علا شيب الدين*
“يستفزّونك ليخرجوا أسوأ ما فيك، ثم يقولون هذا أنت. لا يا عزيزي، هذا ليس أنا، هذا ما تريده أنت!” برناردشو
التجزيء
أن يوجد لاجيء سوريّ في “مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” في أيٍّ من دول اللجوء، خصوصاً في دول الجوار، ويسأله الموظفون هناك أول ما يسألون عن طائفته أو دينه أو قوميته، فإن هذا لا يعني فقط عدم اعتراف “المجتمع الدولي” بالسوريين كشعب، بل يعني أيضاً إسهاماً نظرياً لفظياً في تكريس التجزيء على مستوى الخطاب. إنه تقسيم نظري لسوريا يوازي ما يُشتغَل عليه بدأب وحشيّ على أرض الواقع الذي يُراد له أن يكون متشظّياً على أسس طائفية، مذهبية، دينيّة، مناطقيّة، عقائديّة، وإثنية، إضافة طبعاً إلى المساهمة في تفكيك النسيج الاجتماعي السوري، وجرّ الناس إلى الكره والعماء والشقاق، بحيث يتسع نطاق الحرب الطاحنة أكثر فأكثر وتصير حرب الجميع على الجميع.
الكراهية في خطاب التجزيء، تكمن أيضاً في السعي إلى “تجزيء القضية السورية”، نعثها، نثرها، بعثرتها، لكي لا تبقى كلاًّ موحَّداً وشاملاً، ولكي تغيب ملامحها الأساسية في كونها ثورة شعبية سلمية على نظام مستبد جائر، اشتعلت لتحقيق الحلم في دولة الحق والقانون، الدولة المدنية الديمقراطية التي تكون لجميع السوريين.
إن شرط “التعددية”، والبعثرة، والتجزئة، الخالية تماماً في جوهرها من أي تنوع حقيقي؛ يوفّر كل أسباب القوة للنظام السائد المحلّي والإقليميّ والدوليّ لتعليب الوعي، وغرسِ الطرائق التقليدية في التفكير ودعمها بـ”إتقان”، وغالباً ما يُظهر الفيض الإعلامي، وفيض خطاب التجزيء الذي يجري تدبيجه على نحو جزافيّ أحياناً؛ أن ثمة “حرية”، في حين يبقى التأثير الأساسيّ لخطابات كهذه هو توفير الدعم المستمر للوضع القائم، كوضع مفكَّك يعتوره خراب عميم ومآسٍ مرعبة! ينكر سائسو العقول، المتحكمون في الوعي هنا، إنكاراً مطلقاً، وجودَ صراع سياسي، اجتماعي، اقتصاديّ، حيث يشتغل خطاب التجزيء على صنع أفكار وتوجّهات من شأنها شطر الصراع بين “أشخاص كلّهم أشرار”، إذ في “الحرب” كل الأطراف تبدو متساوية، فلا يعود ثمة تعاطف يُذكَر مع أي طرف، فتختلط الأوراق، ويُستحدَث وعي زائف، وتتشوّه، تالياً، ملامح القضية الأساسية، لتصبح غامضة ومعقدة لصالح وضوح معتقدات ومصالح لا تتطابق مع حقيقة الصراع وجوهره بوصفه ثورة شعبية أولاً وفي الأصل.
السلبية
يمعن خطاب السلبية في تدمير أي إحساس بالمعنى الكلّي للقضية السورية، ويهدف إلى إفراغها من أي أهمية سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية. إذ من شأن خطاب السلبية تغذية النزوع إلى تحطيم أي قدرة على الفعل الاجتماعي الذي يمكن أن يغيّر الظروف التي تحدّ من الإنجاز الإنساني. هكذا، يجري نشر خطاب السلبية واللاجدوى، من خلال تكريس التشاؤم، وبثّ روح الإحباط الذي يفضي إلى “يقين” مفاده أن لا مجال لتغيير الوضع القائم، ويلفت الأنظار إلى كل ما هو تشاؤمي حيال قدرات السوريين على التغيير، بحيث يبقى هذا الشعب محكوماً بعوامل “الوراثة” إلى الأبد.
خطاب السلبية يوائمه التركيز على العيوب والمشاكل والأزمات والنواقص التي يتلذذ بالتشبث بها مضلِّلو الوعي في داخل البلاد وخارجها. فإذا ما جرت الإضاءة على جوانب إيجابية تتم غربلتُها فوراً من خلال تقويمات سلبية تستعيد المنظور الذي يجب أن يبقى مكرَّساً وملائماً لمصالح هذه الجهة أو تلك، هذا الطرف أو ذاك. تالياً، إبقاء العقل الشعبي والعقل المستنير في حال انعدام الثقة والشك الدائم في ما يتعلق بإمكاناته.
التقليل من شأن الذات والقضية والثورة
يرتبك النظام وحلفاؤه و”المجتمع الدولي” على السواء، أمام مفاهيم من مثل: ثورة. مظاهرة. شعب. ذات. فردية وفرادة وإرادة. تغيير اجتماعي وسياسي…إلى آخر ما هنالك من تعبيرات وأفكار ومفاهيم ذات صلة بالحرية والانعتاق وتقرير المصير.
تزدحم جميع وسائل الإعلام والاتصال “المرتبكة”، بكل ما من شأنه الابتعاد عن جوهر الصراع في سوريا، حيث لا يُلقى الضوء على الأسباب الحقيقية للصراع، بل يُستعاض عن الاستيضاح العميق لتلك الأسباب بكمٍّ كبير من الفعل السطحي. تكنولوجيا الاتصال في استخداماتها الحالية تروّج لتوجّهات بلا تاريخ. توجّهات معادية للمعرفة، وغالباً ما يُصار إلى إخفاء الشواهد على وجود صراع سياسي، اجتماعي، عبر خطاب ينكره بشكل دائم ومستمر، ويعمل بدهاء على التقليل من شأن الذات السورية وقضيتها وثورتها، والتركيز على الجانب العدواني في السلوك الإنساني في هذا البلد، واستثماره، من خلال تفسيرات تردّ ما يحصل إلى “الطبيعة الإنسانية” مثلاً، وليس إلى الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية. تتلاءم هذه النظرة في التفسير إلى أقصى حد مع الموقف المناهض للثورة في كل مكان، تماماً مثلما يهرب النظام الأسدي إلى تفسيرات “أخلاقية” من شأنها أن تفسّر المطالَبة في عيشٍ حر كريم، بـ”خيانة الوطن”، و”العمالة”، أو مثلما يهرب المستبدون دينياً إلى تفسيرات مشابهة تجعل التوّاقين إلى الحرية والديموقراطية والمدنية مجرّدَ “كفّار” و”زنادقة”. وعليه، فإن “طبيعة” الشعب تتطلب “العصا” لا تحقيق المطالب! ما يعني تبرير ما هو قائم على أساس أن هذا ما تتطلبه “طبيعة” هذا الشعب، فيصبح القهر مثلاً “ردّ فعل” بدلاً من أن يكون السبب الأساسي للعنف.
إن وجهة النظر التي تقول بثبات الطبيعة الإنسانية، أو ثبات طبيعة الشعوب في هذه البقعة من العالم، تفضي إلى الإحجام بحرص بالغ عن التعرّض للتغيرات الحادثة في العلاقات الاجتماعية، أو مناقشة التفاصيل المتعلقة بالمستقبل، مادامت “الطبيعة الإنسانية” هنا ثابتة لا تتغير.
التيئيس
إن التركيز على نواقص المجتمعات الثائرة والأفراد الثائرين والسخرية من هؤلاء أو التعالي عليهم – هذا إذا اعتُرِفَ أصلاً بأن ثمة مجتمعات ثائرة حقيقية وأفراداً ثوّاراً- ليس سوى جانب واحد من توجّه ما محلّي وإقليميّ ودولي، من شأنه تسييس العقول وتوجيهها لحجبِ الواقع، ودفعِ الناس لكي ينسوا قضيّتهم. إذ على السوري أنّى اتجه وذهب أن ييأس، هذا ما يرمي إليه خطاب التيئيس الساعي إلى تقويض كل أمل ورجاء. ربما لهذا لا ينفكّ السوريون يؤكدون على أهمية قضيّتهم، وحقهم في الحرية وتقرير المصير والإصرار على ألا تضيع دماء الناس هدراً وهباءً، والوقوف بعناد في وجه كل محاولات الاستسهال والاسترخاص على الرغم من كل الخذلان. هاكم مثلاً، لافتة من “حوران كريات الثورة البيضاء” كما راق لحامليها أن يسمّوها، مؤرَّخة في يوم 14آب2015، تنده على المجتمع الدولي: السوريون لن يقبلوا أي تسوية تعيد إنتاج نظام الاستبداد الأسدي.
إن خطاب التيئيس ينطوي على كره لشعبٍ ثائر يُعتقد أنه بات مصدر “إزعاج”، وعليه، لا بدّ من تجاهل ما يتعرّض له هذا الشعب من ويلات وكوارث ومحن. إن العجز عن فهم الثورة السورية، وعن فهم الشعب السوري ومتطلباته ومراميه وقدراته، وفتور المشاعر، واللامبالاة حياله، يقود إلى محاولة تيئيس الناس والتأكيد التام والدائم على سلامة النظام الأسدي مثلاً وصحته، وإثارة القلق في نفوس المشاهدين والمستمعين والقارئين، واستبعاد كل ما من شأنه أن يبعث ما هو مثير للجدل، وتجاهل كل المتغيرات الاجتماعية، وتصوير النظام المحلّي والعالميّ على أنه “هكذا”، وسيظلّ “هكذا”، له كيان ثابت، إذ هو “معطَى” يجب على الناس بوصفهم متفرّجين أن يتكيّفوا معه! وكلّما بدا الشعب السوري ظاهراً كإرادة اجتماعية وشعبية، يروح المتلاعبون بالعقول يمعنون في التضليل الشامل، في إنتاج وعي لا يمكنه استيعاب الشروط الفعلية للحياة القائمة سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي. يُخصَّص مساحات مذهلة في الصحف والإنترنت وعلى الشاشات، للعنف، من أجل تحقيق التكيف والانسجام الآلي مع هذا، كواقع معطى ثابت وجامد وعادي. أما ضحايا هذا الطراز من التضليل؛ فقد يجدون أنفسهم أحياناً ممارسين لهذا التضليل!.
*كاتبة سورية
اللوحة للفنانة السورية: سارة شمة
خاص “شبكة المرأة السورية”