علي سفر
ليس أمراً مملاً أن يقوم أحدٌ ما بتلخيص وشرح أسباب قيام السوريين بثورتهم مرة أخرى بعد خمس سنوات من بدايتها، طالما أن فعل مجابهة الطغيان الطامح إلى التغيير، مازال مستمراً، رغم ما خالج مساراته السلمية وكذلك العسكرية من كبوات وسقطات، وانتصارات وهزائم.
تلخيص الأسباب وذكرها -وهو أمرٌ لن نقوم بفعله في هذه السطور- مهمازٌ ضروري يجب أن يعاد إنتاجه كلما دعت الضرورة إلى ذلك، والضرورة هنا، يمكن توصيفها على أنها تلك المعيارية التي يستدعيها السوريون ليحاسبوا كل من شذ عن الأهداف التي خرجوا من أجلها، وهي أيضاً وبالتوازي، الأداة التي تحاجج بها المعارضة المدنية الديموقراطية العالم كله، ولتحاسبه من خلالها على تقصيره في إسناد حراكها السلمي، وعلى تركه الشعب السوري عرضة لفعل القتل طيلة السنوات السابقة.
هي ثورة قامت من أجل استعادة السوريين حقهم بالمشاركة السياسية، وبالكرامة، وبالعدالة الاجتماعية، ومعيارية هذه الأهداف مدونةٌ ومذكورة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وإذا أراد أحد أن يحاجج في هذا، فإن الجدل سيكون بلا طائل، إذ لا يمكن النقاش في البديهيات.
لقد بلغ تقييد تطور المجتمع السوري مبلغاً لا يمكن لأي من الشعوب أن يستمر فيه، إلا تلك التي مازالت تعيش خارج الحاضر، ولا تدري ما يجري خارج حدودها المغلقة.
ولكن السوريين لم يكونوا هكذا، بل كانوا يرون ويعرفون، ويعيشون مع الحاضر الذي تعيشه كل الشعوب الحرة على الأرض، وبقدر ما كانت طاقات المجتمع تحاول الخروج عن القيود التي فرضها النظام المافيوزي عليها، بقدر ما كانت شراسة القمع تزداد وتقوى.
ولهذا كان لابد للسوريين أن يخطوا خطوتهم هذه، ولكنهم لم يتوقعوا كل هذا الخذلان من العالم.
مشروعية الثورة على نظام مستبد وجائر، لا يمكن لأي عاقلٍ أن يناقشها، ولكن رغم ذلك وجد السوريون بين ظهرانيهم، من حاول أن يثنيهم عنها، كما وجد من بين السوريين من رأى بأن الثورة يجب أن تكون مفصّلة على مقاسه هو، فشككّ بها، وشيطنها، وأطنب في ذمها، وتناغم خطابه مع خطاب النظام ذاته، الذي أحالها إلى دوافع طائفية، وإلى مؤامرة دولية، وإلى غير ذلك من الأسباب، ولكن السوريين، وقد أعُمل القتلُ وإرهابُ الدولة في شبابهم، أدركوا بفطرتهم أن توقفهم في منتصف الطريق سيعيد تاريخاً من مذابح النظام فيهم، فلم يرضحوا وأكملوا.
لم تأت ثورة السوريين من الفراغ، لتذهب إلى الفراغ، إنها فعل الشرف والكرامة، لشعب أريد له أن يبقى خانعاً وذليلاً لنظام الأسرة المافيوية، الذي كشفت وقائع سنوات الدم السالفة مقدار أهميته غير المعلنة للنظام العالمي، فبمقدار حجم الخدمات التي كان يؤديها للحلفاء شرقاً وغرباً، وبقدر ما كان يؤدي الخدمات العلنية والمستورة لأعداء شعوب المنطقة، تجلى دعم المافيا العالمية له، ومساندة الأنظمة المستبدة المشابهة، وكذلك قوى اليسار الرسمي، وقوى اليمين المتطرف، في حالة يندر أن ترى مثلها في كل تاريخ شعوب الأرض، إذ لم يحدث أن أجمع أصدقاء وأعداء نظام سياسي ما على دعمه كما جرى في حالة نظام الأسد..! ولهذا وجد الشعب السوري نفسه في مواجهة شاملة مع قوى الطغيان والاستبداد في العالم بأسره.
جرّب السوريون خلال سنوات الثورة أساليب مقترحة كثيرة لعلاج سرطان الاستبداد، ولكنها كلها كانت تقوم على علاج سطح الورم، وليس على استئصاله، ولهذا ما انفكت تسقط أمام أعينهم كل مقترحات الحلول التي قدمتها قوى محلية ثم إقليمية ثم دولية، وفي الآن ذاته، جرب الكثيرون ممن قالوا بأن الثورة ثورتهم، أن يقودوها على طريقتهم، ولكنها كانت كالفرس الحرون، لا تُمكن أحداً من امتطائها، والذهاب بها إلى حيث يريد..! هنا نتحدث عن قوى إسلامية وأخرى علمانية، وعن قادة قومجيين وشيوعيين وليبراليين وسلفيين، كل هؤلاء كانوا يتساقطون على مذبح أخلاقيٍ، رُفعت حجارته بأرواح الشهداء الذين سقطوا في المظاهرات أو في المعتقلات وعلى جبهات المواجهة.
لقد كانت المواجهة تقوم فعلاً بين ثورتين، ثورة يراد لها أن تكون مأسورة لصالح مشاريع فئوية، إقصائية، ماضوية، وأخرى هي ثورة الشهداء والمعتقلين والنازحين والمهجرين اللاجئين..! وكلما كانت مشاريع الفئات تهزم، كلما كانوا ينقلبون على ثورة المستضعفين، فيعيثون فيها تخريباً وتدميراً.. ولعل ما يجري الآن في المناطق “المحررة”، وما جرى سابقاً، من فشل محاولات قمع الثائرين وإلحاقهم بـ”مشروع الأمة” القاعدي/ النصروي، أبرز مثال عما يفعله تمرد الثورة بذاتها على قامعيها الذين يحاولون الاستئثار بتراثها ونوابضها، سعياً منهم لتحصيل النتائج في مواسم جني الأرباح العتيدة.
إنها ثورة مستمرة ضد ثورات الآخرين المحدودة، وضد الاستبداد المتقنع بلباس الثائرين، فكم من قوة ادعت أنها تمتلك مفاتيح جنان المستقبل، وسقطت عند أول اختبار يبنى على الإيثار، وتقديم الأهداف المقدسة على الأهداف الشخصية، والأجندات؟!
خمس سنوات مرت على صرخة الحرية الأولى، ومازالت الصرخات مستمرة، ودون أن ينتهي ليل السوريين بضوء انتصار إرادتهم، سيبقى فعل الثورة دائم النبض، ودون ذلك ليتفكر المتفكرون.
عن موقع “أورينت”