نبال زيتونة
على حافة الغياب صنعت الحياة، وأعدّت وجبةً للبقاء، هي المرأة السورية التي استطاعت خلال السنوات الخمس الماضية من عمر التغريبة السوريّة، أن تغطي المشهد، وتلوّن الجزء الأكبر من جوانب تلك اللوحة في المنفى، حيث تشكّل نسبة النساء اللاجئات في طول البلاد وعرضها، نحو خمسةٍ وثلاثين بالمائة حسب إحصائيّات الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان، مقابل خمسين بالمائة من الأطفال.
والحالة هذه، كان لا بدّ للمرأة أن تنفرد برعاية أسرتها في غياب الرجل، وتجترح أساليب للبقاء على قيد الحياة. فما هي المجالات المتاحة أمامها؟
عملت المرأة السوريّة في بلاد اللجوء في مجالات عدّة، منها الأشغال اليدويّة، إدارة البيوت، التعليم، وفي مراكز رعاية الأطفال السوريين، وأعمال أخرى كثيرة.
لكن أهم المجالات التي خاضتها المرأة في بلاد اللجوء هي المجال الإعلامي، وفن الطبخ.
في مجال الإعلام:
أسئلة كثيرة تخطر على البال، لماذا المجال الإعلامي؟
هل لحلم قديم افتقدته المرأة كما الرجل، في بلدها الأم تحت سياط القمع الممارس على الإعلام وحرية التعبير؟ هل تستسهل المرأة هذه المهنة؟ هل لأن مردودها لا بأس به؟ هل يقيها شرّ الوقوع في شرك الاستغلال على الصعيدين المادي والجنسي؟ هل هو هاجس التوثيق وفضح الممارسات الجائرة بحقّ السوريين بدءاً من بلدها الأم وصولاً إلى دول المنفى؟
لقد عملت المرأة السوريّة كما الرجل في المجال الإعلامي، ولعلّ الدافع الخفيّ وراء ذلك، هو الحلمٍ القديم، الذي حلمنا به جميعاً في بلد يفتقر إلى أبجديات الإعلام، وحريّة التعبير وكشف الحقيقة.
“سناء” كانت طالبة في المدرسة الثانويّة بريف دمشق – الغوطة الشرقية، لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، تقول إنها كانت تحلم أن تصبح صحفية لتعرف الحقيقة التي اختلطت عليها وعلى كثيرين مثلها في بداية الثورة، إذ كانت رواية النظام الإعلامية تختلف عن الصورة الحقيقيّة التي رأتها في بلدتها والبلدات المجاورة بعد نزوحها إليها. من هناك بدأت قصّة “سناء”، وأخذت تعمل في التصوير والتوثيق، وترسل الفيديوهات خارج الغوطة الشرقيّة، وبعد لجوئها إلى بلدان الجوار وجدت نفسها تنخرط في “هذا العمل الشقيّ” كما تقول، لكنّه الممتع حقّاً. وتضيف: “قد يكون العمل الإعلامي على الأرض أقل تكلفة بالنسبة للمرأة على صعيد الابتزاز المادي والجنسي”.
أمّا “هبة” ذات الثلاثين عاماً، فتلخّص القصة في كلمات:
درستُ في المعهد المتوسط للطباعة والنشر إضافة إلى التصوير الفوتوغرافي. أحب العمل في مهنة التصوير، اخترتها أيضا لضرورة المرحلة. عملت في اﻹعلام والتصوير في الداخل أثناء الثورة السورية، وقد واجهت صعوبات أمنية كثيرة في الداخل. هنا في لبنان أكملت جزءاً من العمل اﻹعلامي، وكانت الصعوبات أقل بكثير، لكن هذا لا يمنع وجود بعض المعوّقات كوني سورية. نتوجه للعمل اﻹعلامي لكي نُري العالم حقيقة ما يحدث في الداخل السوري، وفي مخيّمات اللجوء. هذه المهنة ليست متوفرة بكثرة لكن وجودها اﻵن متاح بسبب الظروف الحالية، ومردودها بسيط يغطي بعض الاحتياجات. كامرأة سورية في لبنان ممنوعة من العمل، تكون هذه المهنة متاحة بعض الشيء أكثر من غيرها باﻹضافة إلى العمل مع المنظمات”
وقد خاضت المرأة السوريّة هذا المجال من كافة الشرائح العمريّة والخلفيات الثقافية، وبالرغم من اختلاف مجال الدراسة، إلا أنّها كانت حاجة ملحّة ﻹظهار مايحدث للسوريين في سورية وخارجها خلال الثورة.
فن الطبخ:
فن الطبخ من الفنون التي برعت فيها المرأة السورية في الداخل السوري وبلاد اللجوء. كثيرات هنّ النساء اللواتي عملن في هذه المهنة، وأغلبهن لا يُجدن أعمالاً أخرى. لاجئات وجدن أنفسهن في موقع يجب فيه الاعتماد على النفس لتربية أطفالهن، فغالبية الأسر السوريّة اللاجئة هي دون أب أو معيل، وإذا كان الرجل موجوداً فقوانين البلد المضيف تمنعه من العمل، ومطلوب من المرأة أن تعمل لإعالة أطفالها.
“أميرة” سيّدة سوريّة لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر، وجدت نفسها دون معيل في مخيّمات اللجوء، بعد اعتقال زوجها وهروبها مع ثلاثةٍ من أطفالها إلى لبنان. انتظرت وانتظرت، وما من بارقة أمل تعيد إليها زوجها، أو تعيدها إلى بيتها وحياتها السابقة. “أميرة” لا تجيد أيّاً من الأعمال، لم تفكّر يوماً أنها ستضطرّ للعمل خارج البيت، لكنّها اليوم في موقع لا تُحسد عليه. ما يأتيها من معونات من المنظمات الإنسانيّة لا يكفي لسدّ الرمق، إلا أنّها تجيد صنع “الفطائر”. هناك في المخيّم تأتي “أميرة” إلى المدرسة صباحاً وبدوام رسميّ لثلاث ساعات، تصنع الفطائر للتلاميذ، حيث تعاقدت معها إدارة المدرسة. تحب “أميرة” عمل المطبخ وتجيده أيضاً، يقول لها جيرانها “نفسك طيّب على الأكل”.. لكن لم يخطر ببالها يوماً أنها ستمتهن هذا العمل.
كثيراتٌ هنّ النساء اللواتي عملن في هذا المجال في دول اللجوء، إذ لم يكن من الصعب على سيّدة سوريّة أن تجيد حفر الكوسا، ولفّ اليبرق، وصناعة التبولة والكبّة، كل ذلك لا يحتاج إلى شهادة جامعيّة، بل يحتاج إلى المهارة والإتقان وسرعة إنجاز الطلب كما تقول النسوة هنا.
من جانب، يساهم هذا العمل في دعم الأسرة، ومن جانب آخر يقي المرأة من الاستغلال بشتّى أشكاله وألوانه، هذا ما ركّزت عليه النسوة اللواتي يعملن في هذا المجال. ربما هناك أعمال أخرى يكون مردودها أوفر، لكن بالمقابل ستتعرّض المرأة للكثير من المهانة والاستغلال.
في لبنان تخطّى عدد اللاجئين المليون لاجئ، وكان لا بدّ من بذل الجهود لدعم المجتمع المضيف، وتعزيز ثقافة السلام والتسامح، فكان هناك مشروع مبتكر في بيروت، للتخفيف على النساء ومساعدتهن، حيث قامت جهة لبنانية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لدعم المجتمعات المضيفة وتعزيز التماسك الاجتماعي بإطلاق مشروع مطعم “طاولة سوق الطيّب” في بيروت، منطقة الأشرفيّة، شارع الأرمن. يختصّ بتقديم الأطباق المصنوعة من الخضار والمكوّنات الطبيعيّة التي تقوم على تحضيرها ربّات البيوت.
يقوم المشروع على تشغيل نساء سوريات ولبنانيّات، خضعن لورشةٍ تدريبيّة قبل البدء بالعمل.
“يساعد هذا المشروع في تحسين المستوى المعيشيّ والنفسيّ في آن معاً، كما تخلّصت النسوة السوريات من حالات الإحباط واجتياز المصاعب التي عشنها بسبب النزوح”، حسب مديرة المشروع.
وهناك في تركيا كان إعداد الطعام وبيعه، أحد أهم الحرف التي اشتغلت بها اللاجئات السوريات، كون الطعام السوري مفضلاً لدى السوريين المقيمين في تركيا.
وقد نقلت النسوة السوريّات فكرة “سوق التنابل”، المعروف في حي الشعلان بالعاصمة دمشق، فها هو اليوم في اسطنبول، من خلال صفحة فايسبوك، أنشأتها إحدى السوريات المقيمات في المدينة، لتأمين كل أنواع الخضراوات، جاهزة للطبخ، إضافةً لطهي الطعام.
وانطلقت فكرة المشروع لتحسين الأحوال المعيشيّة للأسر هناك، كما لتلبي حاجات السوريين في المدينة، ولاسيما الشباب، الذين لا يتقنون الطبخ، حيث وجدوا في منتجات السوق فرصة لتناول الطعام المنزلي، وتخفيف الغربة عنهم.
عدد من دُور الأيتام الخاصة بالسوريين في مدينة غازي عينتاب التركية، حاولت تأمين عمل للسوريات، ومنها بيت “ألفة” لرعاية الأرامل وعوائل الشهداء، الذي يؤوي عدة عائلات، بإدارة سيدة تمكنت من تأمين العمل لبعض النساء خارج المنزل، ولأخريات داخل المنزل من خلال الطبخ، حيث يقمن بتأمين طلبيات الطعام المطبوخ بناء على مواعيد مسبقة وكميات محددة.
وفي السودان، رغم التعاون الحكومي المختلف عن بقيّة البلدان العربيّة الأخرى، إلا أنّ اللاجئين السوريين هناك يعيشون ظروفاً معيشيّةً صعبة، ما يدفع معظم أفراد الأسرة إلى العمل، فعدد اللاجئين السوريين في السودان بلغ مائة وخمسين ألفاً تقريباً، لأن الحكومة لا تفرض تأشيرة دخول على السوريين، كما ترفض معاملتهم بوصفهم لاجئين، بل كفلت لهم الإقامة والتعليم والعمل رغم تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
وفي محاولة لتحسين دخل الأسر السوريّة، أطلقت رابطة المرأة هناك مشروع “مطبخ حواء”، بتمويل من فريق إحسان الكويتي، وذلك لتأمين فرص عمل للسوريات. تدير المشروع سيّدة سوريّة، ويشغّل سيّدات سوريات من ربّات البيوت والطالبات الجامعيّات.
الطبخ والإعلام، مجالان لا يخلوان من لمساتٍ فنيّة وحسٍّ إبداعي، ولجتهما المرأة السوريّة بزخم، وبرعت فيهما، واستطاعت أن تقدّم لأسرتها وثورتها خدماتٍ جليلةً، إضافةً إلى الأثر الأهم الذي يجعلنا نطمئن إلى مستقبل المرأة السوريّة فيما بعد، فهي لن تتهاون بعد اليوم في حقٍّ من حقوقها، ولن تسمح لبناتها أيضاً بالتهاون في حقوقهن.
بالتوازي مع مجلة “سيدة سوريا”