فؤاد عزام
أفرغت سيارة “السوزوكي” ما تحمله من أثاث أمام أحد المحلات، خزانة وغسالة وتلفزيون وادوات اخرى، فيما أحد الشبيحة ينزل من بين الأثاث وهو يمسك بيد امرأة معفرة بالتراب مع طفلتها ليقول لصاحب المحل ضاحكاً: “هذه المرأة وابنتها بيعهن اتسبب فيهن” … ليرد صاحب المحل: “كمان هدول تعفيش؟ خدهن شو بدي ساوي فيهن ” … تمضي المرأة وطفلتها في امتداد الشارع المحاذي لبساتين بلدة في غوطة دمشق الشرقية.
“أم أمل” بين الشمس والتراب والماء… ثالوث خلود يسير أسيراً، ها قد ارتشفت الهواء شهيقاً، فلونه تغير واختلف الآن، لقد أماطت اللثام عن وجهها ليتسع صدرها أكثر، وتحتضن طفلاً أفّ الرصيف من بحثه عن أمه. ولتطلق يديها اللتين لاتحملان الخبز فحسب وإنما عصوراً تطويها من بداية الرحلة، لتفتح تلك اليدين بإيماءاتها نوافذ تطل على بساتين تضيق هي الأخرى بنساء خرجن من بين انقاض بيوت تستعر فيها النيران والشبيحة.
النسوة والأطفال كما الرحيل يسيرون بين أشجار البساتين وخلفهم دخان يتكاثف ليلحق بهم، طعم الهواء تغير، صوت القذائف وبراميل الطائرات يستبق الفعل، أزيز القذائف غشى صلاة الصبح، ثمة قافلة جديدة تنتظر بين مستقبل يعتصر الواقع دماً وتاريخ منكفئٍ إلى قصورٍ متهالكة.
” أم أمل ” النازحة مع طفلتها مازالت تنزح بذاكرتها إلى زوجها الذي قتل خلال مظاهرة لايزيح صورة وجهه من خيالها إلّا صوت دراجة نارية مكوم عليها أثاث فتحتضن طفلتها وتلتصق بشجرة يابسة أمام أحد البيوت… هي لم تعد تسأل عن الفاعل، فقد تجاوزت أفعاله خط الأسئلة بحيث بات لا يعني لها إلا الأمل في أنه يستنزف كينونته وشروره.
من هذا البيت تبدو “صباح” ابنة البلدة وقد تكثفت في ذاكرتها ألف حكاية وحكاية، قبل أن تنفض عن روحها غبار تلك العصور لتتجاوز فراش السرير وأواني المطبخ وتخرج من دميتها… لتعبر عتبة “الأسر” باحثة عن ذاتها بين حقيقة رؤياها، وتزيح وهمية حقيقة زائفة.
لم تعد تلحق قدميها، فقفزت وذاكرتها، هي لم تجتر أنينها خيراً مع ثنايا الفعل اليومي، الصبح الآن قد اختلف… ورحلة القافلة باتت عودة من الإغتراب الذاتي إلى نثر مفردات الحقيقة مع سطوع الشمس على جدران البيوت المظلمة؛ حيث الشوارع الحبلى بالثورة وبسيارات تعود بأثاثٍ يتقافز عليها شبيحة.
رأت كل ماهو واقع أفضل من ماضِ اغتصاب الذات والإرادة… رغم بشاعته فهو البداية وهو المخاض… ثمة ولادة ستتبعه وثمة كشف لذاتها التي ذابت مع ذوات تلك النسوة والأطفال الفارين من جحيم هو كالأفول زائل، التاريخ لم يعد يعني لها شيئا، وقطعان العصور الحاكمة باتت تمزق صيرورتها بنفسها، والصوت القادم من أعماق الماضي يعيده الواقع الى جحره… بيد أن صباح.. لتي امتزجت يقظتها مع الفعل وأصوات الأطفال والنسوة، تركض الآن باتجاههم بحثاً عن دنيا مختلفة رأتها في وجوههم وعيونهم.
للصوت شكلٌ من أشكال المطر ونغم من أهزوجة الرعد… بيد أن التربة التي بللها المطر أصبحت أكثر اخضراراً، فقد اكتشفت أن لشفتيها لغة أكثر من الحب واتساع الفكرة معاً. تساءلت: القافلة أنثى يقودها ذكر..؟ التربة تحكي الآن أكثر، فهي تزيح اغتصاب العُصاب، والمطر يجلي السماء ويسقي التربة. صاحت: التربة والماء جناحا طائرِ واحدٍ هو القافلة؛ الحياة.
لايهم، لم تعد تنظر إلى الخلف… النازحات وأطفالهن من بساتين الغوطة يعودون الآن إلى ذواتهم كما عودتها هي، لم تعد مفردات الطعام… والثياب… والفراش… تسير مع مفردات الكرامة… فبيتها بات يتسع للنسوة وأطفالهن كما قلبها الذي تعلم معنى آخر للحب حين احتضنت أم أمل ابنتها وقالت لها بصوت خافت: الدنيا أصبحت بخير.
تقذف أمل الكرة، يتلقاها طفل آخر، ليتجمع الأطفال يبحثون عن تلك الكرة، أمل التي لم تعرف الابتسامة طيلة أيام الحصار، هي الآن تلعب مع أطفال تلك البلدة. الكل خرج من بيته ومن أشيائه التي سورت على مدى العقود الماضية بجدران عالية… وأبعدت كل مدينةٍ عن المدينة المجاورة، وكل بلدة عن الأخرى، وكل عائلة عن الأخرى وكل أخ عن أخيه، إذ أن عقل الحاكم المحتل فتّت كل المكونات وسعى للقضاء على صيرورة المستقبل، بيد أن سورية بدأت تعود الآن بعد اغتراب وهاهي تُصاغ من جديد في ضمير وعقل أهلها.
اللوحة للفنان: غزوان علاف
خاص “شبكة المرأة السورية”