ضحى عاشور
جرى مؤخراً اغلاق ملحقين ثقافيين في لبنان(ملحق نوافذ المستقبل وملحق النهار)، واغتيال سوريين عاملين في “الحقل الثقافي” في تركيا هم: “ابراهيم عبد القادر” و”فارس حمادي” من حملة “الرقة تذبح بصمت” و”ناجي الجرف” رئيس تحرير جريدة “حنطة”. هذه الأحداث التي تجري في سياقات متباينة بينها رابط جليّ هو استهداف الثقافة والمشتغلين فيها عبر تهديدهم بلقمة عيشهم وصولاً إلى التجرؤ على انهاء عيشهم ذاته. وبين هذين الحدّين تكاد لا تخلو يوميات حياتنا من اعتداءات وتهديدات وخطف واعتقال وتسريح من العمل أو منع من النشر أو دفع للاستقالة تطال كاتباً هنا وصحفياً هناك دون أن نغفل الفنانين وسواهم. ما يجعل الثقافة والمثقفين في وضع الحائط الواطئ الذي يستقوي الجميع عليه، يتسلقونه ويعبرون فوقه ثم يلوثوه أو يهدموه ساعة يشاؤون.
وإذا كان مفهوماً أن يتمكن محتكرو القوى المالية أو العسكرية من تسديد ضرباتهم القاصمة للثقافة، فما يبدو مستهجناً أن يساهم المهمشون في النيل منها (بوعي أو من دونه) وهم إما منتجين آخرين لها أو مستهلكين فعليين أو محتملين لمخرجاتها!
لعل موجة الانفجارات الثورية التي اشتعلت في تونس وانتشرت تداعياتها في أكثر من بلد، حملت في داخلها سخطاً عارماً جذرياً لكل ما تمثله السلطات السياسية التي احتكرت الثقافة ومنابرها كامتياز شبه حصري لرجالاتها وملمعي صورتها ومسلطي الضوء على عظمة انجازاتها، بحيث أنتجت ثقافة اقصائية لا مكان فيها إلا للسلطة ومن يدور في فلكها (باستثناءات عسيرة وعابرة) ما جعل الناس تشعر بغربتها واستلابها أمام هذه الثقافة الانتقائية التمييزية. وبالتالي جعلها على مسافة حذرة تضمر الشماتة إن لم يكن العداء تجاه الثقافة عموماً.
على الرغم من اشتغال مثقفين من خارج السلطة وبالضد منها على انتاج ثقافي مهم، دفعوا ثمنه غالياً، لكنه بقى متناثراً وصعب المنال في ظل تحكم الأنظمة القمعية بالفضاء والأرض معاً ومنعها دخول الصحف أو اقتطاع صفحات منها أو حجبها لمواقع الكترونية ناهيك عن تجريمها وملاحقتها لكل أساليب المعرفة العيانية المباشرة عبر التحقيقات والاستبيانات والمقابلات..الخ بالإضافة إلى كل ما راكمته عبر عشرات السنين من تشويه وغسل أدمغة عبر التركيز على الترهات والسفاسف، ومن خلال التزييف والأدلجة والادعاءات وما يسمى “تنقية وتعقيم المحتوى”.
ثمة اشكالات كثيرة عانت منها المنتجات الثقافية السابقة، تتلخص أهمها في النخبوية والترميز. ما يطرح على أي تحرك شعبي ثوري ملحاحية العمل على الاهتمام بالثقافة عبر تعميمها وجعلها في متناول الناس شيوعاً ونقداً وانتاجاً واستثماراً عبر فكّ رموزها المترفعة عن معالجة الواقع المعاش المشخص للبشر بما يحتويه من أسئلة حياتية مباشرة وصولاً إلى تأملاته الوجودية وأحلامه وخيالاته.
معلوم أن انتاج ثقافة بديلة هو عملية صراعية تجري داخل المجتمع وليس في معزل عنه، ما يعّقد شروط انتاج معرفة في ظل ظروف عامة وخاصة شديدة الوعورة والقسوة والتبدل. لكن حاجات البشر لمخزون مادي وروحي ينظم حياتها ومداركها لا تنتظر عادة توفر المنتج الثقافي المنجز، بل تستهلك ما يتوافر بين أيديها أولاً بأول، ما يفسر تشابه الكثير من سلوكيات و”أخلاقيات” الثوار والمتمردين التي لم تنضج بعد مع نقيضها المسيطر لزمن طويل مثل التبرير والتخوين والتشفي، عداك عن الشتائم والنواح والتظلم، مروراً بالأساليب الاستخباراتية في التفكير والممارسة، وصولاً إلى مختلف الصور السلبية للبيروقراطية والتسلط الإداري والشللية والمناطقية والطائفية.
يستطيع التبرير الشائع عن مسؤولية “النظام” عن تردي الوضع العام والثقافي ضمناً تفسير جزء كبير من الواقع اليوم، لكنه لا يعفي من مسؤولية طلاب الحرية من اقتحام حصن الأنظمة وهزّ شباكها التي تغلف بها سيطرتها على المجتمع بكل شرائحه وأفراده عبر منظومات ثقافية تتجلى في بلادنا عبر خليط انتقائي من الديني والعشائري والطائفي والطبقي.
لقد ساهمت الموجات الثورية مع شيوع وسائل التكنولوجيا الحديثة بإتاحة فرص كبيرة ومهمة أمام غالبية البشر للتعبير عن آرائهم والإفصاح عن وجودهم وفعاليتهم في الفضاء العام الواقعي والافتراضي، ما نتج عنه هدم جدران العزلة المفروضة من الأنظمة على شعوبنا تجاه معرفتها وتفاعلها مع بعضها ومع العالم بأسره. وما تحقق على أهميته يواجه اليوم خطر المراوحة في المكان، إن لم يكن الأسوأ المتمثل بالاستسلام لضغط الأحداث السياسية والعسكرية وبالتالي اعتزال الثقافة أو التقليل من شأنها أو التساهل مع الاعتداءات عليها والمساهمة فيه أحياناً عبر مختلف المظاهر التي هي في جوهرها نهل من مستنقع الثقافة السائدة: واجب طاعة أولي الأمر، والانصياع لقوى الأمر الواقع، وتحميل تبعات الفشل والانكسار للذات والشعوب المتخلفة والجاهلة والنفوس المريضة.
لعل احدى أسوأ مخرجات الثقافة السائدة في سوريا (والعالم) هي جدولة القضايا ووضع تراتبيات وأولويات يجري باسمها تجنيد المجتمع كله في سبيل خدمتها، ما يحرم عموم الناس من حقها الدائم والمستمر في المطالبات بذرائع التفرغ لعدو مزعوم لا تعدم الأنظمة وسيلة لاختراعه واستدعائه وتضخيمه للتلويح به والتخويف منه. ورغم معاداة الأنظمة وثقافاتها يستمر تبني الأفكار ذاتها عن تراتبية القضايا وتحديد الأولويات فيما يخص الدفاع عن حقوق مجموعات أو أفراد تتعرض للتشويه والانتقام والخطف والقتل والحرب المادية والمعنوية، حيث يتم التغاضي والتبرير أو التساهل مع “إجراءات” تصفية بشر أو خطفهم أو اغلاق منبر ثقافي أو منع صحفي من الكتابة وأحياناً من الاعجاب برأي ما. ناهيك عن ما هو أشد قسوة والمقصود الموقف من المرأة ومعاناتها، حيث لا حساسية تُذكر تجاه تهميشها والنيل منها بالفعل والكلام.
وفي الوقت الذي يُبدي فيه “ثوريون” ونشطاء مرونة عالية وتراخياً تجاه انتهاكات صارخة لحرية التعبير وحقوق المرأة وغيرها بدعوى أنها ستلاقي حلولاً تلقائية بعد النصر، بيقين يفوق اليقينين الايماني والسلطوي، يواظب أعداء الحرية على وأد أي بذرة تغيير محتملة بصفاقة وصلف لا ريب فيهما، ما يؤشر على أهمية وحيوية الفضاء الروحي والمادي للمجتمع وضرورة الاهتمام بإعادة انتاجه آخذين بالاعتبار كل مستجدات تمزق الكيان السوري جغرافيا وواقعاً ومآلات.
إن صورة أو مقالة أو أغنية بمفردها لم تخلع حاكماً يوماً ولن تفعل، لكن تراكم ثقافة الحياة، وسريان عدوى الاحتفال بقدرات الانسان وامكانية تغيير كل هذا الظلم والعنف، يجعل الكثير من قوى الاستبداد مذعورة حدّ استباق ومصادرة أية احتمالات تهددها عبر اغتيال المثقف جسدياً أو معنوياً عبر تشويهه والنيل من سمعته والحط من قيمة مُنتَجه. كما عبر تدمير المنجزات والبنى الثقافية المادية بما فيها مؤسسات و”ملاحق” ومكتبات وآثار و”اذاعات”…الخ
ومن أجل ثقافة بديلة لابد من العودة إلى الأسئلة البكر: لمن نكتب (أو نرسم أو نغني…)؟ ولماذا نكتب؟ وماذا نكتب؟ وكيف؟
اللوحة للفنان “فادي يازجي”
خاص “شبكة المرأة السورية”