بشرى البشوات – سوريا – الحسكة
في ظل سوء الأوضاع السورية المرشحة للاستمرار لسنوات، والحرب الدائرة تي لا تعلم نهايتها، تتوالى الخسارات السورية التي فاقت التوقعات، ويغدو العجز سمة غالبة على كافة نواحي الحياة التي باتت مشلولة تقريباً.
تعترف جميع البلدان النامية بالعمل كحق أساسي من حقوق الإنسان، وقد تعهدت جميع الدول في قمة كوبنهاغن عام 1995 بوضع خطط للقضاء على الفقر وتأمين العمل للمواطنين.
في سوريا، وحسب إحصائيات عام 2000، يتجاوز معدل البطالة 23%، وتترافق البطالة مع الفقر وانعدام الدخل، وبالتالي انعدام الإحساس بالأمان. وتشكل البطالة في الريف السوري نسبة عالية جداً، لكنها تقديرية لا تخضع لإحصائيات دقيقة، لأسباب منها: الهجرة إلى المدن والسفر خارج البلاد.
ولا يمكن النظر إلى البطالة الذكورية بمعزل عن بطالة الإناث، إذ تبلغ النسبة بينهن 42.4% من إجمالي البطالة، حيث تكون مشاركة المرأة الأكبر “51.2%” في العمل الزراعي، والباقي في أعمال غير منتظمة، وذلك حسب الإحصائيات سالفة الذكر.
هذه التقارير نشرت قبل سنوات، حين كانت سوريا تعيش في حالتها الطبيعية، ومع دخول البلد في الحرب وخروج الكثير من القطاعات من برامج التشغيل، ظهرت المشكلة على السطح بسرعة مهولة ومؤلمة، واتضحت في شمال سوريا (مدينة الحسكة) التي عانت أصلاً من تهميش متعمد وندرة في فرص العمل، ومن مواسم الجفاف التي أخرجت الكثير من الأراضي الزراعية من قائمة الاستثمار، متسببة بحركة نزوح كبيرة وزحف ريفي باتجاه المدينة، خصوصاً بعد سيطرة قوات تنظيم الدولة على مساحات واسعة من الريف الغربي لمدينة الحسكة وسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على مساحات أخرى، وبالتالي استمرار المعارك والقتال وهجرة آلاف العائلات العربية واستقرارها على أطراف المدينة، مع تدني مستوى الخدمات وضعفها، وندرة فرص العمل بالنسبة للرجال والنساء على حد سواء. كل ذلك أدى إلى انخراط النساء الريفيات في العمل لسد جزء صغير من متطلبات وحاجات الأسرة، خاصة في الأسر التي فقدت معيلها من زوج أو أب أو أخ. ومع غياب التعليم وقلة الخبرات، ظل جني المحصول وزراعة الأرض الخبرة الوحيدة التي يمتلكنها.
بحثت هؤلاء النسوة عن عمل يستطعن القيام به، يؤمّن لهن ولأسرتهن الكفاف، ومن هذه الأعمال التي تقوم بها النساء حالياً وتلاحظ في شوارع الحسكة: العمل في تنظيف الشوارع، حيث قامت الأمم المتحدة بالتعاون بين البرنامج الإنمائي وهيئة الشباب في المجمع الكنسي بطرح مشروع إزالة النفايات الصلبة من مدينة الحسكة.
في مقرهم الكائن وسط المدينة التقينا السيد إلياس مارديني، المكلف بالإشراف على المشروع، حيث قال: “فكرة المشروع كانت من الأمم المتحدة، والغاية منه إيجاد فرص عمل لأكبر عدد ممكن من الأشخاص، بالإضافة إلى نظافة مدينة الحسكة التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى حاوية كبيرة بسبب الإهمال وتقاسم أماكن السيطرة بين النظام ووحدات الحماية الشعبية”.
وأضاف: “عدد النساء المشتغلات في المشروع 38 سيدة، ومدة العقد ثلاثة أشهر قابلة للتجديد حسب ظرف العاملة. أما وقت العمل فمن السادسة والنصف حتى العاشرة والنصف صباحاً، وهو توقيت خاص بالنساء لتتمكن المرأة من العودة إلى بيتها في أسرع وقت ممكن، ندفع راتباً شهرياً قيمته 24000 ليرة سورية”.
وعن معايير التوظيف يقول: “نقوم أولاً بتوظيف المطلقات والوافدين من خارج المحافظة، النازحين من داخل المحافظة والمعاقين إعاقات بسيطة تمكنهم من العمل، وأخيراً طالبات الجامعة”. هناك خمس طالبات جامعيات يعملن ضمن المشروع، التقينا إحداهن وحدثتنا عن التجربة، تقول أمل، طالبة في جامعة الفرات قسم التربية: “سمعت عن المشروع من جارتي وحضرت إلى هنا للتسجيل، وحين أخبرت المدير بأنني طالبة جامعية تفاجأ بطلبي، لكنني قلت له أني أريد مساعدة نفسي ريثما أتمم دراستي الجامعية، فقد نزحنا من ريف تل تمر ووضع أهلي المادي سيء للغاية”. تحمل أمل مكنستها، تسوي لثام وجهها بشكل جيد، أسألها: ألا تشعرين بالخجل والإحراج؟ فتقول: “لا، ما دام عملاً شريفاً” وتمضي.
يضيف الأستاذ إلياس أن “العاملات من النساء يقمن بعملهن بمهارة أكبر من الرجال، والكثيرات يطلبن إلينا تجديد العقد، ولم يجدن إحراجاً ولا صعوبة مثلما كنا نعتقد في بداية المشروع”.
وحيث تقوم النساء بكنس وإزالة النفايات من شوارع مدينة الحسكة، تقوم نساء أخريات (بنبش القمامة)، أم محمد الأرملة منذ سنوات لديها ولد واحد مازال دون الخامسة عشرة، تخرج من بيتها في منطقة النشوة منذ السادسة صباحاً، قاصدة أماكن تجميع القمامة، حيث تقوم بفتح ونبش أكياس القمامة لتلتقط منها العلب البلاستيكية وتجمع الخبز اليابس. تقول أم محمد: “أخرج باكراً، أدور على الحاويات وبكيس كبير أشده إلى ظهري أجمع ما تيسر لي”. يشتري منها التاجر كيلو البلاستيك بمبلغ 11 ليرة سورية وكيلو الخبز اليابس بمبلغ 15 ليرة سورية. لا تجمع أم محمد أكثر من 3 كيلو في اليوم من كل نوع، وفي نهاية كل شهر لا يتجاوز جل ما تحصل عليه 1000 ليرة سورية، هو راتب لأرملة معيلة لولد وحيد تقضي نصف نهارها تحت شمس الحسكة اللاهبة، وتشد إلى ظهرها حملاً أكثر إيلاماً من قمامتها وبلاستيكها.
تقوم أم محمد بعملها دون أن تلبس قفازات أو تضع كمّامة على فمها، أسألها: ألا تخافين الأمراض؟ تبستم: “وهل هناك مرض أبشع من الحاجة والسؤال؟”. ولأن أم محمد أرملة وغير متعلمة، فضلت القيام بهذا العمل على أن تمد يدها للتسول، كذلك هي زهرة التي تعمل على خبز رغيف التنور، تسكن زهرة في منطقة خشمان، تحضر كل يوم عُدتها إلى تنورها الذي بنته من الحجارة والطين أمام مديرية الصحة في محافظة الحسكة، تقول زهرة: “زوجي مريض وعندي أربعة أولاد، فكرت أن أقوم ببناء فرن تنور، أخبز للناس خاصة مع تدهور حالة رغيف الخبز الذي تصنعه أفران الدولة وندرته في مرات كثيرة في مدينة كالحسكة التي تعتبر سلة سورية الغذائية”. تعمل زهرة منذ العاشرة صباحاً حتى انتهاء عجينها، تخبز ما تيسر لها، أما البيع فحسب حظها، تقول: “قد أبيع كل ما أصنعه، وقد يحدث العكس ويظل الخبز معي ويصير يابساً بعد ساعات قليلة”. تبيع زهرة رغيف التنور بسعر 15 ليرة سورية وتشتري كيس الطحين بسعر 4500 ليرة، تقول: “حقيقة لا أعرف كم يكفيني الكيس، لا أعدّ الأرغفة كي لا تطير البركة”. تقف زهرة في شمس الحسكة الحارقة صيفاً وبردها القارس شتاء لتؤمن قوت صغارها، تضع قبعة تحميها من شمس كانت قد لوحت روحها قبل وجهها.
هذا بعض ما تقوم به النساء في الحسكة، ومع انتشار ظاهرة التسول بشكل كبير، نتساءل كيف تستطيع دولة مثل سوريا مواجهة كل هذا الفقر حين يقاس الفقر بالنسبة إلى حصة الإنفاق على وسائل العيش الضرورية، من سكن، غذاء، صحة وتعليم؟ دولة أنتجت بالأصل البطالة والفقر عبر سياستها غير العادلة، من خلال سوء توزيع الدخل الوطني وعملية الإفقار التي استفادت منها شريحة ضيقة لخدمة مصالحها، كيف تستطيع مواجهة الطامة الكبرى في حرب جرت ما جرّته على البشر والحجر؟
بالتوازي مع مجلة “سيدة سوريا”