نبال زيتونة*
بعد منتصف ليل السبت فجر الأحد، الذي صادف التاسع من آذار لعام 2014، اقتادتني دورية مدجّجة بالسلاح، إلى فرع التحقيق بالفيحاء، بعد ما يزيد عن مئة يوم قضيتها في زنزانة معتمة في أقبية الأمن السياسي بالمزة. كنت مغلولة اليدين ولم أكن قادرة على المشي بسبب انخفاض ضغط الدم. أذكر أن أحد تلك المخلوقات التي تسير على قدمين اثنتين وضع لي القليل من الملح في راحة يدي، ما يعني أنه يريدني أن أمشي.. لم أفكر لِمَ أصبحوا لطفاء اليوم قياسا بالأيام السابقة. اقتادوني إلى السيارة، وغابت التفاصيل. أكثر ما أذكره ليلتها رائحة المطر المخبّأة في الذاكرة، مرّ وقت حتى أدركت أن دمشق كانت تتعمّد بماء الرب. حاولت أن أرى ولو لمرّة، لكن أسلحة الحارسين على جانبيّ كانت بالمرصاد. تعرّجت الطريق وطالت حيث وصلنا. أذكر كان المهجع مضاءً، حين سمعت صوت قمر تهتف باسمي: “نبال أنت معنا في التبادل”، أعادني الصوت إلى المهجع الذي صرت في وسطه الآن. أردفت قمر: “ألم تعرفيني!؟”، بلى عرفتك … وكانت ليلة أطول من الانتظار! أذكر طلع ألف صباح وغابت شموس، وغزيرا كان المطر يرتطم بجدران الذاكرة وينغرس عميقا في العروق. مرّ دهرٌ، مرّت بلاد، مرّ برابرة وقوّادون وقتلة، على رصيف الذاكرة مرّوا، بصقتهم هناك، وعدت إلى بيتي بعد صفقة تبادل راهبات معلولا، لأكتشف أن الوقت السابعة صباح الإثنين 10 آذار 2014!
من هنا سأعود أدراجي إلى ذلك اليوم البعيد، يوم اعتقالي في الثامن والعشرين من تشرين الثاني 2013. مرّ زمنٌ طويل ومازالت ذاكرتي قادرةً على الاحتفاظ بملامح ذلك الوجه الصفيحيّ الوقح، الذي اقتادني مع دوريته من مدرستي في جرمانا. كان يبتسم بصلف واستعلاء، تفوح منه رائحة نتنة تشبه “الشماتة”، وتعلوه نشوة انتصار! أمّا أنا فقد ابتسمت عندما أشار إليّ بألا أخبر أحداً، فالأمر لا يتعدّى فنجان قهوة عند أحدهم كما قال، وأجبته بسخريتي المعتادة “أعرفكم!.. ليس لكم أمان”. ابتلعها يومها، واقتادوني إلى ذلك المقرّ البائس بالمزة، حيث جرّدوني من كل أشيائي الشخصيّة؛ حقيبة يدي، كتبي المدرسيّة، أقراطي، خاتمي، زجاجة الماء!
أذكر جيّداً كيف دفعني الحارس في بطن زنزانة معتمة من خلال باب أخضرَ كبير. مرّت لحظات حتى تبيّنتُ سيدتين هناك تعاملتا معي بلطف، وهوّنتا الأمر عليّ. كانت الزنزانة بطول أربعة أمتار وعرض مترين تقريباً، يدخلها بصيص ضوءٍ خافت من خلال فتحةٍ صغيرة أعلى الباب. رائحة الرطوبة والعفونة والتواليت تصيبك بالغثيان. ضحكت بداية الأمر، وقلت في سرّي: “سترتاحين يا نبال، لا مدرسة ولا أخبار، والأهم سترتاحين من شبيحة النظام في التلفزيون، أو ربّما تصوّرين معهم دور الأميرة السلفيّة!”.
لا أذكر كم مرّ من الأيام حتى بدأت جلسات التحقيق، وكنت قد بدأت أفقد توازني. يخرجونني من الزنزانة فأتهاوى أرضاً، يعصبون عينيّ ويقيّدون يديّ إلى الأمام ويجرونني إلى التحقيق. كنت أشعر بالمكان متسعا يضجّ بالصراخ والأنين والشتم، وتلك اللهجة الحاقدة، وأصوات آلات لا أعرف ماهيّتها. يشتمني المحقق ما شاء له الشتم حتى صرت لا أسمع ما يقول، يسألني دائما من أين أنا، ويحدّثني عنهم وعنّا، يقول: “أنت معنا، أنت منّا”. سألته مرّةً بما أنّني منكم لماذا أنا هنا؟! أحس بسخريتي وأجابني بركلةٍ من قدمه. لم أشعر بالألم حينها، ربما كنت مخدّرةً من شدّة البرد. زادت جلسات التحقيق عن العشرين جلسة، وكان التحريض الطائفيّ عنوانها، أنا من الأقليّة التي سيبيدها السنّة، هكذا قالوا لي، وحدثوني كثيراً عن الوطن والخيانة، واستغربوا أنّ الإرهابيين في “دير العصافير” لم يقتلوني، هدّدوني بأنهم سيأتون بأمّي السبعينيّة وأخواتي إذا لم أعترف! سألوني إن كنت أوالي جنبلاط أم أرسلان. اتهموني بإغاثة ذوي “الفطايس” كما أسموهم، في الغوطة الشرقيّة وبرزة والكسوة وزاكية والتضامن، وبتفجير مبنى التلفزيون، ومحاولة اغتيال عصام زهر الدين. اتهموني بتهريب أجهزة الاتصال والكاميرات من درعا، وكأن درعا ليست محافظةً سورية! شعرت بهم يروّجون للتقسيم، وكنت لم أتنبّه لهذا الأمر لولا أن أحد الشبيحة في مركز الأخبار كان قال علانيةً مع بداية المظاهرات السلميّة: “دولتنا في جبلة جاهزة ملفاتها من أيام الفرنسيين”. اتهموني بالانتماء لهيئة التنسيق والتواصل مع حسن عبد العظيم، والتعاطي مع المجالس العسكرية في الغوطة الشرقية ودرعا، اتهموني بالتواصل مع أقاربي من اليمين البعثي، وبأنّي أدير مركزاً إعلاميّاً، أنقل من خلاله الأخبار إلى المحطّات المغرضة. اتهموني بالمشاركة في المظاهرات والاعتصامات والتحريض عليها، اتّهموني باللاوطنيّة لانتقادي السياسة التعليميّة في سوريا الأسد ووصفها بـ “سياسة التجهيل الممنهج”.
هذا وقد ازداد الضغط عليّ بمجيء “أليس” صديقتي إلى المعتقل، وكان دخولها إلى الزنزانة كوقع الصاعقة على رأسي، وضعوها في المنفردة مع الجرذان والجثث لساعات طوال كي أعترف عليها وتعترف عليّ! ولكي تهوّن الأمر عليّ، لم تخبرني بكلّ شيءٍ، هي التي عانت الأمرين باعتقالي. كانت تختصر الكلام، وتبكي بصمت!
في الزنزانة كانت الحشرات تقتات على جسدي كما على أجساد النساء الأخريات، صرت أرى أخاديد على جسدي. انتفخ الجلد وظهرت بثور، قيل بأنّه الجرب. اهترأت ثيابنا. طوال مئة وخمسة أيام لم أرَ الصابون إلا مرتين أو ثلاث. لم نكن نغتسل فالماء باردٌ موجعٌ كما السياط. لا نوم، لا طعام ولا دواء! سألني المحقق مرّةً، وكانت أسناني تصطك، إن كنت أشعر بالبرد؟! يا لوقاحته! ألا يعلم بأنه وغدٌ ومجرمٌ؟! وهل يعيش حياته بشكل طبيعيّ؟!
وفي إحدى المرّات عصبوا عيني بعصابتين اثنتين، ضغطتا على رأسي وأذني حتى كاد ينفجر، أذكر أنني صرخت “رأسي تنفجر”؟! حدثت جلبة وضجيج وسمعت أصواتهم الحاقدة، وشعرت باللكم واللطم، ثم عرفت بعد أن أرخى لي العصابة بأنه غاضب، فقد اعتقد بأني أنزعها لأرى وجهه. يا لسذاجتك أيّها المحقّق! ألم تعرف بأنّي عرفتك من الخوف الذي بدا واضحاً في نبرة صوتك “قلت في سرّي”، أنت ابن بلدتي، فكيف لا أعرف نبرة صوتك حتى ولو غيّرت لهجتك؟! عرفتك يا سيادة اللواء، يا من آليت على نفسك تطهير بلدتي “القريا” من شرفائها؟! يا من آليت على نفسك أن تربّي عائلتي بي؟! ظلّت هذه الفكرة معشّشة في رأسي حتى أراني أحدهم بعد مدّة أمر اعتقالي خلسةً موقّعاً باسمه ولقبه، وممهوراً بخاتم الأمن السياسيّ.
العتمة تعشّش في خلاياي! والوقت بليدٌ. بل لا وقت هنا. أنت تعيش خارج الزمن.. كنت أقتل الوقت بالمشي حين يكون عدد النسوة قليلاً. واتخذت قراري بأن أبقى على قيد الحياة، فحياتي شوكةٌ في حلوقهم. سأمشي وآكل الخبز اليابس وأشرب الماء. سأصارع الحشرات والأمراض والجرب والهمجيّة بآن. خاصّةً بعد أن رأيتهم يخرجون أوّل جثّةٍ من زنزانة الرجال بجوارنا، حيث وضعوها أرضاً، وجاؤوا بأحد ضحاياهم الأحياء ليجرّ الجثّة عبر الممرّ. تتالى المشهد كلّ يومين أو ثلاثة يخرجون جثّةً على هذا النحو. وفي إحدى المرّات بقيت آثار الجثّة على الأرض لساعات، هناك سائل لزج في الممرّ، لونه بين الأخضر والأزرق “جنزاري”.
تقول النسوة في الزنزانة بأن سمعة الأمن السياسيّ في الخارج ليست بهذه القسوة والبشاعة، لكن على ما يبدو أنهم يأخذون الجثث إلى فروع أمنيةٍ أخرى ويسلمونها من هناك!
ترى أين ذهبوا بذلك الطفل الذي كان يصرخ من المنفردة كلّ ليلة: “يا أولاد الحرام طلعوني من هون أبي عميستناني!”، ولماذا يصرخ في الليل ولا يصرخ في النهار؟! كان واضحاً من صوته أنه طفل، كما كان واضحاً أنه كان ذاهباً لملاقاة أبيه!
فكّرت بأهلي وأخوتي وأبنائهم وبناتهم. وكلّهم كانوا مطلوبين لفروع أمنيّةٍ عدّة. فكّرت بأيّام المداهمات كيف كانوا يستبيحون بيوتنا بحثاً عن الشباب. فكّرت بأمي السبعينيّة التي واجهت بندقيّة الجنديّ وأمسكت بها مصوَّبةً إلى صدرها لتحميَ حفيدها الشاب حين جاؤوا لاعتقاله! وكنت كلّما عدت من جلسة تحقيقٍ يزداد إصراري على البقاء على قيد الحياة، أريد أن أطمئن عليهم جميعاً! ولا تسألوني من أين كانت تأتيني القوّة، والجسد واهنٌ يفتك به الجرب والجوع والحشرات!
أمّا الجرذان فقد كانت رفيقتنا طوال أيام إقامتنا هناك! شكراً سُميّة “سيّدةٌ مغربيّة” على الفكرة الرائعة بأن نأخذ عبوّة الماء مملوءة ونغطي بها فتحة التواليت، لكن وفي أحيانٍ كثيرة يكون الجرذ مارداً يتغلب على تلك العبوّة ويخرج.
كانت الزنزانة تغصّ بالنسوة حيناً، وتخلو إلا مني في بعض الأحيان، أذكر أنّني أمضيت بضعة أيام وحدي، فها أنا أمشي وأعدّ الخطوات، وصلت في العدّ إلى عشرة آلاف خطوة. وأذكر أنّني كتبت التواريخ والأيام على جدران الزنزانة بـ “المربّى”، هكذا كانوا يسمونه. تذوقته مرّة فصعد الدم إلى رأسي، طعمه يشبه ثاني أكسيد المنغنيز ومرصّع بحشراتٍ سوداء. وبما أنّني لا أملك حقّ رفضه، فقد استعملته للكتابة على الجدران، خاصّة وأنّني بحاجة لعدّ الأيّام، فلست أثق بذاكرتي في ظروفٍ كهذه.
وفي إحدى المرّات في التحقيق، أتحفني المحقّق المثقّف بمحاضرةٍ عن كيفيّة انتشار الإرهاب في أوروبا، قال بأنّ الأوربيين يجمعون الإرهابيين من المسلمين بالأوروبيين في سجونهم. كان ذلك على خلفية تواجدي مع سيّدة متديّنه في الزنزانة، ويبدو أنه لاحظ التعاطف بيننا، وعندما أنهى محاضرته، قال: “أي شو رأيك؟”، لا أدري كيف ابتسمت بخبث وقلت: “يعني في أمل إنّي أَسْلِم؟”، نظر إلى الكاتب بجواره وقال: “يعني أنتم مو إسلام”؟. ثم استدرك سخريتي فثارت ثائرته كثور، وصاح به أن خذها إلى الزنزانة. عدت إلى سليمى، ضحكتُ وأخبرتها بما حدث، فتجرّأت وحكت أنه حرّضها لتشي بي، خاصة وأنّني لست سنيّة!
ذكاؤك خارقٌ أيّها المحقّق وتُحسَد عليه، عرفت اسمك فيما بعد عندما جئتَ بتلك الصبيّة، الطالبة في كليّة الصحافة، التي اعتديت عليها، وطلبت من أزلامك ضربها حتى تجهض جنينها فتنجوَ بفعلتك. يومها نزعوا خصلاتٍ من شعرها، شرطوا أذنيها وأخذوا قرطيها الذهبيين. لم تكن معارضة، كانت من شبيحتكم أيّها الأوغاد. حتى شبيحتكم آذيتموهم ودبّرتم لهم التهم.
* من مواليد السويداء -القريا 1962.. مدرّسةً للغة العربية، ومدقّقة لنشرات الأخبار في التلفزيون السوري
خاص “شبكة المرأة السورية”