ترجمة: نجاح سفر
كانت أمهما صغيرة ونحيفة، ذات كتفين مستديرين نحيلين، وكانت ترتدي دائما تنورة زرقاء وبلوزة صوفية حمراء. شعرها أسود قصير ومجعد تضع الزيوت عليه باستمرار لتسيطر على اندفاعه، وتنتف شعر حاجبيها يوميا، لتجعل منهما سمكتين سوداوين تسبحان باتجاه صدغيها، وتستخدم بودرة صفراء على وجهها. كانت شابة صغيرة جدا. كم عمرها؟ لا أحد يعلم، لكنها تبدو أصغر بكثير من باقي أمهات أولاد المدرسة، وكانا يندهشان باستمرار من رؤية أمهات أصدقائهم، اللواتي كن كبيرات في السن وسمينات. كانت تدخن كثيرا وقد دبغت أصابعها بالدخان، وهي تدخن حتى في السرير ليلا، قبل نومها.
وينام الثلاثة في سرير مزدوج كبير بلحاف أصفر، تنام أمهما على الطرف القريب من الباب، وعلى الطاولة القريبة من السرير كان هناك لمبة تغطيها بثياب حمراء، لأنها كانت تقرأ وتدخن ليلا. وصارت تأتي متأخرة أحيانا، فيستيقظ الولدان ويسألونها أين كانت، وغالبا ما كانت تجيبهما “في السينما”، أو “مع إحدى صديقاتي”، صديقة لم يكونا يعرفانها، لأنها لم تأت أبدا صديقة امرأة لترى أمهما في المنزل.
أخبرتهما بأنه عليهما أن يديرا وجهيهما إلى الجانب الآخر بينما تغير ملابسها، سمعا الحفيف السريع لملابسها، وظلال تتراقص على الجدران، تنسل في السرير بجانبهما، جسدها النحيف بثياب النوم الحريرية الباردة، فيبتعدان عنها لأنها كانت دائما تشكو بأنهما كانا يلتصقان بها كثيرا ويرفسان أثناء نومهما، أحيانا كانت تطفئ النور فيذهبان في النوم سريعا بينما هي تدخن بصمت في الظلام.
لم تكن أمهما مهمة. الجد والجدة والعمة كلمنتينا الذين يعيشون في القرية وعادوا الآن بكستناء ودقيق الذرة كانوا مهمين، الخادمة ديوميرا كانت مهمة، جيوفاني البواب المسلول الذي كان يصنع كراسي الخيزران كان مهما، كل أولئك كانوا مهمين جدا بالنسبة للطفلين لأنهم كانوا ناسا أقوياء يمكنك الوثوق بهم، ناس أقوياء في السماح والتحريم، يجيدون ما يقومون به ودائما ممتلئين بالحكمة والقوة، أناس يستطيعون حمايتك من العواصف واللصوص.
لكن لو صدف وتواجد الولدان مع أمهما في المنزل فكانا يشعران بالخوف، تماما كما لو كانا لوحدهما، وبالنسبة للسماح والتحريم، لم تسمح أو تحرم أي شيء، وفي الغالب كانت تشكو بصوت متعب: “لا تحدثا ضجيجا لأنني أعاني من الصداع”، وإذا طلبا الإذن للقيام بأي شيء ستجيب على الفور “اسأل الجدة”، أو ترفض في البداية ثم تقبل ثم ترفض ثم تقبل ويتحول الأمر إلى فوضى كاملة.
وعندما يخرجان لوحدهما مع والدتهما يشعران بعدم الثقة وعدم الأمان لأنها تنعطف دائما بشكل خاطئ ثم تطلب المعونة من رجل الشرطة، ثم تمارس تلك الطريقة المضحكة والجبانة في الذهاب إلى المحلات والسؤال عن الأشياء التي ترغب بشرائها، وفي المحلات كانت دائما تنسى شيئا، قفازات أو حقيبة يد، فيكون عليها أن تعود لتبحث عما نسته، والأولاد خجلون.
وكانت أدراج أمهما غير مرتبة وتترك كل شيء مبعثرا فتأخذ ديوميرا بالتذمر عندما تغادر الغرفة صباحا. حتى أنها تدعو الجدة للدخول ورؤية الفوضى فتلتقطان سوية الجوارب والألبسة وتكنسان الغبار الذي كان يغطي المكان كله. في الصباح كانت والدتهما تخرج لتتسوق: ثم تعود وتنثر محتويات الكيس على طاولة المطبخ الرخامية وتركب دراجتها وتتوجه إلى المكتب حيث تعمل. تنظر ديوميرا إلى الأشياء المتناثرة، تلمس البرتقالات واحدة واحدة واللحم، وتتذمر ثم تنادي الجدة لترى كم هي سيئة تلك اللحمة. تعود أمهما إلى المنزل في السعة الثانية عندما يكون الجميع قد أنهى طعامه، وتأكل بسرعة وهي تسند الجريدة إلى كأسها ثم تندفع ثانية إلى المكتب على دراجتها. وفي العشاء يرونها للحظة، وغالبا ما كانت تخرج ثانية بعد العشاء.
كان الولدان يقومان بواجباتهما المدرسية في السرير. حيث كانت صورة والدهما، كبيرة عند رأس السرير بلحيته السوداء المربعة ورأسه الأصلع والنظارة ذات الاطار المتعرج، ثم بورتريه صغير آخر على الطاولة، وهو يحمل أصغر الصبيين بين ذراعيه. توفي والدهما عندما كانا صغيرين جدا، لا يتذكران شيئا عنه، أو بالأحرى كان الولد الأكبر يحتفظ في ذاكرته ظل لمساء بعيد، في القرية وعند العمة كليمانتينا، كان والده يدفعه في مرج أخضر على دراجة خضراء. بعد قليل وجد بعض قطع هذه الدراجة، المقود وعجلة وذلك في علية العمة كليمانتينا. عندما كانت جديدة كانت دراجة مدهشة وكان سعيدا لامتلاكها، ووالده يدفعه بها ولحيته الطويلة تتطاير.
لم يعرفا أي شيء عن والدهما سوى أنه عليه أن يكون صورة عن شخص قوي وحكيم يأمر وينهي، وعندما كان الجد أو ديوميرا يغضبان من أمهما كانا يقولان بأنهما يأسفان من أجلها لسوء حظها، وهي تقول أنه لو كان يوجينيو، والد الصبيين، هنا لكانت امرأة مختلفة، لكنها ولسوء حظها فقدت زوجها وهي صغيرة جدا. لبعض الوقت حلت محله جدتهم لأبيهم، التي لم يروها لأنها كانت تعيش في باريس لكنها اعتادت على الكتابة وإرسال هدايا الكريسماس: وفي النهاية ماتت لأنها كانت طاعنة في السن.
في وقت الشاي كانا يأكلان الكستناء، أو الخبز مع الزيت والخل، وإذا أنهيا واجباتهما المدرسية يذهبون للعب في الساحة الصغيرة أو حول أطلال الحمامات العامة، التي تم تدميرها في إحدى الغارات الجوية. في الساحة الصغيرة كان هناك الكثير من الحمام التي كانا يطعمانها الخبز أو يذهبان إلى ديوميرا ويطلبان كيس ورق فيه بقايا الرز. وهناك كان يلتقي جميع أولاد المنطقة، أولاد من المدرسة وآخرون قابلوهما في نوادي الشباب أيام الآحاد عندما كانا يحضران مباريات كرة القدم مع السيد فيغلياني، الذي كان يعقد رداءه الكهنوتي ويشوط الكرة.
وكانا أحيانا يلعبان كرة القدم في الساحة الصغيرة أيضا أو لعبة الشرطة والحرامية. وكانت جدتهما تظهر على الشرفة أحيانا وتطلب منهما ألا يأذيا أنفسهما: كان من الممتع رؤية نوافذ منزلهما المضاءة، هناك في الطابق الثالث، من الساحة الصغيرة المظلمة، ويعرفان أنهما سيعودان إلى هناك، يتدفآن على الموقد ويحميان أنفسهما من الليل.
كانت الجدة تجلس في المطبخ مع ديوميرا وتصلح الملابس الكتانية، أما الجد فكان في حجرة الجلوس يضع غطاء على رأسه، مدخنا البايب. كانت الجدة سمينة جدا وترتدي الأسود، وتضع ميدالية على صدرها وعليها صورة العم أويستي الذي قتل في الحرب. كانت تجيد طبخ البيتزا والأشياء الأخرى. وأحيانا كانت تضعهما على ركبتيها، بالرغم من أنهم كبرا الآن، كانت سمينة، لذلك كانت تملك صدرا كبيرا وطريا، وكان يظهر من تحت ياقة الفستان الأسود اللباس الصوفي الأبيض بالحافة المزركشة التي حاكتها بنفسها.
كانت تضعهما على ركبتيها وتتفوه بكلمات ناعمة ولطيفة وبصوت عطوف، ثم تأخذ دبوسا حديديا طويلا من شعرها وتنظف آذانهما، فيتململان ويحاولان الهروب لكن الجد يقف على الباب ليمنعهما وهو يدخن البايب.
تعلم الجد الإغريقية اللاتينية في المدرسة الثانوية. والآن وبعد أن أحيل إلى التقاعد أخذ يكتب القواعد الإغريقية، وقد اعتاد الكثير من طلابه القدامى المجيء ورؤيته قبل والآن. ثم تصنع ديوميرا القهوة، وفي المرحاض صفحات من كتاب تدريبات للغة اللاتينية والإغريقية وقد أجرى بعض التصحيح باللونين الأحمر والأزرق. للجد لحية بيضاء صغيرة، على شكل العثنون.
لم يكونا يصدران جلبة لأن أعصابه باتت مرهقة بعد كل تلك السنوات في المدرسة، كان دائما يشكو لأن الأسعار في ازدياد دائم والجدة غالبا ما كانت توبخه كل صباح لاستغرابه من كمية النقود التي يحتاجونها، ويقول بأنه ربما ديوميرا تقتر في السكر وتصنع به القهوة في السر فتسمعه ديوميرا وتندفع إليه وتصرخ بأن القهوة هي للطلاب الذين يتوافدون يوميا. لكن كل تلك كانت حوادث صغيرة سرعان ما تهدأ فلا يفزع الأولاد، فالخوف الأكبر كان حين ينشب خلافا بين الجد وأمهما، وهذا يحدث أحيانا عندما تعود والدتهما متأخرة جدا إلى المنزل ليلا، عندها يخرج من غرفته مرتديا معطفا فوق بيجامته وحافي القدمين، ويبدأ بالصراخ مع والدتهم قائلا “أعرف أين كنت، أعرف أين كنت، أعرفك تماما”، وتقول أمهما “لا يهمني”، ثم “انظر، أنت الآن تهتم بالأطفال”، فيقول “أصلا أنت لا تهتمين لم يجري لأطفالك. لا تقولي أي شيء لأني أعلم ما أنت عليه. أنت عاهرة. تتجولين ليلا مثل العاهرة المجنونة”. فتخرج جدتي وديوميرا في ثياب نومهما وتدفعانه إلى غرفته وهما تقولان “هس، هس”، فتقفز أمهما على السرير وتنشج تحت أغطية السرير، كانت تتردد أصداء نشيجها العميق في الغرفة المظلمة.
ويعتقد الولدان بأنه لا بد أن يكون الجد على حق، وأن أمهم مخطئة بالذهاب إلى السينما وإلى صديقاتها ليلا. حينها كان يشعران بالتعاسة والذعر، فيلتصقان ببعضهما البعض، في أعماق السرير الدافئ الطري. ويندفع الولد الأكبر النائم في الوسط بعيدا كيلا يلمس جسد أمه، كان يشعر بأن هناك شيء مقزز في دموع أمه، في المخدة المبللة. فكر “يشعر بشيء مثل دبيب النمل عندما تبكي أمه”.
لم يناقشا بين بعضهما هذه المناوشات التي كانت تدور بين أمهما وجدهما، ويتجنبان بحرص ذكرها، لكنهما كانا يحبان الاثنين كثيرا ويبقيان ملتصقين طوال الليل بينما أمهما تبكي. وفي الصباح يبدآن بالتململ عندما تعانقهما بقوة وكأنهما يحميان نفسيهما منها، ولأنه كان هناك ذلك الشيء الذي لا يرغبان التحدث به، نسيا مباشرة بأنهما غير سعيدين. يطلع النهار ويذهبان إلى المدرسة، ويقابلا أصدقاءهما في الطريق، ثم يلعبان لفترة في باحة المدرسة.
وفي نور الصباح الباهت، تستيقظ أمهما بثوبها الملفوف حول خصرها لتغسل عنقها ويديها وهي تنحني على الحوض. تحاول دائما أن تمنعهما من رؤيتها لكن كان بإمكانهما رؤيتها من خلال الزجاج الشفاف بكتفيها السمراوين النحيلين وثدييها الصغيرين العاريين. وفي البرد تصبح الحلمتان سوداوين وناتئتين، ترفع يديها وتضع البودرة تحت إبطيها، حيث يوجد الكثير من الشعر الكثيف والمجعد. وعندما ترتدي ثيابها بشكل كامل تبدأ بنتف حواجبها، محدقة إلى نفسها في المرآة عن قرب وتعض على شفتيها بقوة. ثم ترطب وجهها بكريم وتضع البودرة على وجهها: عندها يصبح وجهها كله أصفر.
أحيانا تكون مبتهجة تماما عند الصباح وترغب بالحديث مع الولدين، تسألهما بشأن مدرستهما وأصدقاءهما وتخبرهما بأمورها عندما كانت في المدرسة. كان لديها مدرسة تدعى “سيغنورينا ديرسي” وكانت سيدة كبيرة في السن لكنها متصابية. ثم ترتدي معطفها وتحمل كيس التسوق، تنحني لتقبل الولدين وتخرج بوشاحها الملفوف حول رأسها ووجهها والذي سيتلوث بالبودرة الصفراء التي على وجهها.
يستغرب الولدان أنهما ولدوا منها. فسيكون الأمر أقل استغرابا لو ولدا من الجدة أو ديوميرا، بأجسادهن الضخمة الدافئة التي تحميك من الخوف، وتقيك من العواصف واللصوص. كان من الغريب التفكير في أنها هي أمهما، وأنها حملت بهما لفترة في رحمها الصغير. منذ أن تعلما بأن الأطفال يكونون في جوف الأم قبل ولادتهم، شعرا بالدهشة وبقليل من الخجل من أن ذلك الرحم حملهما مرة. وأنها أرضعتهما من ثدييها، وهذه كانت مسألة لا تصدق. لكنها في الواقع لديها الآن طفلان وعليها أن تطعمهما وتربيهما، ويرونها يوميا وهي تركب دراجتها عندما تنتهي من تسوقها، جسدها يتأرجح بعيدا، حرا وسعيدا. إنها بالتأكيد لا تنتمي إليهما، لا يمكن أن يحسبا عليها.
لا تستطيع سؤالها عن أي شيء. كانت هناك أمهات أخريات، أمهات أصدقائهما في المدرسة اللواتي بإمكانك سؤالهن في جميع الأمور. يهرع أصدقاؤهم إلى أمهاتهم عندما تنتهي المدرسة ويطلبون منهن الكثير من الأشياء، بأنوف لاهثة ومعاطف مزررة، وهم يعرضون عليهن واجباتهم المدرسية ورسومهم الهزلية. كانت أمهاتهم كبيرات وجميلات، يرتدين قبعات أو غطاء رأس ملون ويأتين للتحدث مع المدرسين يوميا. كن مخلوقات مثل الجدة أو ديوميرا، بأجساد ملوكية ضخمة وطرية لأشخاص لا يرتكبون أخطاء: أشخاص لا يفقدون أشياء، لا يتركون أدراجهم مهملة، لا يعودون إلى البيت متأخرين ليلا. لكن أمهما كان لديها التزامات بعد التسوق، فبالإضافة إلى أنها كانت سيئة في التسوق، كانت تتعرض للغش من قبل اللحام وكانوا يخطئون في إعادة باقي النقود إليها. كانت تذهب إلى أماكن من المستحيل الانضمام إليها. كانوا يتعجبون كثيرا عندما يرونها وهي تستعد للخروج. من يعلم كيف هو شكل مكتبها، لم تتحدث عنه أبدا، عليها أن تطبع وتكتب رسائل بالفرنسية والانكليزية، من يعلم، ربما تبدو جميلة المظهر هناك.
وفي أحد الأيام، وبينما كانا في نزهة مع السيد فيجلياني بصحبة بعض الأولاد من نادي الشباب، وفي الطريق الخلفي شاهدا أمهما في أحد المقاهي. كانت تجلس داخل المقهى. شاهداها من خلال النافذة، وكانت برفقة رجل. كانت تلقي بوشاحها وحقيبة يدها المصنوعة من جلد التمساح، التي يعرفانها تماما،على الطاولة أمامها. ويرتدي الرجل معطفا باهت اللون وشارب أسود ويتحدث إليها وهو يبتسم. كان وجه أمهما مسترخيا وسعيدا، وكأنها ليست تلك التي يرونها في المنزل.
كانت تنظر إلى الرجل وأيديهما تتعانق. ولم ترى الولدين. استمر الولدان بالسير قرب السيد فيجلياني الذي طلب منهم جميعا الاسراع ليلحقوا بالقطار قبل أن يفوتهم. وعندما كانوا في القطار تحرك الطفل الصغير باتجاه أخيه وقال له “هل رأيت ماما؟” فقال أخوه “لا، لم أرها”. ضحك الصغير بصوت ضعيف وقال “لكنك رأيتها، كانت تلك أمي ومعها رجل”. أدار الكبير رأسه بعيدا. كان كبيرا، حوالي 13 عاما. أغضبه أخوه الصغير لأنه جعله يشعر بالأسف من أجله، لم يفهم سبب شعوره بالأسف من أجله لكنه كان آسفا من أجل نفسه أيضا ولم يرغب بالتفكير بما رآه، أراد أن يتصرف وكأنه لم ير شيئا.
لم يخبرا الجدة بشيء. في الصباح وبينما كانت أمهما تلبس قال لها الصغير “البارحة بينما كنا نتنزه مع السيد فيجلياني شاهدناك مع رجل”. غضبت أمهما وبدت مستاءة جدا. أخذت السمكة السوداء على جبينها تهتز. قالت “لم أكن أنا. ما هذا الكلام. لقد بقيت في المكتب حتى ساعة متأخرة من الليل، كما تعلمان. أنت مخطئ بالتأكيد”. قال الولد الكبير عندها بصوت هادئ متعب “لا، لم تكوني أنت. كانت أخرى تشبهك”. وأدرك الولدان أن الذكرى يجب أن تختفي، وتنفسا بقوة ليبعداها.
لكن الرجل صاحب المعطف الباهت جاء مرة إلى المنزل. لم يكن يرتدي معطفه لأن الوقت كان صيفا، كان يرتدي نظارارت زرقاء وبذلة حريرية خفيفة، طلب إذنا بخلع الجاكيت أثناء تناولهم الغداء. الجد والجدة ذهبا إلى ميلان لزيارة بعض الأقرباء، بينما ذهبت ديوميرا إلى قريتها، لذلك كانا وحيدين مع أمهما. وفي أثناء ذلك جاء الرجل. كان الغداء جيدا: فقد اشترت أمهما تقريبا كل شيء من محل اللحوم المطبوخة. كان هناك دجاجا مع رقاقات البطاطا، بينما صنعت أمهما المعكرونة، الذي كان جيدا لولا احتراق الصلصلة قليلا. وكان هناك نبيذا، أيضا.
كانت أمهما عصبية ومبتهجة، أرادت أن تقول عدة أشياء في وقت واحد. رغبت في إخبار الرجل عن الصبيان. الرجل كان يدعى ماكس، وكان في إفريقيا، فقد أراهما الكثير من الصور له في إفريقيا، منها صورة قرده الذي سأله المولدان عنه كثيرا ، كان ذكيا جدا ومغرما به كثيرا ويتعامل معه بطريقة جميلة ومرحة عندما يرغب بالحلوى. لكنه غادر إفريقيا لأنه مرض هناك وخاف من الموت على المبخرة. أحب الصبيان ماكس. وعد بأخذهما إلى السينما يوما ما. عرضا عليه كتبهما القليلة، سألهما فيما إذا كانا قد قرآ كتاب “ساتورنينو فاراندولا” وعندما أجابا بالنفي، قال لهما أنه سيعطيها لهم، بالإضافة إلى كتاب “روبنسون ديل براتيري”، لأنه كتاب جميل جدا.
وبعد الغداء، طلبت أمهما منهما الذهاب للعب في الساحة. تمنيا لو يستطيعان البقاء مع ماكس. احتجا قليلا لكن أمهما وماكس أصرا على ذهابهما، وعند عودتهما مساء إلى المنزل، لم يكن ماكس هناك. كانت والدتهما تعد العشاء، وهو عبارة عن الحليب وسلطة البطاطا. كانا سعيدين، ويرغبان في الحديث عن إفريقيا والقرد، كانا في سعادة غامرة دون معرفة السبب. وكانت أمهما أيضا سعيدة وأخبرتهما أشياء حول قرد شاهدته مرة يرقص في الشارع على أنغام الأورغن. ثم طلبت منهما الذهاب للنوم، بينما ستخرج هي قليلا، وعليهما ألا يشعرا بالخوف، فليس هناك من سبب لخوفهما. انحنت لتقبلهما وأخبرتهما أنه من غير الضروري إخبار الجد والجدة عن ماكس لأنهما لا يحبان دعوة أحد إلى المنزل.
وهكذا بقيا لوحدهما بصحبة والدتهما لعدة أيام، أكلا أشياء غير عادية لأن أمهما لم ترغب بالطبخ، لحم البقر والمربى والقهوة مع الحليب وأشياء مقلية من محل اللحوم المطبوخة. ثم استحموا سوية. لكن شعر الولدان بالراحة لدى عودة الجدان، فخزانة الملابس كانت تتراكم على طاولة غرفة الجلوس مثل العادة، بالإضافة إلى الزجاج. وعادت الجدة للجلوس في كرسيها الهزاز، بجسدها الطري ورائحتها. لم تكن الجدة تتذمر، من الجميل أن يكون لديك شخص يجلس ولا يتذمر طوال الوقت.
لم يخبر الولدان الجدة حول ماكس. انتظرا كتاب ساتورنينو فاراندولا وانتظرا ماكس لاصطحابهما إلى السينما وأن يجلب لهما المزيد من صور القرد. وسألا مرة أو مرتين أمهما عن الوقت الذي سيذهبان فيه إلى السينما مع السنيور ماكس. لكن أمهما أجابت بخشونة أن ماكس قد غادر الآن. سألها الولد الصغير فيما إذا كان سافر إلى أفريقيا. لكنها لم تجب. لكنه ظن بأنه سافر إلى أفريقيا ليأتي بالقرد. تصور بأن يوما ما سيأتي إلى المدرسة مصطحبا خادما أسود يحمل قردا بين يديه.
بدأت المدرسة من جديد وجاءت العمة كليمنتينا للبقاء معهم لفترة، جلبت معها حقيبة من الأجاص والتفاح التي وضعوها في الفرن لطبخها مع السكر. كانت والدتهما بمزاج سيء جدا وتتقاتل باستمرار مع الجد. عادت إلى المنزل متأخرة وبقيت مستيقظة وهي تدخن. أصبحت نحيلة جدا ولا تأكل شيئا. وبات وجهها أصغر وأكثر اصفرارا، وهي تضع الآن الأسود على رموشها أيضا، اندفعت إلى صندوق صغير والتقطت اللون الأسود الذي وضعته بمساعدة فرشاة، ثم وضعت كميات كبيرة من البودرة، التي حاول الجد تخفيفها بمنديل لكنها أدارت وجهها بعيدا.
كانت تتكلم بصعوبة وعندما تقوم بذلك كان يبدو عليها وكأنها تبذل جهدا، فقد كان صوتها ضعيفا جدا. وفي أحد الأيام، عادت إلى المنزل بعد الظهر حوالي الساعة السادسة، كان ذلك أمرا غريبا، فهي عادة تعود في وقت متأخر جدا عن ذلك، قفلت على نفسها في غرفة النوم. جاء الولد الصغير وطرق الباب لأنه كان بحاجة إلى كتاب التدريبات. ردت والدتهما من الداخل بغضب بأنها تريد النوم وعليهما أن يدعاها بسلام. لكن الصبي أوضح بخوف أنه بحاجة إلى كتاب التدريبات، فقامت لتفتح الباب وكان وجهها مبللا بكامله، أدرك الصبيان بأنها كانت تبكي، عادا إلى الجدة وقالا “ماما تبكي”، فأخذت الجدة تتحدث مطولا وبهدوء مع العمة كليمنتينا. كانتا تتحدثان عن أمهما بشكل لا يمكنك تمييز ما تتحدثان عنه.
وفي إحدى الليالي، لم تعد أمهما إلى المنزل. ظل الجد منتظرا قدومها بقدمين حافيتين ومرتديا معطفه فوق البيجاما. جاءت الجدة أيضا، ونام الطفلان نوما قلقا، فقد كانا يسمعان خطوات الجد والجدة في المنزل، وهما يفتحان ويغلقان النوافذ. كان الولدان خائفين جدا. وفي الصباح، اتصل قسم الشرطة ليخبرهما بأن والدتهما وجدت ميتة في أحد الفنادق. تناولت سما، وتركت رسالة. ذهب الجد والعمة كليمنتينا. صرخت الجدة، وتم إرسال الولدان إلى سيدة عجوز في الجوار التي كانت تردد باستمرار “كيف طاوعها قلبها القاسي بترك هذين الولدين”.
جلبوا والدتهما إلى المنزل. ذهب الولدان لرؤيتها بعد أن وضعوها على السرير، ألبستها ديوميرا حذائها الجلدي المفتوح والفستان الحريري الأحمر الذي كانت تحتفظ به من أيام زواجها: كانت صغيرة، مثل لعبة صغيرة ميتة.
كان من الغريب رؤية الزهور والشموع في نفس الغرفة القديمة. كانت ديوميرا والعمة كليمنتينا والجدة تركعن وتصلين. كن يرددن بأنها تناولت السم عن طريق الخطأ، وذلك حتى يأتي القس ويباركها، وإلا لن يفعل إذا علم بأنها قامت بذلك عن قصد. أخبرت ديوميرا الولدين بأن عليهما أن يقبلا خديها الباردين الواحد تلو الآخر. ثم كانت الجنازة التي بدت وكأنها استغرقت دهورا. فقد مرت في قلب البلدة بحيث شعر الولدان بالتعب الشديد. وكان السيد فيجلياني هناك أيضا مع عدد كبير من طلاب المدرسة ومن نادي الشباب.
كان الجو باردا وعاصفا في المقبرة. وعندما عادوا ثانية إلى المنزل، بدأت الجدة بالبكاء والزعيق على مشهد الدراجة في الممر، لأن الأمر بدا وكأنها رأتها فعلا تندفع بعيدا بجسدها الحر ووشاحها المتطاير في الريح. قال السيد فيجلياني بأنها الآن في الجنة، ربما لأنه لم يعلم بأنها تقصدت قتل نفسها، أو أنه كان يعلم لكنه تظاهر بعكس ذلك. لكن الولدين لم يكونا فعلا يعلمان فيما إذا كانت الجنة موجودة أم لا، لأن الجدة نفت ذلك، بينما أكد الجد الأمر، وقالت لهما والدتهما مرة بأن الجنة غير موجودة، كما لا يوجد ملائكة صغار ولا موسيقى جميلة، لكن الموتى يذهبون إلى مكان يكونون فيه بصحة جيدة بعيدا عن المرض. مكان تتمناه فقط لترتاح وتكون في سلام كامل.
ذهب الولدان إلى البلدة التي تقيم فيها العمة كليمنتينا لفترة. كان الجميع لطيفون معهما، قبلوهما، ولاطفوهما بمعانقتهما، فشعرا بالخجل الشديد من ذلك. لم يتحدثا عن والدتهما أو السيد ماكس. وقد وجدا في علية العمة كليمنتينا كتاب ساتورنينو فاراندولا فقرآه مرة تلو الأخرى لكثرة ما وجداه ممتعا. لكن الولد الكبير كان غالبا ما يفكر بأمه، كما رآها في ذلك اليوم في القهوة بصحبة ماكس، ماسكا يديها ووجهها مرتاح وسعيد. ظن بعدها بأن أمه تناولت السم لأن ماكس عاد إلى أفريقيا.
لعب الولدان مع كلب العمة كليمنتينا المدعو بوبي، وتعلما تسلق الشجر، الشيء الذي لم يقدرا عليه سابقا. ذهبا للاستحمام في النهر، أيضا، وكان من الجميل العودة إلى منزل العمة كليمنتينا مساء وحل الكلمات المتقاطعة معا. كان الولدان سعيدان جدا عند العمة. ثم عادا إلى الجدة وهما في قمة السعادة. جلست الجدة في الكرسي الهزاز، وأخذت تنظف أذنيها بدبوس شعرها.
وذهبوا يوم الجمعة إلى المقبرة، وجاءت معهم ديوميرا أيضا، اشتروا زهورا. وعندما كانوا في المقبرة، عند القبر، أخذت الجدة تصلي وتبكي، لكن كان من الصعوبة التفكير بأن القبر أو الصلبان أو المقبرة يمكنها فعل شيء لأمهما، التي غشها اللحام واندفعت على دراجتها، ودخنت، وانعطفت بشكل خاطئ، ونشجت ليلا. كان السرير كبيرا عليهما الآن وكان هناك وسادة لكل منهما.
لم يكونا يفكران كثيرا بوالدتهما لأن ذلك كان يؤلمهما قليلا ويشعرهما بالخجل. حاولا أحيانا تذكر شكلها، كل على حدة، وبصمت. ووجدا من الصعوبة تجميع صورتها بشعرها القصير المجعد والسمكتين على جبهتها وشفتاها. كانت تضع الكثير من البودرة الصفراء، هذا ما تذكراه تماما، وشيئا فشيئا كانت هناك بقعة صفراء. كان من المستحيل تشكيل خديها ووجهها. بالإضافة إلى أنهما أدركا أنهما لم يكونا يحبانها كثيرا، وربما هي لم تحبهما أيضا كثيرا. فلو أحبتهما لما تناولت السم، هذا ما سمعا ديوميرا والبواب والسيدة التي في الجوار وناس كثر آخرون يقولونه. مرت السنوات وكبر الولدان وحدثت أمور كثيرة واختفى للأبد ذلك الوجه الذي لم يحباه كثيرا.
قصة إيطالية للكاتبة: نتاليا جنزبرغ