إعداد: رهف موسى
تعاني المرأة حول العالم من العنف بمختلف أشكاله الجسدية والمعنوية، ويخرج هذا العنف من نطاق العشوائية ليكون مقونناً أحياناً في إطار الدولة وتقليداً عاماً في المجتمعات في أحيان أكثر. إلا أن الجهود باتت تتجه في العقود الأخيرة نحو تمكين المرأة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، لتكون أهلاً لمواجهة هذا العنف بنفسها، بالإضافة إلى توعية المجتمع بدورها في التنمية والتنشئة.
يفيض تاريخ البشرية بمنجزات رجالها وإسهاماتهم في عمليات التنمية، بتزامن مع إغفال دور المرأة في البناء المجتمعي بذات المستوى. بل إنها في بعض الأحيان اعتُبرت في المرتبة الثانية، ومازالت تعتبر كذلك في كثير من دول العالم. وفي نفس السياق يتم تصنيف المرأة في جميع أنحاء العالم على أنها جزء من المجموعات المهمشة والضعيفة، في الوقت الذي تسعى فيه المجتمعات إلى تسهيل عملية تكيف المرأة مع تهميشها.
بالرغم من وجود مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1945 وإعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، لا تزال الكثير من دول العالم بحاجة للاهتمام بموضوع تمكين المرأة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً لتمارس دورها الطبيعي في عملية التنمية. لكن للأسف تؤكد الأدلة أن الكثير من العاملين في مجال التخطيط التنموي في العالم العربي وفي أفريقيا يعملون استناداً على فرضية أن أي مشروع يفيد جزءاً من المجتمع (الرجال) هو بالضرورة يفيد المجتمع ككل (نساء ورجالاً)، لذا يتم في الغالب توجيه تمويلات المشاريع التنموية نحو الرجال. وكذلك فإن العديد من الدول تسن قوانين وممارسات تكرس تهميش المرأة وتسهل التهرب من عواقب العنف ضدها. ونتيجة لذلك، برزت العديد من المبادرات المستجيبة للقضايا المتعلقة بحقوق المرأة، وفي المنتديات العلمية، ومنها مؤتمر الأمم المتحدة للمرأة في بيجين.
كذلك فقد برز أن التمكين المرأة اقتصادياً ذو أهمية كبيرة في تسريع عملية التنمية في الدول النامية.
وشكل الفقر المتزايد بين أوساط النساء الجانب الحيوي من خطة عمل مؤتمر بيجين عام 1995، كما تم إدراجه كظاهرة يجب علاجها في الأهداف الألفية للتنمية، التي كان على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تحقيقها بحلول عام 2015.
العلاقة بين تمكين المرأة والتنمية الاقتصادية
ركز الاتحاد الأفريقي في منتدى التنمية الأفريقي السادس في عام 2008 على أن هناك أدلة قاطعة بأن تمكين المرأة هو عامل رئيسي في مكافحة الفقر ومرض نقص المناعة المكتسب ووفيات الرضع والأمهات والعنف ضد المرأة والتمييز ضد النوع الاجتماعي، إضافة إلى تقليص فجوة النوع الاجتماعي وتوفير فرص متساوية وتحسين فرص تمثيل المرأة. وقد بات من الجلي أن تحقيق الهدفين الأول والثالث من أهداف الألفية للتنمية، المتعلقين بالقضاء على الفقر وتحقيق المساواة بين الجنسين على التوالي، هما أساس لتحقيق الهدف الثامن والذي ينص على إقامة شراكة عالمية من أجل التنمية. لذا فقد بات من الواضح مدى الصلة بين المساواة بين الجنسين والنمو الاقتصادي. في دراسة تمت في الهند، ظهر أن الدول التي لديها عدد أكبر من النساء في قواها العاملة تنمو بشكل أسرع وتخرج أعداداً أكبر من دائرة الفقر، مقارنة مع الدول التي تشكل النساء نسبة منخفضة من قواها العاملة. وبالفعل، يقدر بأنه كان بإمكان دول شبه الصحراء الأفريقية مضاعفة نموها السنوي تقريباً في الفترة ما بين 1960 – 1992 فيما لو أنها قلصت الفجوة بين الجنسين في التعليم بنفس السرعة التي تمت في دول شرق آسيا.
التمكين السياسي للمرأة
ظل نظاق العمل السياسي لقرون عديدة حول العالم حكراً على الرجال، كونهم العنصر “الأقوى” في المجتمع، لذا غالباً ما يعزى غياب المرأة في الهياكل السياسية الثابتة إلى القوى الأبوية والإقطاعية والرأسمالية، التي أبقت المرأة معزولة عن المحيط العام داخل شرنقة المنزل والأسرة والعناية بالأطفال، وإن كانت قد سمحت لها بالعمل، فإنها لفترات طويلة لم تشغل سوى الأعمال قليلة الأجور. كما أن الدراسات تشير أن الاستعمار كان عاملاً في إخضاع المرأة واستثنائها من السياسة.
وكردود فعل على إقصاء المرأة من مناصب السلطة، أصبح مفهوم “التمكين” قضية مركزية عند الحديث عن السياسة من قبل المناصرين لحقوق المرأة. فالتمكين يؤخذ على أنه عملية يتم من خلالها اكتساب شخص مضطهد بعد السيطرة على مجريات حياته من خلال المشاركة مع الآخرين في تطوير الأنشطة والبنيان، التي تتيح للشعب مشاركة أكبر في الشؤون التي تؤثر عليه تأثيراً مباشراً. أما تمكين المرأة فيقصد به تحريرها من قيود العمل التقليدي داخل الأسرة، وفتح الأفق لها لاستكشاف قدراتها وإمكانياتها، ومع الوقت مشاركتها، إن رغبت، في العمل السياسي الذي يسعى إلى تحقيق مصلحتها على المستويات المحلية والدولية وعلى جميع الأصعدة السياسة بفعالية كبرى.
وقد ازداد الاعتراف العالمي أكثر فأكثر في الآونة الأخيرة بقدرات المرأة ومهاراتها في مجال القيادة. فارتفع معدل تمثيل المرأة في البرلمانات الوطنية على مستوى العالم تدريجياً من 15% في العام 2002 إلى 19.8% في العام 2012. وكذلك شهدت بعض المناطق ارتفاعاً مفاجئاً على نحو خاص، كما في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث ازداد عدد النساء في البرلمانات من 13.7 إلى 19.8%، وفي منطقة الدول العربية، التي شهدت ارتفاعاً من 6.1 إلى 14.7%. ولا يزال هذا المعدل رغم ذلك أدنى من العلامة المرجعية التي تساوي 30%، وغالباً ما تحدّد على أنها مستوى التمثيل الأساسي لتحقيق “الحجم الحرج” المطلوب، هذا دون التطرّق إلى النسبة الدنيا لتمثيل المرأة، علماً أن النساء يمثّلن نصف سكان العالم.
الآثار الإيجابية للتمكين السياسي للمرأة
أثبتت التجربة في الآونة الأخيرة أن تمكين المرأة كقائدة في المجال السياسي، يمكّن الدولة بدورها من رفع معايير مستوى المعيشة، والقيام بتطويرات إيجابية في مجالات التعلم والبنية التحتية والصحة، إضافة إلى تحقيق خطوات ملموسة باتجاه الديمقراطية. وقد نشر المعهد الديمقراطي الوطني تقريراً بعنوان “ما أهمية المرأة في الحياة السياسية؟” وتضمن العديد من الأمثلة على الآثار الإيجابية للتمكين السياسي للمرأة حول العالم ومنها:
- انطلاقاً من البيانات المستطلعة من 19 دولة من دول التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، وجد الباحثون أنّ ارتفاعاً في عدد المشرِّعات ينتج عنه زيادة في مجموع النفقات التعليمية.
- في مسحٍ شمل 187 امرأة يشغلن مناصب عامة في 65 دولة، وجد الاتحاد البرلماني الدولي أنّ 90% يرين من مسؤوليتهنّ تمثيل مصالح النساء والمدافعة عن سائر أفراد المجتمع.
- في الهند، تبيّن الأبحاث أنّ القرى الواقعة غرب بنغال تحظى بنسبة تمثيل أكبر في المجالس المحلية، وقد شهدت استثماراً في مرافق مياه الشرب التي تضاعفت مقارنةً بالقرى ذات المستويات المتدنية من النساء المنتخبات، ومن المرجّح أن تكون الطرقات أفضل حالاً بمرتين. وقد كشفت الدراسة أيضاً أنّ وجود امرأة في رئاسة المجلس تقلّص من الهوة بين الجنسين في المدارس بنسبة 13 نقطة مئوية.
- على الرغم من أنّ النساء البرلمانيات في الأرجنتين يمثّلن 14% من النواب فقط، فقد قدّمن ما لا يقلّ عن 78% من مشاريع القوانين المتعلقة بحقوق المرأة.
- في دراسة حول النساء السويديات في الهيئات التشريعية المحلية، أبدت النساء أفضليةً لرعاية الطفل والعجزة مقارنةً بالمواضيع الاجتماعية الأخرى. وهذه الاختلافات في الأولويات تنعكس في أنماط الإنفاق المحلية، بمزيد من التمويل الموجه نحو رعاية الطفل والمسنّ في الدوائر الانتخابية ذات نسبة التمثيل المرتفعة من النساء.
- سمّت نسبة 14% من المشرّعات في الولايات المتحدة الأميركية الرعاية الصحية “القضية الأولى ذات الأولوية”، مقابل نسبة 6% فقط من المشرّعين الذين اعتبروها قضيةً مهمة. والأمر مشابه في مختلف أنحاء العالم، حيث تولي المشرِّعات دوماً التركيز على الرعاية الصحية.
- في أماكن منوّعة مثل تيمور الشرقية، كرواتيا، المغرب، رواندا وجنوب أفريقيا، أدّى الارتفاع في عدد المشرِّعات إلى اعتماد تشاريع مرتبطة بمناهضة التمييز، العنف المنزلي، القوانين الأسرية، الإرث، ورعاية الطفل وحمايته.
العنف الاجتماعي ضد المرأة وأثر التمكين الاقتصادي على التخفيف منه
تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية أن واحدة من كل ثلاث نساء في العالم ستعاني من العنف البدني أو الجنسي في حياتها. وأكثر أشكال العنف التي تتعرض لها المرأة شيوعاً هو عنف الشريك؛ فقد وجدت دراسة عالمية لجرائم القتل أن حوالي نصف جرائم القتل التي تروح الإناث ضحاياها يرتكبها أفراد الأسرة أو الشركاء، بينما لا تزيد تلك النسبة لدى الذكور على الخمس إلا بقليل. وقد أدت الأزمات الاقتصادية الراهنة إلى تفاقم الحرمان الاقتصادي لدى لمرأة، كما أدت تخفيضات الإنفاق الاجتماعي الناتجة عنها على الصحة والتعليم إلى تصاعد خطر تعرض المرأة للاستغلال والعنف.
تعمل المؤسسات والمنظمات التي تقدم القروض الصغيرة على تركيز جهودها على النساء باعتبارهن أحد الفئات الأساسية المستهدفة، إلى جانب الفقراء والعاطلين عن العمل، لا سيما وأن المعايير الدولية لأفضل الممارسات الإقراضية التي تحددها المؤسسات والمنظمات المانحة باتت تركز على رفع نسبة النساء اللواتي يتلقين التمويل مقارنة مع نسبة الذكور الذين يتلقون التمويل من تلك القروض. حيث تعتبر تلك المؤسسات ارتفاع هذه النسبة مؤشراً على مدى تقدم أوضاع المرأة في المجتمع، كما أنها تؤثر بشكل مباشر على وضع المرأة كأحد مؤشرات تحقيق التنمية. وفي ذات الوقت تشغل قضايا العنف على أساس النوع الاجتماعي اهتمام المنظمات المعنية بشؤون المرأة إضافة إلى المؤسسات التنموية في المجتمع. يعد العنف المبني على النوع مفهوماً ينطوي على أبعاد نفسية وبيولوجية واجتماعية وثقافية متداخلة، بدرجات تتفاوت بحسب كل حالة يتم فيها إيقاع فعل العنف على الضحية.
لقد أشارت العديد من الدراسات أن ظاهرة العنف ضد الزوجات، ظاهرة عالمية تختلف أشكالها باختلاف مستوى التقدم بين الأمم في المجتمعات، فهي أكثر انتشاراً بين الأسر في الدول النامية منها في الدول المتقدمة. وفي هذا السياق، أشارت دراسات حديثة أن حوالي 80% من النساء في أوغندا، و94% من النساء في بنغلادش قد وقع عليهن نوع أو أكثر من العنف خلال حياتهن، مثل العنف الجسدي والجنسي والنفسي من قبل أزواجهن. كذلك لوحظ ارتفاع ملفت بمعدلات العنف المبني على النوع الاجتماعي في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة، خاصة معدلات الاغتصاب. تدل الإحصائيات أن العنف الأسري في الدول العربية ليست ظاهرة نادرة أو بانحسار، فأكثر من 50% من النساء اللواتي شملتهن الإحصائيات في الأردن وتونس والضفة الغربية وغزة ذكرن أنهن قد تعرضن للعنف الأسري.
في دراسة حول العنف المبني على النوع الاجتماعي في أمريكا اللاتينية تم التركيز على أفضل الممارسات لمنع حدوثه من خلال تقديم الخدمات الملائمة للنساء المتضررات من هذا النوع من العنف، وخلصت إلى أن أفضل إجراءات التدخل لمنع وقوع العنف المبني على النوع الاجتماعي كان من خلال توظيف منهجية متعددة المستويات، على المستوى الفردي بتمكين المرأة اقتصادياً واجتماعاً، وعلى مستوى المجتمع المحلي بالعمل على تغيير الاتجاهات المشجعة على ممارسة العنف ضد المرأة، والمستوى المؤسساتي بتعديل السياسات والقوانين المتسامحة مع أفعال العنف ضد المرأة.
وفي دراسة أخرى عن دور القروض الصغيرة الموجهة للنساء في الحد من العنف المبني على النوع الاجتماعي في الأردن، دلـت نتائـج الدراســة علـى أن للتمكين الاقتصادي دوراً كبيراً في الحد من العنف المبني على النوع الاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى أشارت النتائج أن التمكين الاقتصادي للمرأة يساهم في زيادة وعيها بحقوقها الإنسانية.
وعلى الرغم من التحسن الذي شهدته أوضاع المرأة في العالم بشكل عام، وفي العالم العربي بشكل خاص، إلا أنه لا يزال هناك الكثير من الجهود التي لا بد من بذلها لتحسين أوضاع المرأة على اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، حيث تعتبر مشكلة العنف المبني على النوع الاجتماعي من المشكلات الاجتماعية التي تزداد نتيجة تسارع التغيرات المادية والتكنولوجية المعاصرة، والتي لا تواكبها التغيرات الاجتماعية على مستوى قيم وعادات وأعراف المجتمـع.
بالاشتراك مع مجلة “سيدة سوريا”