حذام زهور عدي
لا يعنيني أن أقدٌم هذه الرواية من خلال النقد الأدبي، إنما اخترتها كنموذج لأدب ما قبل الثورة الذي نقل صورة دقيقة لأحوال الشباب والمجتمع ومعاناة العلاقة مع السلطة في ذلك الوقت، شباب المدن، الشباب الجامعي، أو الشباب الريفي المثقف المهاجر إلى المدينة، إذ يعكس ذلك الأدب رؤية الثورة التي لم تأت تأثراً بالربيع العربي أو من فراغ، بل لولا شدة القمع كان يمكن أن تكون رائدة الربيع العربي، . إن من يقرأ أمثال هذه الرواية يشعر تماماً بأن العالم الذي يصف ثورتنا بالمفاجئة والعفوية رأى البخار الذي ينبثق من المرجل ولكنه لم ير المرجل ولم يتحسس أعماقه …
الرواية :خط الأفق للكاتبة أميمة الخش، وهي روائية سورية نشرت رواياتها الأولى أوائل التسعينات (دعوة إلى الرقص، زهرة اللوتس) ثم تتابعت الروايات مع (الحلم المتبقي، ..التوق) ويبدو أن خط الأفق المنشورة عام 2006 هي آخر ما وصلنا وليس آخر الإنتاج.
تختلف أميمة عن الروائيات السوريات الأخريات، بكونها الأكثر صمتاً بينهن والأقل بحثاًعن الشهرة أو السعي لها، على الرغم من تعبيرها الأكثر نضجاًروائياً، وهي الجريئة دون ابتذال أو انحلال ..تقول في إحدى مقابلاتها :”جرأتي في طرح أفكاري أوظفها لتحريض الوعي لدى الناس “
في روايتها هذه تحاول الكاتبة عرض أحوال شباب السبعينات وما بعدها ؛ حتى ما قبل الثورة ببضعة سنين، مما يعطي كتابتها واقعية ثرٌة أشبه بشريط سينمائي تدور عدسته بالزوايا الاجتماعية وعاداتها -التي يحاول الشباب التخلص منها عبثاً- والأعماق النفسية والسياسية الفردية والجمعية، بحيث تعرض تلك الفترة من تاريخ سورية بجوانبها كافة،
لكن واقعيتها تلك لا تأتي جافة تسجيلية مباشرية إنما تلفها بغلالة من التعبير الفني الأنيق المعتمد على الاستبطان النفسي والتحليق الخيالي في رومانسية التوحد مع الطبيعة، ورحاب الصوفية الباحثة عما وراء الحياة والموت، عما وراء الأفق المرئي إلى الآفاق غير المرئية، التي نسيها الكون في ذات كاتبة تجهد للقبض عليها …من أجل ذلك تستنفر الماضي (الجد الحكيم ) لتقدمه لجيلها الجديد أملاً مشرقاً يضيء آفاقهم المسدودة بأقفال القنوط واليأس والإحباط ….
تدور أحداث الرواية في غرفة المشفى الذي نقلت إليه هبة (بطلة الرواية ) إثر انهيار نفسي أصابها بسبب انتحار شقيقها (بشر) اللصيق بها روحاً وثقافة واهتمامات حياتية عامة، وخلال أربعين يوماً,التي أمضتها في ذلك المشفى بين النوم وشبه اليقظة، ثم دقائق اليقظة المتسللة بين الجرعة والجرعة .,تروي حكايات الشباب,,,إلى أن تكبر اليقظة شيئاً فشيئاً وتصل إلى اليقظة الكاملة، حيث تُحل مشاكلها الإجتماعية والعاطفية، أما القضايا العامة فتتركها – والتي كانت تؤرقها مع رفاقها – (كالحرية والكرامة الإنسانية .,نهضة الوطن، الفساد السرطاني، القضية الفلسطينية ….) مطمئنة إلى إشراق شمسها فيما وراء الأفق المنظور …
الشقيق بشر شاب يمثل شباب ارهاصات الثورة، يكوِن مع أصدقائه مجموعة تهتم بحوارات (الوطن والحياة والمصير، حوارات الماضي والحاضر والمستقبل، حوارات الكرامة والحرية والفساد والتسلط، …والقضايا القومية ) يسجن بسبب ذلك، ويفاجأ بعد خروجه من السجن بارتباط رفيقته وحبيبته (وفاء) بشاب من أهل السلطة يلبي لها طموحاتها المادية، والتي لا يستطيع بشر تلبيتها، وهكذا يتآمر على بشر الإستبداد وعذابات السجون وغدر إفساد السلطة للمجتمع، ذلك المجتمع الذي كان بشر يحلم بارتقائه ونقائه ويصبِر نفسه على عذاباتها من أجله ..,بشر هذا يتلفت يميناً وشمالاً ليرى الآفاق مسدودة أمامه، فقد أغلقها الاستبداد القروسطي بالفساد وقيم التحلل والتفكك الإجتماعي والإحباط وصولاً إلى خيانة الذات والأوطان ولم يترك لبشر وأمثاله إلا الشعور بالعجز التام والإنسحاب من الحياة انتحاراً احتجاجاً سلبياً على كل ما حوله …
أما شقيقته هبة، الرفيقة العطوفة المحبة، التي تتابع زيارته في سجنه، والتي تنقل صوراًمختلفة عن قسوة السجن والسجانين، والوحشية التي كان يعامل بها هؤلاء الشباب، هبة التي تمثل محاولة بناء المجتمع الجديد، فيصيبها الانهيار النفسي، فتتلمس بين الاغفاءة والأخرى عقد ومشكلات ما مر بهما منها ومع رفاقهما، المتوجهين إلى البناء الجديد،
شيئاً فشيئاً ترى الحلول التي كانت غائبة عنها في متناول يديها، فترنو لما وراء الأفق علٌها تتلمسها بقلبها وبصيرتها بعد أن حُجبت عن بصرها طويلاً، ربما تريد أن تجعلنا – رغم المآسي – نستبشر خيراً بما وراء الأفق، فأطلقت اسم بشر على شخصية أخيها واسم هبة على شخصيتها ..
تقول أميمة :” إن من لا يصغي لتعاليم أحلامه كمن يتجاهل الينابيع التي تغذي حياته الواعية “،
لقد أصغى يا أميمة شبابنا لأحلام الحرية والكرامة واكتشفوا ينابيعهم، وهاهم يصنعون ثورتهم بإرادة الحياة التي ترفض الانتحار بعد الآن … وتصمم بعزيمة لا تلين على الانتصار والانتصار فقط …