سامح يوسف
يمثل مفهوم “الجندر” (Gender) حجر الزاوية في معظم بنود الاتفاقيات الخاصة بقضايا النساء والأطفال والشباب، في سياق محاربة التمييز ضد النساء والدفاع عن حقوقهن. وبالرغم من أنه متضمن في قوانين معظم الدول، إلا أنه مجهول بالنسبة لغالبية الناس في الواقع العملي.
نشأة مفهوم الجندر
ظهر هذا المصطلح في سبعينيات القرن الماضي، في أوساط الحركة النسوية الغربية التي كانت تطوراً لحركات تحرير المرأة في بدايات القرن العشرين. وكان عالم النفس الأمريكي “روبرت ستولر” (الذي قد عمل مع عدة حالات من ذوي الأعضاء الجنسية المختلطة) أول من أشار إليه كمصطلح متمايز عن “الجنس” (sex). ثم جاءت بعده بقليل عالمة الاجتماع البريطانية “آن أوكلي” الكاتبة والرائدة في الحركة النسوية العالمية.
تعريفات الجندر
الجندر كلمة إنجليزية لاتينية الأصل، تعني الجنس من حيث الذكورة والأنوثة، وتستخدم في علم الاجتماع للتمييز بين الجنسين على أساس النوع الاجتماعي وليس على أساس الأعضاء البيولوجية الداخلية والخارجية التي تمييز الجنسين عن بعضهما البعض. من هنا تم التركيز على (الجندر) لأن الفروق الفسيولوجية بين البشر لا يمكن إنكارها أو تجاوزها، لذلك اعتمد التمييز بين الأجناس على أساس (النوع الاجتماعي) لأنه يوضح الفروق بين الرجل والمرأة من حيث الدور الاجتماعي، المنظور الثقافي والوظيفة، تلك الفروق الناتجة عن عوامل دينية وثقافية، وسياسية واجتماعية، أي إنها فروق صَنَعها البشر عبر تاريخهم الطويل.
تعرف منظمة الصحة العالمية الجندر بأنه “المصطلح الذي يعني استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات اجتماعية مركبة لا علاقة لها بالاختلافات العضوية”. وتجلى تبني المصطلح فيما بعد في بنود المؤتمرات الدولية ومؤتمرات المرأة، وعلى وجه الخصوص ما جاء في بعض بنود اتفاقية “سيداو” التي تم اعتمادها عام 1979 وأصبحت سارية المفعول عام 1981، بعد توقيع خمسين دولة عليها.
وقد دخل مفهوم الجندر إلى المجتمعات العربية والإسلامية مع وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان 1994، التي ذكر المصطلح في (51) موضعاً منها، مثال ذلك ما جاء في الفقرة التاسعة عشرة من المادة الرابعة من نص الإعلان الذي يدعو إلى تحطيم كل أشكال التفرقة الجندرية. ولم يثر المصطلح انتباه أحد، لأنه ترجم بالعربية إلى (الذكر/الأنثى). ثم ظهر المفهوم مرة أخرى ولكن بشكل أوضح في وثيقة بكين 1995، حيث تكرر مصطلح الجندر (233) مرة، فكان لا بد من معرفته والوقوف على معناه، من معرفة أصله في لغته التي أنتج فيها، والتعرف على ظروف نشأته وتطوره الدلالي. وقد رفضت الدول الغربية تعريف الجندر بالذكر والأنثى، واستمر الصراع أياماً في البحث عن المعنى الحقيقي للمصطلح، مع إصرار هذه الدول على وضع تعريف يشمل الحياة غير النمطية كسلوك اجتماعي، فيما رفضت الدول الأخرى أية محاولة من هذا النوع، فكانت النتيجة أن عرفت اللجنة المصطلح بعدم تعريفه. أما وثائق مؤتمر روما حول إنشاء المحكمة الجنائية الدولية المنعقدة في روما 1998، فإنها تكشف عن محاولة لتجريم القوانين التي تعاقب على الشذوذ الجنسي، حيث أوردت الدول الغربية: “أن كل تفرقة أو عقاب على أساس الجندر يشمل جريمة ضد الإنسانية”. وكان إدخال كلمة Gender في تعريف الجرائم بالإنجليزية أمراً غريباً في حد ذاته، فالنصان العربي والفرنسي استعملا كلمة (الجنس) ولم يستعملا كلمة الجندر، وعرفا الجندر بأنه (يعني الذكر والأنثى في نطاق المجتمع). وكما هو واضح من التعريف فإن عبارة (نطاق المجتمع) تعني أن دور النوع لكليهما مكتسب من المجتمع، ويمكن أن يتغير ويتطور في نطاق المجتمع نفسه.
ولمزيد من التوضيح في هذا المجال، يمكننا الحديث على سبيل المثال عن ظاهرة العنف على أساس النوع الاجتماعي، وهي ظاهرة منتشرة بشكل واسع في مجتمعاتنا العربية. هذا العنف الذي تتعرض له المرأة (أكثر من الرجل) في جميع مراحل حياتها، يشكل ظاهرة متجذرّة بشكل كبير في العلاقات السلطوية القائمة على أساس النوع الاجتماعي، وفي الحياة الجنسية وتكوين الهوية الذاتية، وكذلك في هيكلية المؤسسات الاجتماعية (الأسرة والمدرسة مثلاً). وينتج هذا العنف بحسب تعريف صندوق الأمم المتحدة “عن عدم التوازن في علاقات السلطة بين الرجل والمرأة. ويكون العنف موجهاً مباشرة ضد المرأة لأنها امرأة، أو أنه يمس المرأة بصفة متفاوتة ويتضمن الممارسات النفسية، الجسمية والجنسية (التهديد، التعذيب، الاغتصاب، الحرمان من الحرية داخل الأسرة وخارجها، وقد يتضمن أيضاً الممارسات التي تقودها الدولة أو الجماعات السياسية، وأيضاً العفو عن مرتكبي العنف ضد المرأة).
مفاهيم أساسية مرتبطة بالجندر
عرف “ستولر” أربعة مفاهيم رئيسية هي: الجنس، الجندر، الهوية الجندرية والنوع الجندري. ومع الوقت خفت استخدام مصطلح “النوع الجندري” في الأوساط النسوية، فيما تم تبني المصطلحات الثلاثة الأخرى. لقد عرفت “آن أوكلي” الجنس بأنه “مجموعة الخصائص التشريحية والفيزيائية التي تميز الذكورة عن الأنوثة.” فيما عرفت الجندر بأنه الأنوثة والذكورة التي لا علاقة لها بالبنية، بل بالمجتمع والثقافة والخصائص النفسية الأخرى التي يحصل عليها الرجل أو المرأة في مجتمع محدد في وقت ما.
ارتباط التصنيف الجندري بالعرق
وجدت العديد من الدراسات مؤخراً، ارتباطاً مثيراً بين الجندر وعوامل عديدة كانت غائبة عن العلماء لفترات طويلة. ففي دراسة أجراها “آدم غالينسكي” و”فيكرام بانديت”، وجد العالمان أن جندرة العرق لها آثار عميقة في الزواج المختلط (الزواج من عرق آخر) وانتخاب القادة، بل وحتى في التمثيل الرياضي للدول. في المحور الأول للدراسة الذي أجري بالتعاون مع علماء من جامعة “هارفارد”، طلب من المشاركين في الدراسة ترتيب الآسيويين والبيض والسود من حيث بعض الصفات على أساس الذكورة والأنوثة. واعتبر معظم المشاركين العرق الأسود الأكثر ذكورة، يليه العرق الأبيض ثم العرق الآسيوي. أما المحور الثاني، فقد خلص إلى تأثير الجندرة على العلاقات العاطفية. فالنساء يملن إلى الرجال المصنفين أكثر ذكورة، كذلك يفعل الرجال مع النساء الأكثر أنوثة. أي إن النسوة بالعموم ينجذبن إلى الرجال السود بينما ينجذب الرجال إلى النسوة الآسيويات. ويمتد تأثير جندرة العرق إلى اختيار المسؤولين عن الأعمال، فقد وجدت الدراسة أيضاً في محورها الثالث ارتباطاً بين العرق ونوعية الأعمال المسندة إلى المدير المعين. ففي الأعمال التي تحتاج إلى دقة ومهارات تواصل مميزة وبيئة عمل هادئة وسيطرة لروح الفريق، تغلب العرق الآسيوي في نسبة التعيينات. أما الوظائف القيادية التي تتطلب مقاربة خشنة وسلطة حازمة، فقد تفوقت نسبة السود على باقي الأعراق.
ورغم أهمية مفهوم الجندر وما بني عليه من نتائج في التحليل النفسي والاجتماعي للمجتمعات، يبقى المصطلح حتى اليوم نخبوياً، يعرفه العاملون في حقول الصحافة والبحث الاجتماعي ومشرعو القوانين، ولا يهتم له الإنسان العادي في عمله أو دراسته. ويقع على عاتق هؤلاء توعية الناس حول المفهوم، تلافياً لأي عنف أو تمييز قد ينتج عن تمايز الأنوع الاجتماعية للبشر في مجتمع ما.