لمى راجح
ما زلت أذكر لحظة تخرجي من جامعة دمشق قسم الإعلام، يومها رسمت خيوط أحلامي بالعمل الإعلامي وما كنت أظن أنني أرسم مقبرة تلك الأحلام.
كنت أفتقر للخبرات في التحرير الصحفي، ولم أكن حينها أجيد من أبجد هوز الصحافة سوى ما تعلمته في الجامعة من مبادئ نظرية تحتاج للممارسة كي تنمو. بدأت في البحث عن عمل ولم تكن همومي متولدة عن متاعب بسبب المهنة كدلالة على الصحافة التي هي مهنة المتاعب، بل كانت نتيجة مقدار تحكم الواسطة والمحسوبيات في الحصول على عمل.
في عام 2009 التقيت بأحد الصحفيين وكان يدير موقعاً إلكترونياً متخصصاً بالمضامين الاقتصادية، وطلب مني العمل معه كمحررة. للوهلة الأولى استغربت من طلبه، أحقاً يريد مني العمل معه دون أن يتوسط لي أحد من معارفه أو أصدقائه؟
لم أتردد في قبول عرضه بل وافقت على الفور وباشرت العمل معه بتحرير التقارير الاقتصادية، غير أنه كان يعرض علي بين الحين والآخر العمل معه في جلب الإعلانات لموقعه، وكذلك مساعدته في إجراء (الريبورتاجات مدفوعة القيمة) وهي عبارة عن مقابلات مع أصحاب الشركات والمؤسسات ورؤوس الأموال، حيث درجت العادة على قيام الصحفي بإجراء مثل هذا النوع من المقابلات كنوع من الدعاية لهذه الشركة، ويتحدث عن أنشطتها ومنتجاتها مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين 100 ألف ليرة سورية وتصل إلى 150 ألف أو أكثر.
كنت أجد طلبه غريباً بعض الشيء، فأنا لا ناقة لي ولا جمل في العمل كمندوبة، وأفتقر لامتلاك أبسط الخبرات في إتقان هذا العمل، وفي كل مرة كنت أرفض ذلك.
عندما التقيته آخر مرة كانت لهجته قاسية بعض الشيء ولم يخلُ حديثه من التلميح لي عن مقدار غبائي !! حيث سرد لي قصصاً لنساء أستطعن من استخدام غنجهن الأنثوي وإقناع أصحاب الشركات في الإعلان لدى المؤسسات الإعلامية التي يعملن بها، وتمكّن من أخذ نسبة من الأموال المدفوعة. وبرأيه هذه المهنة لا تحتاج إلى خبرات مهنية بقدر ما تحتاج إلى خبرات في الإغراء الأنثوي، فالرجل يبقى رجلاً وضعيفاً أمام الأنثى، ويتعجب من نساء يدعين الفقر وجسدهن مصدر للرزق!
يومها قلت في نفسي أنه مجنون أو ربما يهذي، فهو يريدني أن أعرض جسدي كي أجلب له إعلانات لتمويل موقعه!
تركت عملي وتركت أحلامي خلفي وهربت، ووجدت في الهروب ملاذي ومخبأي بعيداً عن جعجعة المزادات الجسدية الأنثوية المعروضة في أسواق المال.
فيما بعد أصبحت على قناعة تامة أنه طالما لا تملك (الواسطة) لن تستطيع الحصول على عمل، فمن ناحية كانت وسائل الإعلام في سوريا محدودة ومسيطرة عليها من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي، ومن ناحية أخرى ساد الفساد الوظيفي مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسات الإعلامية، حتى بعدما شهدت سوريا في سنوات قبيل اندلاع الثورة ولادة مجلات خاصة وإذاعات، ولكنها في معظمها لم تستطع أن تخرج عن عباءة المحسوبيات أو تلقي بظلال الفساد بعيداً عنها، بل معظمها باتت بيئة مهيأة لانتشار (الواسطات)، أما الموظف فلا حول ولا قوة له ومحروم من أبسط حقوقه ومهدد بالطرد في أي لحظة وفقاً لعقود مبرمة تبيح للمؤسسة الإعلامية طرده دون أي مبرر، ودون أي تعويض.
بعد مضي عام توسط لي أحد أصدقاء العائلة للعمل في صحيفة تدعى “الفرصة” وهي تصدر كملحق لجريدة البعث ومكاتبها تتبع لمبنى جريدة البعث ووزراة الإعلام في شارع المزة الدمشقي. وكما يقال (الغريق يتعلق بقشة)، فقد وجدت أن ذلك فرصة لي بعدما ضاقت بي السبل ويا ليتني لم أفعل.
في صباح اليوم التالي توجهت لمكتب الجريدة وكانت تدار من قبل شخص يدعى محمد ونائبته في التحرير ميرنا، وقد دهشت من معاملتها القاسية للمحررات وكأنها تدير سوق نخاسة لا مؤسسة إعلامية، حيث تجبرهن كل يوم على التوجه لدوائر الدولة الرسمية ومؤسساتها من أجل جلب اشتراكات شهرية للجريدة من قبل هذه المؤسسات.
لم أستوعب الأمر، حتى هنا علي العمل كمندوبة مبيعات لا كمحررة! جلست مع الموظفات ولمست أوجاعهن في انتهاك حقوقهن في العمل، وأخبرتني إحداهن أنها مضطرة كل يوم لطرق أبواب الدوائر الحكومية، كي تعرض عليهم الاشتراك في الجريدة، وقد بلغت قيمة الاشتراك حينذاك 500 ليرة سورية. كما أنهن مجبرات على جلب الإعلانات للجريدة وأيضا إجراء (الريبورتاجات مدفوعة القيمة).
“ولكن ماذا عن العمل الصحفي؟”، سألتها.
أجابت: “لا يسمح لنا كمحررات في الكتابة سوى مرة واحدة في الأسبوع وأحياناً كل أسبوعين حيث تستند معظم مواد الجريدة الإعلامية في بنيتها على نظام الاستكتاب، أما راتبنا فنتقاضاه لقاء أعمالنا كمندوبات وليس محررات”.
يومها صعقت. كيف لصاحب الجريدة أن يستغل موظفاته اللواتي يعملن في التحرير ويزج بهن في العمل كمندوبات -لا أستهين هنا بالعمل كمندوب للإعلانات- ولكن كما يقال (عطي الخباز خبزه) وكان الأجدر برئيس التحرير أن يوظف كادراً مختصاً في مجال التسويق بدلاً من أن يدفع بموظفاته الصحفيات للعمل في هذا المجال.
حول ما سبق من إيراد أمثلة لم تكن الغاية منها التشهير بل تسليط الضوء على واقع الإعلام السوري قبل الثورة السورية، وما ذكرته هو مجرد غيض من فيض. فأثناء رحلتي في البحث عن عمل تمكنت من الولوج إلى بعض أروقة المجلات الخاصة، ومعظمها تخصص في الجانب الفني والاجتماعي واستغلال صاحبة الجلالة لتلميع صور أصحاب النفوذ في المجتمع، وعندما تقلب صفحاتها تجدها عبارة عن تحقيقات اجتماعية ومقالات وتقارير تتغذى على سطحية الأفكار، وجمال الإخراج، والعروض البراقة للمنتجات من عطورات وأزياء ومكياجات. وبالطبع لن أنسَ عندما طلبت مني رئيسة تحرير إحدى المجلات أن أكتب لها افتتاحية العدد الصادر، فهي لا تعرف أن تكتب حتى الافتتاحية فتخيل يا رعاك الله!
لن أتحدث هنا عن تجربتي في مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون، لأن ذلك قد يحتاج إلى فرد صفحات ووصف لمدى سيطرة القصر الجمهوري والجبهة الوطنية التقدمية على قرارات هيئة الإذاعة والتلفزيون.
اليوم وبعدما شهدت سوريا نهضة إعلامية بعد كبت دام أربعين عاماً، وولادة العديد من الوسائل الإعلامية من رحم الثورة، لا أقول أن العمل الإعلامي بات مقدماً على طبق من ذهب، فما زالت صاحبة الجلالة تعاني من وقوع العديد من حالات الانتهاكات بحق العاملين في المؤسسات الإعلامية، ومازالت العقود المبرمة معهم غير منصفة لهم ومجحفة بحقهم في كثير من الأحيان، وتفتقر المؤسسات الإعلامية للخبرات والدراية في العمل الإعلامي وكيفية التأثير في الرأي العام، غير أن العديد من المؤسسات الإعلامية تمكنت من وضع قدمها على طريق المأسسة، نتيجة جهود الكثيرين في تحسين وضع المؤسسات الإعلامية في سوريا لاسيما بعد انطلاق الثورة السورية، وما كنتُ أعاني منه في الأمس بدأ يتلاشى اليوم ضمن هذه المؤسسات، حيث أعمل مع إحداها وفقاً لأصول مهنية مرعية، بعيداً عن عرض الأجساد على مذابح التسفيه الأنثوي، وحتى عندما أتعامل مع الجهات الممولة، فيكون ذلك ضمن سياقات واعتبارات مهنية وليس مجرد تسويق لغنج أنثوي وسحر جسدي.
“ما ورد في هذه المقالات ينم عن تجربة شخصية، وقد تختلف عن تجارب الآخرين”
خاص “شبكة المرأة السورية”