سلوى زكزك
ثمة صورة نمطية قهرية عن زوجات نواطير البناء، تصنفهن كمتخلفات وغير قادرات على أن يكن إلا زوجات للنواطير، خادمات وتابعات، مقهورات وغبيات … وسارقات بعض الأحيان.
تسكن عائلات النواطير أقبية الأبنية العالية، تنام في العتمة وتصحو عليها، لكن أم جميل وهو لقبها الأزلي، تزوجت زوجها المكنى بأبي جميل، أسم ستحمله وتنادى به رغم أنها لم تنجب جميل، ثلاث بنات كانت حصيلة إنجابها، وتوقفت راضية بهن غلّة كافية ووافية لسنين عمرها السابق والقادم، لكنها كانت غاضبة أشد الغضب، لأن زوجها والعائلة حرموها، وبقرار قطعي، من السماح لها باستخدام لقب أم حلا وهو اسم ابنتها الكبرى، وكانت ترد بقسوة على كل من كان يدعوها بأن تزين خلفتها المؤنثة بالسيد جميل.
أم جميل كسرت كل التصورات المسبقة عن زوجة الناطور ، فمنذ اللحظة الأولى لوصولها، وبلباس مدني، غّيّرت من إلزامية الجلابية كزي موحد لزوجات النواطير. قسمت القاعة الكبيرة المحضرة لتكون مخزناً للمتاع الفائض إلى ثلاثة أقسام ومنحت الأطفال الجزء الأكثر ضياء، سجادة كبيرة على الأرض، وصناديق خضار بلاستيكية بيضاء نظيفة انتظمت فوق بعضها البعض كخزانة برفوف للكتب والدفاتر والألعاب.
شطف الدرج مسؤوليتها الحصرية، وبإصرار منها لم تشرك بناتها بهذه المهمة. وشيئاً فشيئاً، انتقلت لتوسيع أعمالها، مثل لف اليبرق والملفوف وحفر الكوسا والباذنجان وغسل السجاد، وأحياناً كانت بعض السيدات صاحبات ساعات العمل الطويلة يضعن أولادهن عندها حين عودتهم من مدارسهم.
بناتها الثلاث في غاية النظافة والترتيب ومجتهدات، لا تتملقّن أحداً ولا تخدمن أحدا بمجانية بلهاء، تحشر أبناء النواطير في خانة الخدم حصراً وكأن ابن الناطور هو ناطور حكماً.
في عيد الأم، كافأت أم جميل نفسها بشراء غسالة اتوماتيك، صعق الجيران وخاصة الجارات، وصار سؤال من أين لها هذا، لا زمة تتردد على الألسن بدلاً من صباح الخير. وبالفعل فإن سعر الغسالة يفوق قدرة الجميع في ظل الحرب الشعواء والغلاء المريع وانعدام السيولة، لكنها فاجأت الجميع برد حازم، وقالت الغسالة تجلب النقود لأنها باب رزق وهي مكسب لا خسارة.
كان يوم الغسيل هو يوم الشقاء الكامل والآسر، أكوام من الغسيل القذر تتجمع لتدور الغسالة ذات الفراش التقليدي لساعات طويلة وبعدها تقضي أم جميل ساعات إضافية لفض الغسيل وعصره ونشره.
بجردة حساب بسيطة قالت أم جميل إنها تحمي يديها قويتين معافاتين من عملية الفض والعصر، وتستثمر هاتين اليدين لتنجز أعمالها المأجورة لسكان البناء. وأضافت في ذهن الجميع بأن غسيل بيت الناطور هو مجرد أسمال رخيصة تشر منها المياه وتنشر مجمعة فوق بعضها البعض بعشوائية مقرفة في قبو مظلم حرصاً على أناقة البناء، تصبح حبال الغسيل صفة ووصمة وبصمة تلحق صفات الفقر والقهر وقلة الترتيب بأصحابها دون الالتفات لظروفهم أصلاً.
استغلت أم جميل ارتفاع سعر الذهب وباعت قرطيها وأضافت على قيمتهما ما ادخرته من أجور الأعمال المنزلية واشترت الغسالة. وذلك بعد نقاشات ومماحكات طويلة وصعبة مع زوجها الذي كان يرى أن شراء الغسالة فساد ودلال وبطر لا مبرر له.
شرحت لي عن تقبل الجميع تلازم الشقاء مع الفقر وكأنهما قدر مقيم، وعبرت آسفة عن الفكرة العامة المتقبلة للإرهاق وانغلاق الأفق والإغراق في تبعيات الفقر شريكاً أصيلاً وأبدياً للمرأة الفقيرة.
تقضي كافة النساء، وخاصة المهجرات وقليلات الموارد والمهمشات والمتعبات، أكثر من خمس ساعات متتالية لإنهاء تنظيف أكوام غسيل عائلاتهن على الغسالة التقليدية وتجلسن بعد انتهاء الغسيل منهكات وخائرات القوى. وبعضهن تلزمن بناتهن بنشر الغسيل فتحملنه ممتلئاً بالماء غير عابئات بأجسادهن الغضة, وتلجأ الأخريات وخاصة صاحبات الأسر الكبيرة إلى إلزام البنات بعملية الغسيل برمتها، وما يليها من طي وكي وتوضيب وتلبيس الملاحف وخياطتها.
في بلد تعتبر ملاقط الغسيل ترفاً والحبال المعلقة في الشمس والهواء حلماً، تتحول الغسالة الأوتوماتيك إلى بيضة ذهبية، توفر الوقت للعمل المأجور الذي يصبح الوارد منه دخلاً أساسياً. والغسالة الأوتوماتيك هي حلم الكثيرات مع أنها أداة منزلية من سلم أولويات الحياة، تؤجل لشراء أطقم زجاجية أو موبايل فخم.
تدور الغسالة الأوتوماتيك وأم جميل جالسة قبالتها تحفر الكوسا لإحدى عائلات البناء. لا تتردد في فتح حديث مع غسالتها قائلة لها: “أكثر الله من خيراتك … أنت ثروة عظيمة … راحة وغلة وفيرة”.
عن سابق معرفة أو فقط لمجرد تقدير ذاتي لجهودها وحسابات مكوكية استهلاكية، يبدو أن أم جميل قد أسست لتسعير ساعات العمل المنزلي وتحويله من كلمات فارغة مثل (شاطرة وست بيت كاملة) الى مورد رزق هام لا يدخل في دخل العائلة وإنفاقها فحسب، بل يشار إليها هي كمصدر له، وبالتالي كمشاركة في إنفاقه.
المنحوتة للفنان “أسامة النصار”
خاص “شبكة المرأة السورية”