ضحى عاشور
حسناً إنه شهر آذار، تباشير الربيع المتفجرة في كل مكان تنعش القلب، وذكرى يوم المرأة يلهم الإرادة، هذه المدينة الفاتنة التي تحتضن معذّبين من كل جهات الأرض تُشيع في النفس دفء التضامن وتوجب التحية لأجيال من النساء والرجال سعوا لأجل الحرية والمساواة والاخاء بين البشر.
سأتحدث عن وقائع ومشاهدات لأختم ببعض ملاحظات:
أنا الآن لاجئة في فرنسا على خلفية مقاومتي للديكتاتورية التي سممّت كل سنين عمري منذ أن كنت يافعة ولم تزل. في جلسة جمعتني مع بعض الفرنسيين في إطار مشروع للتبادل اللغوي بيننا، كان على كل منا أن يعلن عن دوافعه لتعلّم لغة الآخر، لفتني رجل فرنسي متقاعد حين قال: “لست بحاجة إلى تعلّم اللغة العربية، لكني سأعلمكم الفرنسية مقابل أن أتعلم منكم الأمل”!
هذا الرجل الذي تحدث عن حاجته، وفيما بعد أخبرني عن أصدقاء له ضجرين من حياتهم الضيقة التي تسير إلى نهايتها بلا معنى، أصبح لديه شيء يستيقظ من أجله، بل أشياء، فجأة وجد نفسه ابن هذا العالم، له أخوة في أنحاء كثيرة يتعذبون ويعانون ويكافحون، وهم رغم ذلك مفعمون بالإرادة والحيوية. لقد منحني شعوراً نادراً من الاعتزاز بثورة سوريا، سوريا التي لم تعد بلداً ما شمال “إسرائيل” ولا جنوب تركيا ولا هي سوريا “داعش” كما يشاع مؤخراً، ولا هي سوريا اللاجئين المنكسرين على أبواب الدول المتجبرة والبحار الغادرة، بل هي سوريا التي لديها ما يمكن أن تتبادله مع العالم وما يمكن أن تعلّمه أيضاً: الأمل بأن هناك حياة أخرى ممكنة، رغم كل الآلام وحصار الجغرافية وقسوة التاريخ وتعقيدات الاجتماع.
منذ قدومي إلى باريس وأنا أقرأ وأشاهد برامج وأفلاماً، وأتجوّل لأتعرف إلى البلد الذي هو بلدي اليوم، أشارك مع مركز اجتماعي في بعض النشاطات، فيقررون زيارة المتاحف الحربية. أقرأ رواية “المثقفون” لأفهم شيئاً عن الثقافة الفرنسية، فأغرق في سجالات حول الحرب ومآسيها. بالقرب من بيتي يوجد نُصُبان لضحايا الحرب، أحدهما لضحايا بريطانيين ماتوا غرباء، والنُصب الآخر لضحايا فرنسيين. أذهب إلى مكتبة وسط باريس (بومبيدو)، فتجذبني أصوات هتافات لاعتصام أنضّم إليه لأعرف أنه بمناسبة مرور مائة عام على المجازر بحق الأرمن.
حرب، مجازر، قتل، دمار… يا للمصادفة! كنت أردّد، مرة اثنتين ثلاثاً.. هل هو الحظ النكد يلاحقني، أم سوء طالع وافاني حيث تعرضت باريس مرتين لهجمات إرهابية العام الفائت، ولمست بنفسي كيف خُطف شعور الفرنسيين بالأمان والاسترخاء وتحوّل إلى كدر وحذر.
لا يتعلق الأمر بالمصادفة بقدر ما يتعلق بحقيقة نتجاهلها: حقيقة أن العالم المتحضر يقوم على الحروب. التدمير هو مكون أساس في دورة حياته، يدّمر ويخرّب ثم يعيد الإعمار. وفي كل مرّة يجد عدواً يتركه يكبر ويتوّحش ليضعنا أمام خيار الحرب كحلّ وحيد. هذا العالم لا يكفّ عن الحروب، والكارثة أن استمرار الحروب وتفاقمها يؤكد حقيقة أن الحرب ليست حلاً، لأنها لو كانت الحل الأجدى للصراعات لكانت استطاعت القضاء عليها، وبالتالي انتفت الحاجة إلى المزيد من الحروب. ما يحدث، العكس تماماً، كل حرب تولد الكثير من الأحقاد والضغائن وتؤجج الكراهية والعداء وتفاقم الخراب والعوز والإعاقات واللجوء والتشرد والجوع وتراكم التناقضات لتنفجر في حرب أخرى. والرابح الوحيد هي شركات الأسلحة وإعادة الإعمار. لاحظوا كيف يعلنون الحرب على التطرف فيزداد، الحرب على الإرهاب فيعّم ويتوحش. وطالما استمرت الحروب فلا أمل يرتجى من خطط مكافحة تلوّث البيئة ولا منع الهجرات وستظل تفشل مساعي الحدّ من الانتحار والاغتصاب والإدمان والعنف الجنسي وحتى مساعي القضاء على الاكتئاب والسمنة وغيرها.
السوريون وكل مظلومي الأرض باتوا يدركون عبث الحروب وتبعاتها التي يدفع ثمنها الجميع، لا أحد بمنأى عن تداعيات الحرب ونيرانها العابرة للحدود، لذلك فهم يطالبون بتدمير أخير يطال الأسلحة الحربية وصناعة الحروب. يريدون تفعيل مواثيق الأمم المتحدة ومعاهداتها التي نتجت عن خبرات وآلام حربين عالميتين مدمرتين، وعلى رأسها فض النزاعات وإطفاء بؤر التوتر ونزع فتيل اشتعال الصراعات، ولن يكون ذلك إلا بالوفاء بالالتزامات تجاه حقوق الإنسان وحرياته، وكسر شوكة الاستبداد بكل أشكاله ومقاضاة المجرمين والقتلة.
يوماً وراء يوم يتزايد عدد السوريين المنخرطين بالشأن العام، من رحم آلامهم يولد وعيهم وسعيهم بأن تصبح الأمم المتحدة معبرة عن مصالح الأمم فعلاً لا عن مطامع الدول الكبيرة والاحتكارات العالمية. السوريون يصرّون على المطالبة بحق الشعوب في مشاركة أوسع في صناعة القرارات ومتابعة تنفيذها، وفي مشاركة عادلة للنساء تضمن إيصال مطالبهن ورؤيتهن للمشاكل والحلول.
يطيب لإخوتنا الرجال المحافظين أن يتغنوا بعبارة “الحرية نبتة برّية” وهم يعمّمون هذا التوصيف الشاعري على الأمل والحب، في إشارة صريحة إلى العجز عن نيلها أو استحقاقها. مع أنهم يجدون الأمر معقولاً جداً عند الحديث عن شراء بيوت في المريخ، ويمكنهم دائماً أن يفرغوا جيوب الرجال مقابل وهم مقاس الخصر والمؤخرة، ويستطيعون أن يرافقوا المرأة إلى قبرها وهم يبيعونها وصفات الشباب المتجدد والغواية الأبدية. على الرغم من ذلك وغيره، تتطلع النساء والرجال الأحرار إلى الحرية والأمل والحب كنمط حياة يمكن زراعته وتخصيبه وتثميره والتمتع بخيراته، بل وكخيار وحيد لاستدامة العيش المشترك على هذا الكوكب المنكوب.
لقد تراكم من التجارب ما يجعلنا ندرك أن الحرية ليست نبتة برّية ولا وصفة سحرّية تقضي على الظلم بالضربة القاضية، إنها جهد دائم يستلزم دأب الفلاحين وشغفهم وانتباههم وصبرهم ورعايتهم، وفي عالم يتطور، تتطلب أيضاً استثمار كل معطيات العلم والمعرفة وتسخيرها لخدمة التحرر.
يلتقي دعاة الاستبداد وحماة الديكتاتوريات في الغرب والشرق، حيث يدّعي العنصريون الغربيون أن الثقافة الشرقية لا تستوعب الحرية، ويجاريهم نظراؤهم الشرقيون زاعمين أن الحرية منتج غربي. وليس لنا إلا أن نستعيد شعارات مظاهرات النساء الإيرانيات عام 1980 الرافضة لفرض الحجاب على المرأة وحرمانها من حقوقها والتي أعلنت بوضوح: “الحرية لا شرقية ولا غربية، الحرية عالمية”.
كذلك يؤازر أنصار القتل بعضهم حين يشيح العالم ببصره عن حرية شعب لحين انتهاء حربه على الإرهاب، كما سبق أن اغتصبت الديكتاتورية السورية حقوقنا وعطلت الدستور بحجة حربها الافتراضية مع “إسرائيل”. واليوم ينصحنا كثيرون، بوعي أو من دون وعي، أن نؤجل مطالباتنا بحرياتنا وخاصة بحريات المرأة وحقوقها ريثما تنتهي حروبهم، وكأننا نعيش في مختبرات تفترض عزل القضايا عن بعضها. لا يا سادة، نحن النساء نسيبات فلاحات محترفات اخترعن الزراعة وأقمن حضارات، نستطيع أن نزرع الأرض في كل المواسم ونحسن التمييز بين طبع الأشجار ومزاج النباتات، وسنكون قادرات على طرح كل القضايا والعناية بها معاً.
حرية السوريين هي البوصلة التي تؤشر إلى حاجة العالم لمواجهة ضميره المترهل وهمجية روحه وتصحّر خياله، إلى ضرورة التحرر من تقديس نموذجه القائم على الحرب والهيمنة والاستئثار. حريتنا هي الأمل الذي سيثمر آمالاً كثيرة تدفع المليارات السبعة للتعلق بالحياة والتمتع بعذوبتها، ولن يكون ذلك إلا عبر الاعتراف بحقنا المتبادل بالعيش الحرّ الكريم.