ضحى عاشور
تحية طيبة للحاضرين، وتحية لأرواح المدافعين عن الحرية.
قضيت ست سنوات ونصف كسجينة رأي في بلدي سوريا، في تسعينيات القرن الماضي. في السجن أصبحت أماً، حيث أنجبت ابنتي الوحيدة (ديانا)، وفيه أيضاً وُلدت نفسي لأصبح ما أنا عليه الآن.
في السجن اختبرت شتى صنوف الحرمانات المادية والمعنوية. مررت بأوقات عسيرة كنت أشفق فيها على نفسي من قهر الحاجة إلى لقمة نظيفة، كنت أحلم بتفاحة أو بيضة، ببضع قطرات من زيت الزيتون… كان أقصى طموحي أن أحصل على حمام ساخن أو ثياب بديلة عن ملابسي التي اهترأت على جسدي وأنا أرتديها ثلاثة أشهر متواصلة في “فرع الأمن” حيث تسلخ جلدي بفعل الرطوبة والعفن … كنت أخشى القوارض والحشرات التي تزحف حولي وتحرمني النوم على فراش ملّوث بالدماء والعرق وأغطية رطبة قذرة.. هناك كنت امرأة محاصرة تماماً كما لو في غابة بين الوحوش. كان عليّ أن أتعلّم فنون الاستغناء والترفع حيناً، أن أحتفل بما لديّ من حبّ الحياة والتعلق بها حيناً آخر، وفي كل الأحيان كان هاجسي أن أحافظ على طاقاتي العقلية والعصبية لأحتمل ما ينتظرني. بل كان عليّ أن أكتشف قدرات جديدة وأن أطورّها لأتمكن من الدفاع عن حقي وحقّ جنيني في الحياة.
وعبر السنين تعلّمت كيف أعوّض عن شوقي إلى العيش والقراءة، بتذكر ما أعرفه، بإعادة التأمل في الأشعار التي حفظتها، والأفكار التي حملتها، فتحت نوافذ ذاكرتي ليتسلل منها “دون كيشوت” سرفانتس، وأساطير اليونان وأدب المقاومة الفرنسية الذي كنت مولعة به من بول ايلوار إلى ألبير كامو وسيمون دو بوفوار.
في اضرابي عن الطعام سبعة عشر يوماً احتجاجاً على سوء المعاملة ومنع الزيارة، كان ريتسوس اليوناني يساندني بجملته التي كتبتها على الجدار بعصير الكرز: “إذا كان لابد من الموت، فهو يأتي تالياً، الحرية هي الأولى أبداً”. كان خيالي هو الحصان الجامح الذي يحملني إلى كل بقاع الأرض، بل ويأخذني إلى عالم السماء لأفهم أكثر عن البشر وعباداتهم ومعتقداتهم. المقاومة أعادت لي تعريف ساعة الشمس والاحتفال بتنوع البشر وضجيجهم وخيباتهم، جعلتني أحبّ النمل وأنتظر الفراشات وأفهم ضعف الكائنات الحية وهشاشتها وأختار جانب الشجاعة لمواجهة تقلبات الزمن.
في السجن تحرّرت من مخاوفي وأملاكي وحقدي وتعلمت أن الحرية وحدها قادرة على أن تمنحنا الطيبة والكرامة معاً.
خلال سنوات الثورة السورية وفي كل مرّة استطاع متظاهرون أن يتجمعوا في ساحة أو جامع حتى، كانوا يرقصون ويغنّون متعانقين بالأذرع والضحكات العامرة. مازالت عيناي تدمعان كلما رأيتهم: فأنا أعرف بقلبي أن نشوة المقاومة والتحرر من الخوف واكتشاف الإرادة المشتركة هي التي تعمّد مشاعر الأخوة البهيجة.
أنا ابنة جيل يساري دفع من عمره الفتيّ المُنتج آلاف السنين في السجون، تلك السنين التي كانت قادرة أن تجعل سوريا جنة صغيرة لولا الديكتاتورية الهمجية التي اجتهدت لتدفعنا إلى اليأس والعزلة واللجوء، بعد أن سلبتنا أعمارنا وأحلامنا.
واليوم في بلدي أكثر من ثلاثمائة ألف معتقل عدا عن المفقودين والآلاف الذين قُتلوا تحت التعذيب. هؤلاء الضحايا الأحياء الذين لا يمتلكون أدنى وسائل المقاومة، لأنهم ببساطة يموتون قبل أن يتسنى لهم التقاط أنفاسهم، فظروف اعتقالهم أشدّ هولاً مما يمكن احتماله، وكثير منهم يموتون بسبب الجوع أو انتشار الأوبئة داخل السجون المزدحمة أو البرد أو القهر والخذلان أو الحرمان من النوم …
نحن هنا اليوم لنقول أن القيم الانسانية التي دافعت عنها الجمهورية الفرنسية تجعلنا نشعر بالعار إزاء استمرار كل ديكتاتورية في العالم، وتحملّنا مسؤولية مساندة كفاح الشعوب لأجل اعلاء شأن الحرية والعدالة والأخوة على الأرض.
دعونا نتشارك فرح مقاومة الظلم في كل مكان.
* شهادة قصيرة شاركت بها ” ضحى عاشور” في 22 أيار 2016 في الاحتفال السنوي العاشر الذي تنظمه الجمعية الفرنسية (Citoyens résistants d’hier et d’aujourd’hui).
تخليداً لذكرى مقاومة النازية في جبال الألب