فؤاد عزام
غيرت سنوات الصراع الدامي في سوريا طبيعة الأعباء التي تتحملها المرأة فيما بدت مع ازدياد الاخطار الكبيرة التي تعرضت، ومازالت تتعرض لها، تعيد صياغة ذاتها المجتمعية إلى جانب الرجل، باتجاه نحت ثقافة جديدة بحيث يصح القول بأنها تخوض معركة وجودٍ محركها الرئيسي تفكيك الأصولية الاجتماعية المتوارثة، والتي ألقت بظلالها على المجتمع السوري طيلة المراحل السابقة.
ورغم التمايز في مناحي عديدة بالنسبة لحياة المرأة في المناطق السورية المختلفة إلا أنه يمكن القول بشكل عام بأن ثقافة “القبيلة ” كانت المحرك الأساسي لسلوك وحياة الأبناء، بمعنى وجوب العودة للأصل والامتثال للأكبر. ويحكم ذلك كله منظومة من الترهيب والتخويف من مغبة أي خروج مهما كان نوعه عن هذه الثقافة الاصولية التي عمل النظام على دعمها بأساليب مختلفة وبشكل ممنهج، لأنه من خلال أهم خصائصها وهو “الترهيب”، ضمن بقاءه كل تلك الفترة. فيما تبقى مسألة تشكيل المنظمات الشعبية والاتحادات والنقابات المهنية ومنها ” الاتحاد النسائي العام “وتعيين رؤساء لها من قبل النظام على شكل قبائل، أحد أهم تلك الاساليب، بحيث ارتبطت جميعها بمفاهيم سياسية بهدف تطويع المجتمع وحشد مكوناته بسيطرة امنية وافراغ تلك المنظمات من محتواها المهني والاجتماعي بحيث لا تعبر عن مصالح المنضويين في اطارها أو تسمح لهم بحرية التعبير وحتى التفكير. بقدر ما تخدم السياسة السلطوية على أساس مفهوم الطاعة والخضوع “للأكبر” او الأعلى، وهو النظام .
وقبل اندلاع الثورة أيضا لم تكن المرأة في البلاد تحظى بمساحة للتعبير عن ذاتها أو ممنوع عليها إبداء أي موقف في قضايا المجتمع، وحتى ازاء مشاكلها هي، فعقل القبيلة هو المعني في كل هذه الأشياء حتى أنه اتخذ اشكالاً وأساليب للمعالجة جديدة؛ فمن المدرسة تبدأ القيود على البنت بالتشكل بشكل تصاعدي من الأسرة، ومن مناهج التدريس. فالمناهج الايديولوجية “القومية والتربية الدينية “تعمل على تلقين التلميذة تعاليم تكون ناظمة لحياتها، إضافةً إلى اتباع سياسة الفصل بين الجنسين المعممة في معظم المناطق بلاد.
ورغم مساهمة وسائل الاتصال الحديثة في شحن المرأة بأفق مختلفة، إلا أن تلك المنظومة حاولت بشتى الوسائل السيطرة على تلك الوسائل، وتطويعها وتوجيهها للحد من تأثيرها الإيجابي على المجتمع بشكل عام وعلى المرأة خصوصاً حفاظاً على أصولية التفكير القبلي وعدم الخروج عن إطاره. تروي إحدى النسوة من ريف دمشق كيف كان محظوراً عليها مشاهدة أية محطة تلفزيونية عدا تلك التي تشاهدها الأسرة، حيث تقول إن هذا الأمر عام، فيما لم يتم السماح لها باقتناء الموبايل إلا حين دخولها الجامعة.
وتضيف أنه على الرغم من أنها كانت ترى في الجامعة الساحة الأوسع من “مجتمع” فرض عليها لتحقق ذاتها إلا أنها بدت ضعيفة غير مهيئة بحكم التربية لمواجهة بيئة مختلطة؛ فكانت بالنسبة لها صدمة أكثر منها انفتاحاً على الاخر، فانكفأت على نفسها، إلا أن هذا ليس أمراً عاماً. بيد أن هناك فتيات استطعن الانسجام مع الحالة الجديدة بالنسبة لهن، إلا أن كلا الحالين شكلا جدلاً حاداً داخل الفتاة نفسها وبينها وبين المجتمع. يمكن وصفه بحالة من الفصام الاجتماعي فهي تعيش حياة خاصة في ذاتها، وحالة مختلفة ازاء المحيط. لكن تلك الحالة ليست خاصة بالمرأة فقط إنما تنسحب أيضاً على مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية.
تلك الرؤية عملت على ترسيخها المنظومة الحاكمة من أعلى مؤسسة في البلاد إلى أصغر مؤسسة وهي الأسرة. تقول امرأة أخرى: “لقد تم تزويجي من ابن عمي وكان عمري 13 سنة، لم أكن أعرف إلا الخضوع لزوجي، فعشت حياة طاعة كاملة من منزل أهلي الى منزل زوجي، وأقصى ما كنت أشاهده على التلفزيون هو المسلسات السورية في رمضان، حيث يقولون لي انظري إلى تلك المرأة في (ايام شامية ) تلك هي المطيعة الخادمة، بحيث أصبحت أرى نفسي مثل دمية، جسد يسيره الأخرون، وعقل تجمد في ذلك الجسد لا يرى أكثر من المطبخ والسرير”.
ثمة مساحات أخرى مختلفة بالنسبة لحرية حركة المرأة وهي مرتبطة أكثر “بالنخبة ” واستطاعت خلالها المرأة الدفاع عن وجودها لكنها بقيت في الاطار “الأقلوي ” الخاص ودفعت المرأة مقابل تلك المساحة التي أوجدتها أثمانا باهضة منها العزلة الاجتماعية والتهميش وصولا الى الاعتقال .
يشير أحد الاختصاصيين الاجتماعيين إلى أن التخويف والترهيب والقمع الممارس من أصغر مؤسسة وهي الأسرة وانتهاء بأعلى المؤسسات باستخدام مفردات منها العار، والعيب والناس والدين والوطن، ضاعف القيود بشكل كبير على المجتمع لاسيما على المرأة، بحيث أصبح الشخص يعيش بشخصيتين، شخصية يعيشها بينه وبين ذاته، وشخصية يعلنها بما يناسب المنظومة السائدة.
يمكن القول أن الثورة بالأساس كانت ثورة لتوحيد تلك الشخصية من خلال الحصول على حرية التعبير، والخروج من قضبان السجن الاجتماعي والسياسي، فيما شكلت سنوات الحرب رؤية مختلفة انقلابية بالنسبة للأب، والجد، والمرأة والرجل. إذ أن الدفاع عن الوجود أصبح أولوية، ولم تعد المفاهيم التعصبية تحتل مكانها السابق في سلم الأولويات؛ فالابتعاد عن القذائف، والصواريخ، وقصف الطائرات، وتأمين الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة هو الهاجس اليومي لمختلف الشرائح الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن الحرب ضاعفت عدد المرات الجرائم التي ترتكب بحق المرأة مثل قضايا الإتجار أو الزواج القسري، وتزويج القاصرات والاعتداء الجنسي، والهجرة القسرية، والحرمان من حق الأمومة الطبيعي، والرعاية الصحيحة، والتهجير، والنزوح؛ إلا ان المرأة السورية بدأت أولى خطوات التحرر من الخوف، وغيرت نظرة المجتمع إليها، وخرجت من دائرة الدور التقليدي الذي طالما اضطلعت به كزوجة وأم وربة منزل، وهي اليوم تصنع المستحيل لتحفظ أسرتها من الضياع.
هذا المخاض الذي يؤسس لمرحلة تحولات كبرى رغم الواقع المؤلم هو لحظة تاريخية بدأت تفكيك المؤسسات بدءا من مؤسسة الزوجية، وانتهاء بأعلى المؤسسات، وإعادة صياغتها على أسس حقيقية يتطلب المزيد من التكاتف بغية جني ثمار الثورة في الحرية والكرامة وتفعيل رؤية عصرية تحررية إزاء المرأة، أساسها إنشاء مجتمع مدني بمؤسسات أفاقها الأولى الأسرة بشكلها المتحضر المبتعد عن التعصب، والتهريب والتخويف؛ فنحن الآن أمام مرحلة تقرير المصير وتشكيل مجتمع سوري جديد.
وماقامت به المرأة خلال السنوات الخمس الماضية هو مدعاة فخر للمجتمع، كما أن الانجازات التي حققتها في مجالات الإغاثة والإعلام والمشاركة في المظاهرات السلمية، وتقديم الإسعافات، والأدوية، وخروجها في المظاهرات، وتعرضها للاعتقال، والقنص، ومواجهتها لشتى أنواع القمع؛ كل ما سلف شكل لها خروجاً من السجن الذاتي والأسري والمجتمعي، وانتزعت لنفسها مكانة راسخة أساسية في سورية الغد.
إن تمسك المرأة بحقها بالمشاركة الفعلية في صنع مستقبل البلاد رغم ظروف الحرب المأساوية، وبالرغم من كل أنواع العنف الذي يستهدفها، دليل على امتلاكها الارادة في نيل حريتها كمكون أساسي من مكونات المجتمع، بل جناح من جناحي المجتمع الذي لا يستطيع التحليق دونه.
اللوحة للفنان “أسعد فرزات”
خاص “شبكة المرأة السورية”