سلمى الدمشقي
منذ بدايات الثورة، كانت الأحياء الفقيرة ومناطق السكن العشوائي هي الحاضنة الأساسية للمظاهرات، ولاحقاً للعمل المسلح. وبالتالي كانت الهدف الأول والأساسي لقصف النظام وهذا أدى إلى تدمير مناطق شاسعة من هذه الاحياء وإلى تهجير مئات الالوف من الفقراء الذين نزحوا إلى مناطق أمنة داخل البلد بالإضافة إلى الالاف الذين هاجروا إلى المخيمات في البلدان المجاورة.
استهداف هذه المناطق الفقيرة أدى إلى بروز مشكلاتها إلى السطح، بالإضافة إلى احتكاك سكان هذه المناطق نتيجة النزوح بسكان آخرين، أفضل منهم في مستوى المعيشة، جعلهم يتشاركون أهم هذه المشكلات، وهي الأمية. فأغلب الفقراء الذكور لا يحملون سوى شهادة التعليم الأساسي، ويعمل أغلبهم بالورشات والحرف المتنوعة، وأغلب النساء أميات، لا يعملن، ويتزوجن في سن مبكرة. إضافة إلى الأعداد الكبيرة التي ينجبونها من الأطفال، فمتوسط عدد الأبناء العائلة في هذه الأحياء 6 أطفال. وهناك نسبة لا بأس بها من العائلات، يرتفع فيها العدد إلى 10 و12 طفلاً للعائلة الواحدة.
ترافق النزوح مع تناقص كبير في أعداد المعيلين الذكور لهذه العائلات، نتيجة الاستشهاد، الاعتقال، الهروب والخطف.
هذا التناقص في أعداد المعيلين أدى لخروج المرأة إلى سوق العمل، بحثاً عن قوت أطفالها، وهي لا تتقن أي مهنة، ولا تحمل شهادة علمية، ولم تخرج سابقاً سوى من منزل أهلها إلى منزل زوجها. بالتالي انحصرت الأعمال التي يمكن أن تمارسها النساء بالحرف اليدوية البسيطة، كالحياكة والتطريز وأعمال الصوف، وفي المعامل والورشات، وفي المنازل والمدارس والمكاتب كمستخدمات.
هذا الخروج الإجباري للنساء إلى سوق العمل، مع ما رافقه من استغلال بشع من قبل أصحاب الأعمال، بزيادة ساعات العمل وخفض الأجور، نتيجة الفائض في العرض لليد العاملة، كانت له نتائجه الإيجابية إلى حد ما، في تغيير الصورة النمطية للمرأة في هذه المجتمعات.
وبالطبع، ترافق هذا مع كثير من الضغوط الاجتماعية والنفسية، والتجارب الفاشلة، والابتزاز من قبل المحيطين بهذه المرأة، التي لم تخالط سابقاً سوى أهلها وجاراتها، واعتمدت على زوجها أو أبيها في تأمين كافة احتياجات منزلها. بالإضافة إلى أن أغلب المجتمعات الفقيرة هي مجتمعات محافظة، حيث صوت المرأة عورة، وخروجها من منزل أهلها دون مرافق غير مرغوب فيه، ومن المعيب أن تعمل لتساعد أهلها أو زوجها، فدورها يقتصر على تربيتها لأطفالها.
اكتشفت هذه المرأة أنها لن تغتصب، ولن يتعرض أحد لأخلاقها، ولن تصبح ذات سمعة سيئة إذا خرجت وحيدة تبحث عن قوت أطفالها، وأنه يمكنها مواجهة من يحاول ابتزازها، وأنها إذا كانت تملك الشجاعة الكافية والإصرار، فيمكنها أن تجد عملاً وتنجح فيه، ويمكنها كذلك أن تطعم أطفالها، بدلاً من التسول في الشارع، والوقوف على أبواب الجمعيات طلباً للسلة الغذائية.
واكتشفت أيضاً أن هناك الكثير من المجتمعات التي لا تشبه مجتمعها الذي تربت فيه، حيث توجد فيها نساء يعملن، ولديهن مساحة من الحرية كافية للعمل والدراسة والاهتمام بالأطفال، ولا ينظر إليهن على أنهن منحلّات أخلاقياً أو شبيهات بالرجال، فقط لأنهن لا يضعن الحجاب ويلبسن البنطال.
داخل مطبخ أحد مراكز الإيواء في دمشق، طلب من النساء المهجرات مساعدة الكادر المتطوع في أعمال تقطيع الخضار والطبخ. جوبه هذا الطلب بداية بالرفض الشديد، كون الكادر يحوي شابات وشباناً يعملون معاً. ومع الوقت، ومع مراقبة النساء المهجرات لهذا الكادرعن بعد، ومع مرور الأيام، وتولد الثقة نتيجة التعارف ومساعدة الكادر لهن في حل مشاكلهن، نتيجة لذلك أصبحت النساء يتزاحمن على أعمال المطبخ، والكل يردن أن يثبتن أن بإمكانهن العمل والطبخ والاهتمام بالنظافة العامة.
ومع تزايد حالات اندماج النساء بمجتمعاتهن الجديدة، وتعرفهن على كثير من الشباب المتطوع والذين هم في أغلبهم من شباب الحراك السلمي، بدأت تبرز الكثير من المشاريع الصغيرة والممولة ذاتياً، أو بدعم بسيط ولمرة واحدة من إحدى الجهات المانحة، كالكنائس وغيرها من الجهات. ولدينا أمثلة حية كثيرة على ورش خياطة صغيرة قامت بتمويل بسيط، وكل العاملات بها من المهجرات، وبإشراف من شباب الحراك، وأنتجت الكثير من المواد التي وزعت بمساعدة المنظمات على مراكز الإيواء ومخيمات النازحين (لحف – ألبسة – شراشف…). بالإضافة إلى إنتاج الكثير من الأعمال اليدوية الجميلة التي شاركت في معارض كثيرة أقيمت باسم الثورة، كالأشغال اليدوية والصوفية والشنط والبروكار… بالإضافة إلى المطابخ العديدة التي أنشئت في كل الأماكن التي يتواجد بها مهجرون، سواء داخل البلد أو خارجه، وقامت بإنتاج الكثير من الأطعمة والحلويات السورية المعروفة. فضلاً عن أعمال “المونة” وتجهيز المواد الأولية لمستلزمات الطبخ.
باختصار، يمكننا القول إن إحدى إيجابيات هذه الثورة أنها جعلت السوريين يعرفون بعضهم البعض، يعرفون أسماء القرى والبلدات البعيدة وغير الموجودة على الخارطة، والتقارب الإجباري في مناطق النزوح جعلهم يحسون بمشكلاتهم وهمومهم المشتركة، وإن هناك الكثير من القواسم التي تجمعهم، وهي أكبر من الطوائف التي تفرقهم.
هذه الظروف جعلت النساء أكثر وعياً وأقوى وأكثر إصراراً على حقهن في الحياة والعمل. إحدى نساء الغوطة، والتي لم تخرج من بيتها قبل الثورة واضطرت للخروج مع أطفالها من الغوطة، سألتها بعد مضي أكثر من 6 أشهر على عملها في إحدى ورشات الخياطة عما إذا كانت ستعود إلى المنزل بعد أن تهدأ الاحوال، لمعت عيناها وهي تقول: “مستحيل، ما عاد فيني أرجع للبيت بعد ما عرفت قديش حلو الشغل..”.
وهي مجرد عينة من هؤلاء النساء، وتبقى هناك الكثير من النساء الأخريات ما زلن يتحملن الأعباء الكبيرة للنزوح وتربية الأطفال دون معيل، منهن من امتهن التسول، ومنهن من خضعت لإغراءات المال السهل، ومنهن من لا يحركن ساكناً، ويقفن بالساعات على أبواب مطابخ الإيواء والجمعيات. وتبقى رحى هذه الحرب الطاحنة تطال الشعب السوري بكل فئاته، وتحمله كلفة كبيرة من الدم والدمع والخراب والتهجير.
بالتزامن مع مجلة “سيدة سوريا”