Search
Close this search box.

دوريس ليسينغ … بطلة من أنصار النزعة النسوية

دوريس ليسينغ … بطلة من أنصار النزعة النسوية

إعداد: جمانة علي

“انتظرت نوبل ثلاثين عاما”، هذا أول ما صرحت به الروائية البريطانية دوريس ليسينغ عندما سمعت بخبر فوزها بجائزة نوبل للآداب، بينما كانت تتسوق الخضار من متجر قريب من منزلها. ولم تكن دوريس هي الوحيدة التي شعرت بالمفاجأة، بل معظم الأوساط الأدبية، فصاحبتها بلغت السابعة والثمانين من عمرها وابتعد اسمها كثيرا عن الحضور في العقد الأخير، بعد أن فرضت نفسها بقوة في التسعينات من القرن الماضي وظهر اسمها كأكثر مرشحة لجائزة نوبل للآداب.

 قابلت دوريس ليسنغ شيوعيا بريطانيا من الطراز القديم منذ وقت ليس ببعيد، وكان من النوعية التي هاجمتها بلا رحمة في روايتها الأخيرة “الحلم الألذ”. وليسنغ متحاورة بسيطة متمكنة، كانت تنتظر قطارا في المحطة حينما بدأت حوارا مع مسافر بدا أنه صديقها لو أمعنا النظر. وليسنغ على دراية تامة بكل أنماط شيوعيي الستينيات حيث كانت واحدة منهم.

قالت عنه ليسنغ “كان كأنه لم يتغير. فلديه الأفكار نفسها، والمفردات نفسها. وجرؤت أن أقترح عليه أن الأمور قد تغيرت ولو قليلا، فالاتحاد السوفييتي قد تهشم إلى شذرات مفككة. لكنه رد قائلا “بالطبع كان ستالين رجلا عظيما، وسوف يأتي زمانه مرة أخرى”.

وما تزال ليسنغ في السابعة والثمانين قادرة على إثارة الاهتمام بالسياسة حتى وهي تنتظر داخل محطة قطار، كما كانت وهي في الأربعين من عمرها حينما نشرت روايتها “الكراسة الذهبية”، التي أسست لها مكانة أكثر أهمية بين أصوات جيلها كله في مجال الرواية.

ليسنغ شديدة الفضول، تعمد إلى التحليل وتصوير الشخصيات بإمعان على الدوام، وما تزال تطبع كتابا جديدا كل عام أو عامين على الأكثر، حيث تستخدم كتاباتها لتمحيص الأسئلة الفكرية والسياسية والاجتماعية الكبرى في العالم حتى اليوم.

عملها الجديد الأخير “الحلم الألذ”، ضمن أعمال كثيرة أنتجتها اشتملت على أكثر من ثلاثين كتابا في مجال الرواية والنقد ومجلدين من السيرة الذاتية. أولهما “تحت جلدي” الذي تحكي فيه عن ميلادها في فارس، ثم طفولتها في جنوبي روديسيا وبعدها عن عملها كسكرتيرة وربة بيت هناك.

وينتهي المجلد الأول عام 1949، عندما غادرت وخلفت وراءها اثنين من أبنائها الثلاثة الأكبر عمرا، فرت من قيود زواج رديء وحياة سخيفة في إفريقيا لتنتقل إلى لندن، دون مال تقريبا لكن كانت تحدوها رغبة حارقة في صنع مكانة لنفسها تليق بها وبما تأمل في كتابته.

أما المجلد الثاني من سيرتها الذاتية فكان بعنوان “السير بين الظلال”، وتصف فيه سنواتها التي عملت فيها كاتبة قليلة الخبرة، نشرت خلالها روايتها الأهم “الكراسة الذهبية” عام 1962.

 رواية تستكمل السيرة

تروي روايتها الأخيرة “الحلم الألذ” حكاية فرانسيس، الزوجة السابقة لشيوعي بريطاني أخرق وعميدة بيت كبير يمتلئ بعدد لا حصر له من المراهقين الذين يسعون لإيجاد موضع قدم لهم في الحياة، وهي شخصية نجد توازيات كثيرة لها مع حياة ليسنغ نفسها. لكنها ألمحت بوضوح فيما بعد أنها كتبت هذا الكتاب كرواية بدلا من أن يصبح المجلد الثالث من سيرتها الذاتية.

تقول ليسنغ ردا على الكثير من الاستفسارات فيما يخص روايتها “الحلم الألذ”: “سيقول الناس: لماذا لم تكتبي الكتاب على أنه استكمال لسيرتك الذاتية؟ لكنني أرد: كما ترون، لا أستطيع ذلك أبدا. فهناك ناس فيها يعتبرون من أصدقائي الحميمين الذين كانوا من حولي في فترة المراهقة، وكان الأمر سيصبح مفزعا لو كتبته على شكل السيرة التقريرية”.

تعيش ليسنغ الآن في منزل مريح مبني بالقرميد البني وسط منطقة مشجرة غربي لندن. وهي تعترف بأنها قد تباطأت إلى حد ما في السنين القليلة الماضية، وقد حددت ساعات كتابتها اليومية إلى حوالي ثلاث ساعات. تقول ليسنغ “اعتدت على بذل هذه الطاقة الهائلة كل يوم، لكنني اليوم لم أعد أتحمل كثيرا”.

وتضيف في حوار لها نشر مؤخرا في صحيفة الهيرالد تربيون “لكن عقلي ما زال بأهليته الكاملة. إنه بدني فقط الذي لم يعد يسعفني. ومن المفترض أن بدني كانت له نزوات وصولات، لكن يبدو أن ذلك كله قد راح الآن”.

كتبت ليسنغ روايتها “الحلم الألذ” بطريقة تحليلية لفترة الستينيات في لندن، حيث كان الوقت عصيبا والأحلام متمردة والإمكانات بلا نهاية. ويشير الحلم في العنوان إلى الشيوعية، وهي النموذج الدون كيخوتي الذي كانت تدور ليسنغ ورفاقها من حوله في ذلك الوقت.

والشخصية الرئيسية في الرواية هي الرفيق المضحك جوني، زوج فرانسيس السابق، الذي تدور من حوله الأحداث. كان جوني شخصا مثاليا نبيلا ومفكرا ساحرا لديه أفكار باهرة، ومؤمنا مقنعا باليوتوبيا الشيوعية، لكن في الوقت نفسه كان أبا غائبا وزوجا رديئا شاردا ومنافقا بشكل عام يزدري المال على سبيل أنه عاطفة بورجوازية لكنه لا يتورع عن إنفاق أموال الآخرين.

تقول ليسنغ “كان الأمر فوق العادي، لو نظرنا إلى الوراء. عموما، لم تكن لدينا المعلومات الكاملة أو حتى الكافية. لكن لم يكن هناك فيما بيننا أي تحيز عرقي ولا جنسي. كنا نقول لأنفسنا: حتما ستكون السلطة بأيدينا على حد أقصى خلال خمسة عشر عاما. سنكون كلنا أحرارا وستتلاشى الدولة بالتأكيد. آه، كنا نؤمن بكل هذه القمامة”.

 خطأ أنصار النسوية

وتؤكد ليسنغ “كان الناس مفتونين كثيرا بهذه الفظاعة فترة الستينيات. وقد قضيت أحلى أيام حياتي في تلك الفترة. بالنسبة لبعضنا كان ذلك صحيحا، لكن كان هناك قدر بغيض من المصادفات والحوادث العرضية. وكل من لم ينسجم مع الحياة لا ينسى على الإطلاق”.

ومثل معظم روايات ليسنغ، نرى أن “الحلم الألذ” تنحو إلى منظومة مذهلة من المواضيع. ويقع قسم كبير من الرواية في “زيمليا” (وهي بلد إفريقي متخيل، ربما تتكون مقاطعه اللفظية من زامبيا وزيمبابوي، وهو ما يسمح للروائية أن تقوم بفحص الكفاح الإفريقي فترة ما بعد الكولونيالية، وهي التيمة التي لا تمل الكتابة عنها.

أما سيلفيا، واحدة من الشابات التي تؤويها فرانسيس، فتسافر هناك لتأسيس عيادة في تجمع فقير مستذَلّ حيث يشحذ الأطفال الكتب ويموت السكان فيه من مرض غريب. وتسخر الرواية أيضا من صحفيي الجرائد الصفراء (التابلويد)، ومن الذين يعملون خصوصا في جريدة اليسار الجادة المرموقة “ديفيندر” (المدافع)، التي تعتبر نسخة عن جريدة “الجارديان” البريطانية.

تمتلئ جريدة “ديفيندر” بنساء يقضين وقتهن في “حكاية نوادر صغيرة عن رجل صالح أو آخر طالح”، ويراقبن “الدليل على الفكر السقيم”. ومنذ نشرها رواية “الكراسة الذهبية”، تعتبر ليسنغ بطلة من أنصار النزعة النسوية. لكنها تنأى بنفسها عن أن تكون من نوعية نساء جريدة “ديفيندر”.

تقول ليسنغ عن وجهة نظرها فيما يخص النزعة النسوية “نموذجي السابق وأنا فتاة صغيرة، امرأة كانت تقول لنا: (لا تضيعن أوقاتكن في الشكوى من الرجال. اخرجن ونلن بأنفسكن فرصا مساوية وأجورا مساوية استحقاقا عن عمل مساو ورعاية طفولة مساوية، وعندئذ تتساوين مع الرجال ببساطة). وللأسف لا تعمد أنصار النزعة النسوية إلى مثل هذا الهدف، ففيه كدح رهيب. إنه يعني الكتابة للصحف، وتكوين اللجان ومحاولة الوصول إلى البرلمان. فلن نتمكن من تغيير الأشياء ونحن نقف نصرخ من حولنا عن الرجال. وفي هذا نوع من التساهل الذاتي”.

درست ليسنغ سبعة أعوام “التصوف العربي” بحس من العقيدة التي اشتمل عليها القرن السابع، وهي المعنية بترابط المصائر فيما بين الفرد والمجتمع، لكنها عاشت حياة غير موفقة على أقل تقدير. وما تزال تتذكر ذلك الزمن الذي تركت فيه زوجها الثاني خلفها مع اثنين من أولادها الثلاثة في جنوبي روديسيا (زيمبابوي الآن)، كأكثر فعل منحرف وأكثر فعل تحرري في حياتها كلها.

تقول “عليّ أن أرحل. لأن حياتي أصبحت أشد ضيقا، وكنت أمني نفسي بمستقبل أفضل. ولم يكن عندي أدنى شك في ذلك، لكنني أدمنت الكحول فترة وأصابني الانهيار العصبي أكثر من مرة”. وتضيف “كنت أعمل بشدة على ألا أشعر بالذنب على الإطلاق، لكن كنت أكسب القليل من المال في تلك الفترة لدرجة لم تكن تمكنني من إعالة أطفالي الثلاثة. لقد كان هذا أسوأ شيء في حياتي لكنه كان أفضل شيء في حياتي أيضا على ما يبدو”.

وقد حسنت علاقاتها مع طفليها اللذين خلفتهما وراءها، رغم أنها كانت تتوقع أنهما لن يغفرا لها أبدا. توفي أحد الولدين، لكنها الآن قريبة من ابنها الآخر ومن بنتها وحفيدتيها.

تنتهي رواية “الحلم الألذ” برسالة عن التفاؤل السحري، حيث تؤكد ليسنغ أنها رغم كل ما عاشته ورأته طيلة حياتها فهي تعتبر نفسها في صف المتفائلين طيبي القلب. تقول ليسنغ “لا تهمني مسألة الكبر في السن. فهي أمر شيق على كل حال. لقد كنت دائما في حياتي مشغولة، لذلك لم يكن لديّ الوقت لأستمتع بالحياة. وأنا أراها الآن شيئا مذهلا وفوق العادي. أصبح كل شيء في الحياة يفتنني، كل شيء حقا”.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »