابيّة محليّة غير حكوميّة في بعلبك تعنى بدمج المراهقين السوريّين اللاجئين مع نظرائهم اللبنانيّين من خلال أنشطة رياضيّة واجتماعيّة: “يحتاج هؤلاء الأشخاص إلى ضروريّات أساسيّة كثيرة إلى درجة أنّ الحاجات الطبيّة والنفسيّة تصبح ثانويّة. وإذا لم يستعمل الأطفال مواهبهم وطاقتهم ومشاعرهم في أنشطة إيجابيّة، فقد تتحوّل سريعاً إلى أنشطة سلبيّة كالعصابات والعنف”.
تبسّم خليل ابتسامة متوتّرة عجز عن كبحها. وقال والده إنّه يعاني من نوبات قلق متكرّرة بدأت منذ ثلاث سنوات بعد هروبهم من حمص.
وقالت الدكتورة آني سبارو، وهي طبيبة أطفال ومتخصّصة في الصحّة العامّة: “لم أرَ في حياتي أطفالاً متضرّرين إلى هذا الحدّ، ومع ذلك لم أرَ من قبل أطفالاً وبالغين متضرّرين لديهم هذا المستوى من الصمود. وأضافت لـ “المونيتور”: “كلّما عالجنا هذه الحالات أبكر كانت النتائج أفضل”.
ونظراً إلى الحاجات الطبيّة والنفسيّة الملحّة للاجئين السوريّين، فإنّ التحدّيات لا تقتصر على التمويل وغياب الموارد.
زينب حجازي هي مستشارة في الصحّة العقليّة والدعم النفسيّ الاجتماعيّ تعمل في منظّمات دوليّة عدّة للإغاثة، بما في ذلك الهيئة الطبيّة الدوليّة. وقد شرحت أنّ اللاجئين في بلدان عدّة مثل لبنان والأردن وتركيا يواجهون تحدّيات عدّة تصعّب عليهم التعرّف إلى حاجات الصحّة الفيزيولوجيّة والعقليّة وإيجاد حلّ لها.
وقالت حجازي إنّ أغلبيّة الأطباء النفسيّين وعلماء النفس يعملون في القطاع الخاصّ، وإنّ هذه الخدمات المخصخصة تتمركز في العاصمة بيروت، “وبالتالي، فإنّ السكّان الأكثر هشاشة – بما في ذلك اللاجئون السوريّون الذين يقيم معظهم في محافظتي الشمال والبقاع – لا يستطيعون النفاذ إلى هذه الخدمات أو تغطية كلفتها”.
وأضافت أنّ “الوسم والمحرّمات لا تزال تطرح مشاكل، خصوصاً بسبب الطبيعة المخصخصة واللامتكاملة لخدمات الصحّة العقليّة المتوافرة”.
وتشدّد كلّ من ويسبيكر وسبارو والكثير من المنظّمات المحليّة غير الحكوميّة داخل لبنان على الحاجة الهائلة إلى تدريب العاملين في مجال الصّحة في هذه المجالات. وقالوا أيضاً إنّ منظّمات الإغاثة الدوليّة لا تولي أزمة الصحّة العقليّة التي يعاني منها اللاجئون السوريّون في الشرق الأوسط وأوروبا اهتماماً أو تمويلاً كافياً.
وقالت سبارو: “علينا أن ندرك أنّ ما نفعله غير نافع. إنّ الوكالات التقليديّة التي كانت تقدّم حلولاً انسانيّة لا تتحلّى بالحسّ الإبداعيّ لمعالجة هذه المشكلة. على السوريّين أنفسهم القيام بأمور بسيطة، وعلينا نحن أن نؤمّن لهم الأدوات والتدريب كي نسمح لهم بمساعدة أنفسهم”.